ÇáÃÞÈÇØ ãÊÍÏæä
طباعة الصفحة

خانة الديانة أم خانة اليك !

| 2016-08-07 19:43:17

 كان خطيبًا في  الثورة المصرية الشعبية عام  1919 ،  مناضلا من مناضلي الحركة الوطنية ، بدأ حياته صحفيًا و بلغت مقالاته ما يزيد عن خمسة آلاف مقال سياسي  ، عمل محررًا في جريدتي المؤيد و الأهرام و شغل منصب رئيس تحرير مجلة المصور عام 1926 و انُتخب نقيبًا للصحفيين عام 1944 ، اقتحم  ُمعترك الحياة السياسية و حصل على عضوية البرلمان عدة دورات كان أولها عام 1923 و هو في السابعة و العشرين  من عمره .

خاض معركة ضروسًا تحت قبة البرلمان في ثلاثينيات  القرن الماضي حين طالب بإلغاء خانة الديانة من جميع المعاملات و الأوراق و الوثائق المصرية و قال كلمته الشهيرة " ألا تكفي مصريتنا؟  فمصر قبل الأديان، فالدين لله والوطن للجميع"، إنه محمد فكري حسين أباظة الشهير بـ فكري باشا أباظة ( 896- 1979 1 ) عضو البرلمان المصري و نقيب الصحفيين الأسبق .
 
وهذا إن دل على شيء، فهو يدل على أن تجربة النصف الأول من القرن العشرين لم تكن ليبرالية علمانية  خالصة كما يشيع البعض، بل كانت هناك معارك دائرة بالفعل وتناحرات  بين دعاة الدولة المدنية والدينية، فالدولة المدنية لا  تصدر بطاقات ُتدون فيها عقائد مواطنيها .
 
وتعالت الأصوات مجددًا في 2016 بمشروع  قانون إلغاء خانة الديانة من البطاقة، وفي حقيقة الأمر فقد سبق هذا المشروع بعض المحاولات قبل عدة سنوات، نذكر منها تَقدُم  المحامي ممدوح نخلة عام 1997 بدعوى قضائية أمام محكمة القضاء الإداري يطالب فيها بإلغاء خانة الديانة من البطاقة، وتم رفض الدعوى عام 2006، كذلك  أثيرت قضية حق البهائيين في تدوين دياناتهم في البطاقة الشخصية واستطاعوا أن يحصلوا على أمر قضائي في مارس 2009  منحهم  حق وضع " َشرطة " في خانة الديانة، وهذا لأن البهائية ليست من الأديان المعترف بها دستوريًا، فليس مسموح إلا بتدوين الديانات الإبراهيمية في البطاقة الشخصية، وُيعد هذا تناقضا مع الدستور سواء دستور ما قبل 2011 أو دستور 2014 والذي ينص على حرية العقيدة،  فجعل  تلك الحرية مقيدة ، فأصبحت الحرية المطلقة مشروطة  لاقترانها  بالديانات الإبراهيمية فحسب  (الإسلام والمسيحية واليهودية)، لربما كان هذا  انتصارًا  للبهائيين لكنه كان انتصارًا وهزيمة في آن واحد. هو انتصار لأنهم لم  ُيجبروا على تدوين ديانة لا تخصهم  في بطاقة الهوية،  وُيعد  هزيمة لأن  "الَشرطة" في خانة الديانة  أصبحت علامة تمييز ضدهم . 
 
حملات جماهيرية لإلغاء  الديانة من البطاقة في مصر 
 
 لا يمكن أن نغفل كذلك أنه تم  إطلاق  بعض الحملات  الجماهيرية على الأرض كذلك،  وقد شاركتُ في تظاهرتين لإلغاء خانة الديانة من البطاقة أولهما أمام المحكمة الدستورية  بالقاهرة والثانية أمام مكتبة الاسكندرية وتم تنظيم التظاهرتين  في 2013 قبل عزل جماعة الإخوان المسلمين عن حكم مصر، وعادة كانت تنتهي هذه الحملات بمحاولات اعتداء  من المارة (المواطنين الشرفاء) على المتظاهرين أو هكذا كان يبدو الأمر!
 
