ما كنت أتوقع لمقالة الأسبوع الماضى أن تحظى بهذا الاهتمام الواسع، لاسيما أنها كانت توطئةً ومدخلاً تمهيدياً لإعادة بناء مفهوم «الأنوثة» وتطوراته فى أذهان الناس، حتى وصل إلى حالة التشوش والتشوه الحالية، وبيان ارتباطه بمفهوم الذكورة، وصولاً إلى المفهوم العام الجامع بينهما: الإنسانية.
وقد انعكس هذا الاهتمام فى مناقشات مطولة، جرت الأيام الماضية مع عديد من القراء النابهين، ومع عدد من صفوة المفكرين المصريين «وبالأحرى القلة القليلة الباقية منهم اليوم بمصر» كان منهم د. على الغتيت، د. نوال السعداوى «طبعاً!» وقد دعانى كثير منهم لاستكمال الكلام عن هذا المفهوم المهم، الشائك، دون قطع السياق بالقصص القصيرات التى تتخلل هذه المقالات الأربعائية. ونزولاً على رغبتهم واحتراماً لرأيهم، نستكمل اليوم ما بدأناه الأسبوع الماضى من النظر فى التصورات الأولى للأنوثة، فى الأزمنة الغابرة، ببيان أن «أقدم مهنة فى التاريخ» لم تكن الدعارة حسبما يتوهم كثيرون من المعاصرين، وإنما كانت القنص والصيد! أما رضوخ النساء جسدياً للرجال فى ذاك الزمن السحيق، فهو فعل كان يتم على سبيل «المنحة» التى اقترنت لاحقاً، كما سنرى، بالمحنة.. لكن الأمر يقتضى حسم بعض النقاط العالقة، الفرعية، المتصلة بالتطور الطويل لمفهوم الأنوثة، حتى لا يزداد هذا المفهوم تشوهاً فى الأذهان، فمن تلك النقاط ما يلى:
حين نقول «الزمن السابق على الحضارة» ونقدره إجمالاً بمليون سنة، فهذا التقدير التقريبى لا يقدح فيه قول بعضهم إن حياة «الإنسان» على الأرض تمتد لأكثر من مليونى عام، وقول بعضهم الآخر إن آدم التوراتى عاش على الأرض منذ حوالى سبعة آلاف عام!.. فليس مرادنا هنا النظر فى الحفريات والبدايات الأنثروبولوجية مقارنة بالتقريرات العقائدية، إنما نقصد إلى هدف آخر، هو تطور المفهوم عبر المراحل التاريخية المختلفة، بصرف النظر عن المدة الزمنية التى استغرقتها هذه المرحلة أو تلك، فالعبرة هنا ليست بطول المدة التى عاشها الإنسان الأول فى البرارى، ثم فى الكهوف، ولكن بالتحولات الأساسية فى صورة الأنثى.
وحين نقول «زمن ما قبل الحضارات» فإن مرادنا بذلك هو الفترة الممتدة من وعى الإنسان الأول بنفسه وبالعالم من حوله، وهو ما ظهر فى رسوم الكهوف التى سكنها البشر قبل قرابة خمسين ألف سنة، فى مواطن متفرقة فى العالم: جنوب فرنسا، شمال الجزائر، إندونيسيا.. حتى الفترة الممتدة من استقرار الإنسان فى تجمعات كبيرة تمارس الزراعة، وهو ما كان قبل قرابة خمسة عشر ألف سنة، فى وادى النيل وسهول العراق الجنوبية وحواف الصين والهند.
وحين نقول: زمن القنص، زمن الصيد، زمن الرعى، زمن الزراعة.. فليس المراد من ذلك التحديد الزمنى الدقيق، مثلما هو الحال عند التأريخ للوقائع التى جرت فى الخمسة آلاف سنة الأخيرة، من خلال النقوش والكتابات المبكرة، لأن هذه الأزمنة السحيقة التى تطور فيها نشاط البشر وانتقل من القنص إلى صيد الحيوانات إلى استئناس القطعان والتحرك بها بحثاً عن الكلأ، إلى الاستقرار فى الأرض الزراعية.. هذه الأزمنة متداخلة، بمعنى أن جماعات كبيرة من البشر استقرت للزراعة فصارت لها ثقافة «ولهذا تقترب لفظتا زراعة وثقافة فى اللغات المتطورة عن اللاتينية» فى الوقت الذى كانت فيه جماعات أخرى، كبيرة، لاتزال تعيش فى حالة الرعى أو الاعتماد الأساسى على الصيد، فهذه المراحل متداخلة، وتطور البشر لم يتم على نسق واحد، وإنما اختلف باختلاف الأمكنة وليس الأزمنة، فالمصرى القديم فى الوادى، والسومريون الأوائل فى العراق، كانوا يمارسون الزراعة ويؤسسون الحضارة منذ آلاف السنين، بينما العربى فى قلب الجزيرة لايزال يمارس النشاط الأكثر بدائية: الرعى.