  لم تكن هذه الحملات نخبوية، فكثير ممن شاركوا فيها كانوا من عامة الشعب المصري،  لا هم سياسيون ولا  هم صحفيون، تماما  مثل محمد نعيم الدمنهوري الفلاح المصري الشاب الذي يقطن في قرية صغيرة في كفر الشيخ والذي تحدث  إليَّ عن هذا التميز الصارخ، لا بلغة النخبة وإنما بلكنة الريف المصري وقد احتفظت بصورته (المنشورة أدناه) وهو يحمل بطاقته التي َسوَّد فيها "خانة الديانة" مثله كمثل بقية المشاركين في تلك التظاهرة أمام مكتبة الاسكندرية في ابريل 2013.   لأن أبعاد تلك الصورة  كسرت كثيرًا  من أفكارنا النمطية بأن المطالبين بالغاء خانة الديانة من البطاقة ينتمون  إلى  النخبة التي لا تعرف شيئًا عن المجتمع، حطمت هذه اللقطة نمطية أفكارنا  حتى وإن كان نعيم الدمنهوري من بين  الحالات النادرة التي لا تدل على السواد الأعظم من الشعب (على الأقل)  في الوقت الراهن، وكانت هذه التحركات ما هي إلا نواة تعبر عن صحوة تجتاح مصر والبلدان العربية حتى وإن كانت في نطاقات ضيقة حسب اعتقادنا، و ُخيل إليًّ حينها أن ثمة أمور تتغير  في الذهنية المصرية .
 
التجربة الأردنية مع البطاقة الذكية !
 
انهمرت وسائل التواصل الاجتماعي بأخبار إلغاء خانة الديانة من البطاقات الشخصية في الأردن  و لعل قراءة الخبر كانت  هامشية لأن إلغاء التوصيف الديني  لا يعني بالضرورة إلغاء كافة القوانين التي تستند إلى ديانة المواطن مثل الأحوال الشخصية مثلا ، و تمعنًا في قراءة الخبر سنجد أن خانة الديانة لم ُتلغى و إنما أصبحت غير مرئية فأسموها البطاقة الذكية لأنها ُتخفي ديانة المواطن ، فهذه البطاقات الشخصية مزودة بشريحة  مدون بها ديانة المواطن إلا أنها "ممغنطة " أي ليست من المعلومات الظاهرة للعين المرئية ، و قد أثارت البطاقة الذكية جدلا كبيرًا في الأردن خاصة و أن دستور البلاد ينص على أن دين الدولة هو الإسلام . إلا أن رفع خانة الديانة من بين المعلومات المرئية على  بطاقات الهوية في الأردن لا يعني بالضرورة أن تشريعاتها ستكون مدنية خالصة ، فلازالت قوانين الأحوال الشخصية و الميراث و غيرها من قوانين  تستند إلى الشريعة الإسلامية لا إلى القوانين المدنية .
 
مشروع قانون إلغاء خانة الديانة من البطاقة في مصر
 
و في خضم هذه الأحداث ، قام النائب البرلماني علاء عبد المنعم بتقديم مشروع قانون إلغاء خانة الديانة من البطاقة ، و لم يكن هذا المشروع نبتًا شيطانيا ، بل نبتًا وطنيًا ، نتيجة التغيرات الإقليمية التي شهدتها المنطقة و شهدت معها  مطالبات مماثلة في عدد من الدول العربية و كان آخرها الأردن،  و نتيجة كذلك  لتصدي  دعاة الدولة المدنية لهذا التمييز الديني الصريح في الأوراق الرسمية ، و لطالما كانت أصولية المشايخ (مشايخ الدولة و مشايخ السلفية) و كذلك أصولية الدولة نفسها ،  تقف بالمرصاد ضد دعاوى إلغاء خانة الديانة من البطاقة .
 
مشروع القانون الذي يؤيده 60 نائبًا ،  يحمل اسم ( المواطنة و منع التمييز ) و هو ُمكون من 17 مادة ، و تنص المادة الثالثة في هذا المشروع على إلغاء خانة الديانة من البطاقة على النحو التالي :
 
" تلغى خانة الديانة فى بطاقة الرقم القومى وكافة الوثائق والمستندات الرسمية ولا يجوز إجبار أى مواطن على الإفصاح عن ديانته إلا إذا كان الإفصاح ضروريا لترتيب مركز قانونى كالميراث والزواج."
 
و إن تمعنا النظر في نص هذا المقترح سنجده نصًا يميل إلى الشكلية لا إلى التغيرات الجوهرية ، فإلغاء الخانة لن يترتب عليه تشريعات مدنية في الأحوال الشخصية و قوانين الميراث إلخ إلخ ، و بالرغم من ذلك هنالك هجوم عنيف على هذا المقترح .
 