وأخيراً، حين نقول «بداية الحضارات» فليس المقصود هو بداية «الملوكية» فى مصر عند توحيد السلطة السياسية على يد «مينا» المشهور بموحد القطرين، فمن قبله كان هناك قطر شمالى وآخر جنوبى، ولكل منهما تاج! يعنى فى كل منهما سلطة سياسية مستقرة وتاريخ سابق طويل، غير مكتوب.. وكذلك الأمر بالنسبة إلى «سومر»، التى اخترعت الأبجدية وكتبت بالنقش المسمارى على ألواح الطين، بعد عدة آلاف من السنين كان المجتمع يعيش فيها حياة متحضرة بمقاييس هذه الأزمنة، ويمارس أنشطة متطورة ويصوغ مفاهيم عامة عن العالم.. وعن الإنسان.. وعن الأنوثة.
■ ■ ■
ظهر مفهوم «الأنوثة الواهبة» وتشكل فى أذهان البشر منذ زمن مبكر، وانعكس فى أول أثر للإنسان: رسوم الكهوف.. يعود تاريخ هذه الرسوم «يمكن للقارئ رؤية نماذج كثيرة منها على الإنترنت» إلى خمسين ألف سنة، واستمرت هذه الرسومات الأولى قرابة عشرة آلاف سنة، وهى الفترة التى سكن فيها الإنسان الكهوف واعتمد فى نشاطه الأساسى على القنص والصيد.
رسم إنسان الكهوف صور الحيوانات التى كان يسعى لاصطيادها، ورسم أيضاً صوراً متقاربة «على الرغم من تباعد أماكنها» لامرأة بدينة عظيمة الصدر والأرداف.. وهو ما يعكس رؤيته للأنوثة، ليس بوصفها موضعاً لإطفاء شهوته الجسدية، وإنما باعتبارها الفياضة بحليب الرضاعة، والواهبة للأطفال، فلن نجد فى رسوم الكهوف صوراً لامرأة لعوب يتناوب عليها الرجال، ولا صوراً تمثل العملية الجنسية! بل، لا نجد فى رسوم الكهوف المبكرة صوراً للرجال. ويقال، إن النساء آنذاك هن اللواتى رسمن هذه الرسومات المبكرة، وهذا بالطبع: كلام ذكورى بائس، لا دليل عليه علمياً.
ومن صورة الأنثى الواهبة المرسومة على جدران الكهوف، وبالمواصفات ذاتها، ظهرت فى أزمنة الاستقرار الأولى تماثيل بدائية الصنع، لامرأة بالغة البدانة، ولم تصلنا من هذه الفترة المبكرة، تماثيل للرجال!.. فما السر فى ذلك؟
■ ■ ■
حين تعقل الإنسان الأول، ما حوله، وحين اجتمع البشر وتعاونوا على الصيد، وعلى الزراعة، أدرك الرجل أن المرأة كائن فيه سحرية يريحه من شدة الاشتهاء الحسى، كمكافأة، ويتولى بالفطرة تربية الأطفال ويتبدل شكل الجسم مع الحَبَل فيتخذ هيئة الدائرة «أكمل الأشكال الهندسية» ومع الإرضاع، ثم يعود سيرته الأولى، فيسيل من باطنه كل شهر السائل المقدس الذى هو سر الحياة: الدم.. وفى زمن الاستقرار فى الأرض، كانت النساء تشارك فى الزراعة، وتعرف أفعال وخواص الأعشاب العلاجية، ولهذا، يقال إن بدايات الطب كانت على يد النساء، لأنهن العارفات بفنون التداوى.