ما يلفت انتباهنا  هو استنكار  كثير من الليبراليين و العلمانيين و دعاة الدولة المدنية ( بدون تعميم ) لهذا المقترح ، و يستندون في استنكارهم أن إلغاء خانة الديانة من البطاقة لن يحل كثير من إشكاليات المواطنة و التمييز في مصر ، و معهم كل الحق ، لأنه إذا تم تمرير هذا المقترح لن ُتحل المشكلة الطائفية في مصر و لن تنتهي الاعتداءات على المسيحيين و لن يتوقف الأصوليين عن حرق الكنائس و لن ينتهي التهجير القسري   و لن يصدر قانون أحوال شخصية مدني لكل المصريين بغض النظر عن دياناتهم و لن تحصل المرأة على حقوقها إلا إذا كانت متوافقة مع النصوص الشرعية فتظل حريات مقيدة و  لن تتحسن ظروف المرأة التي تقضي سنوات حياتها في محاكم الأسرة حتى ُيحكم لها بمقتضى نص شرعي لا بمقتضى حقها الإنساني كمواطنة  و لن يتمكن البهائيين من إقامة دور عبادة لهم لأن الدولة لا تعترف بهم و لا بأحقيتهم في ممارسة شعائرهم  و  لن نقضي على الخطاب الديني الأصولي و لا على العمليات الإرهابية بمجرد إلغاء خانة الديانة من البطاقة ، هنا معهم كل الحق ، لأن إلغاء خانة الديانة لن يجعل من مصر دولة مدنية  بين ليلة و ضحاها ، بل هي  مجرد نقطة حداثة في بحر الظلمات الرجعي الذي نعيشه .
 
الأمر ما هو إلا قضاء على شكل من أشكال التمييز الديني حتى و إن كان شكليًا ، لكنه خطوة من الممكن أن نستند إليها في مزيد من المعارك في سبيل دولة مدنية حقيقية في المستقبل  ، فما لا يدرك كله لا يترك كله ، و هذا هو الفرق بين التيارات المدنية و الإسلامية ، فالتيارات الإسلامية فطنت منذ 40 عامًا بأنها تستطيع أن تبسط نفوذها بالتغيرات و المكتسبات المرحلية ، أما التيارات المدنية  ( بدون تعميم ) تنظر للمكتسبات المرحلية على أنها مجرد شكليات فارغة  .
كان على الليبراليين و العلمانييين ( كذلك بدون تعميم ) الذين أكدوا على أن إلغاء خانة الديانة من البطاقة مجرد أمر شكلي ، كان عليهم أن يتسائلوا لماذا تعرض هذا المقترح لهجوم شنيع من مجلس الدولة و شيوخ الدولة ( الأزهر ) و مجمع الأبحاث الإسلامية و حزب النور  ؟ لربما لأنه تراءى لهم أن هذا تغيير شكلي بالفعل ،  لكنه انتصار مرحلي في  ذات الوقت ، قد  ينتج عنه  تحولات مستقبلية  لصالح قوانين مدنية حتى و ان لم يكن هذا  في المستقبل العاجل .
مؤيدي الدولة المدنية الذين قللوا من شأن إلغاء خانة الديانة من البطاقة  كان عليهم   الانتباه لتصريح نائب رئيس مجلس الدولة السيد المستشار عبد الفتاح حجازى حين قال  أن إلغاء هذا التمييز ُيعد تخريبًا للدستور  !! فأي دستور و أي تخريب يتحدث عنه سيادة المستشار ؟ هل القضاء على أشكال التمييز الديني  ُيعد تخريبًا للدستور المصري ؟ هل نحن في مصر أم قندهار ؟   
 
معركة أبناء المتحولين من المسيحية  إلى الإسلام
 
قبل أن نقلل من شأن حذف خانة الديانة من البطاقة و نقول أنه مجرد أمر شكلي  ، علينا أن نأخذ نموذجا واحدًا على سبيل المثال لا الحصر و هو نموذج صارخ  لا علاقة له بدولة المواطنة .
 
يخص هذا النموذج حالات أفرادا مسيحيين كانوا دون السادسة عشر من عمرهم حين قام أحد والديهم بالتحول من المسيحية إلى الإسلام. وفي هذه الحالات تقوم مصلحة الأحوال المدنية بتغيير ديانة الأبناء ( الغير بالغين )  إلى الإسلام دون إرادتهم و أحيانًا بدون معرفتهم  ، و تعتبرهم الدولة على دين الإسلام  رغما عنهم ، و يضطرون بعد بلوغهم السن القانونية  إلى رفع قضايا قد تطول لسنوات  في المحاكم من أجل تغيير خانة الديانة  و هذا  انتهاك صريح لقيمة المواطنة ، فأي دولة ُتغير  ديانة مواطنيها إلى دين الأغلبية رغمًا عن أنوفهم ؟!
 
الخاتمة
 
لا يمكن اختزال معركة " وطن بلا تمييز " في  إلغاء خانة الديانة من البطاقة ، لأن قوانين العقوبات و نصوص الدستور مليئة بالألغام الثيوقراطية ، و  الأمر سيتطلب أكثر من مجرد إلغاء خانة الديانة
 
لربما أن إلغاء خانة الديانة من البطاقة مجرد لفتة  رمزية لكنها رمزية في غاية الاهمية و مكسب  محوري  و من الممكن الاستناد  إليها  في مطالبات تشريعية تؤسس لمدنية الدولة مستقبليًا و الطريق لازال طويلا ، حتى لا تتحول خانة الديانة إلى خانة اليك المغلقة التي نوضع فيها بلا مخرج و لا حركة .
 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع

جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com