وعلى النحو السابق، ظهر مفهوم «الأنوثة الواهبة» فى أذهان البشر، للدهشة الحادثة عند الرجال من أحوال المرأة وغموضها، ولعجز النساء عن تفسير اختلافهن عن الرجل.. وقد يقول معترض إن صفات الأنوثة والذكورة موجودة فى سائر الحيوانات، لاسيما الثديية، ومن ثم فلا داعى للدهشة من المرأة! ولهذا المعترض نقول إن الإنسان الأول فى مرحلة التأسيس الحضارى وابتداء الوعى الذاتى لم يكترث كثيراً لهذه المقارنة بين نوعه وسائر أنواع الحيوان، ولم يلحظ فى الإناث من «الثدييات» أنهن يحضن كل شهر، ولم يكن يتعامل مع أنواع الحيوانات باعتبارها مشاركة له فى صفة الثديية، وبالتالى فالمرأة عنده متفردة، ولاشك لديه فى أنها: واهبة للحياة.
ثم تطور مفهوم الأنوثة الواهبة فى فترة ابتداء الحضارات الإنسانية، إلى مفهوم أكثر تعقيداً هو الألوهة المؤنثة.. وليس من قبيل الصدفة، أن فجر الحضارات الإنسانية على اختلاف أماكنها، شهد اشتراكاً بين أهل الحضارات الأولى فى عبادة آلهة مؤنثة، وارتباطاً بين النساء والقداسة والكهانة، فكانت «الربة» هى المعبودة فى مصر القديمة باسم إيزيس، وفى العراق القديم باسم عشتار وإنانا، وفى سهول الشام والأناضول باسم الأم العظيمة، وفى اليونان باسم أرتميس وأثينا.. وفى هذه الفترة المبكرة «التأسيسية» للحضارة، كانت النساء صورة أرضية للمعبودة العلوية، والفارق بين المرأة والربة «الإلهة» هو أن الأولى تحتاج رجلاً كى تنجب، أما الإلهة فيمكنها ذلك من دون التماس مع الذكر! على النحو الذى رأيناه فى قصة إنجاب إيزيس «إست» لحورس «حور» بعد موت زوجها أوزويريس «أوزير» وفقدان عضوه الذكرى، وفى إنجاب الإلهة السومرية القديمة «ننخرساج» لأبسو وممو «الماء العذب والماء المالح» وتعامة «الأرض» حسبما ورد فى الإنوما إيليش، أسطورة الخلق السومرية البابلية.. وكلمة «أسطورة» لا تعنى أصلاً الأوهام والخرافات، وإنما: المسطور، المكتوب.
■ ■ ■
وأدت هذه التصورات الأولى إلى النظر نحو المرأة بشىء من التبجيل الذى يظهر أثره فيما لا حصر له من أمثلة، أشهرها ليلة زفاف الرجل «الزوج» إلى المرأة، حيث ترتدى العروس الثوب الأبيض، وتضع على رأسها التاج، وتجلس بوقار مقدس باعتبارها فى تلك الليلة هى الصورة الأقرب للمعبودة العليا.. ولهذا من الخزى المعاصر، أن العرائس اليوم فى بلادنا صرن يرقصن أمام الحاضرين حفل الزفاف، بعد ألوف السنين من جلسة الوقار المرتبطة بمفهوم الأنوثة المقدسة «الواهبة، المؤلهة» فإذا بالأنثى فى أيامنا الحالية تعكس التردى الذى لحق بمفهوم الأنوثة، إذ صارت قرينة الإثارة الغريزية، فقط، فإذا بالعروس تهز أردافها جهلاً وعمى عن رؤية طبيعتها البهية ليلة العرس.
وكان من الطبيعى فى الأزمنة الأولى، ومهاد الحضارات، أن تتزوج المرأة بأكثر من رجل، ولم يجد الذكور آنذاك بأساً فى هذه التقاليد الاجتماعية المعتادة، نظراً لأن المجتمعات الإنسانية الأولى كانت أمومية «ماتريركية» وليست أبوية «بطريركية».. فلما تحولت المجتمعات الإنسانية إلى ملكيات وإمبراطوريات تسعى للتوسع، تحركت مفاهيم الأنوثة رويداً وجرى ببطء تحول الوعى العام، أو تحويله، نحو تمجيد الرجل، وفى زمن النزاعات العسكرية والانقلابات، تراجعت مكانة المرأة ولم يعد من المسموح به تعدد الأزواج، وكان الملك السومرى «أورو كاجينا» الذى وصل إلى الحكم بانقلاب عسكرى، هو أول من أصدر مرسوماً يحظر زواج المرأة بأكثر من رجل، ويجعل عقوبة ذلك الإعدام.. صدر هذا المرسوم سنة 2350 قبل الميلاد.
ولم يخرج المجتمع العربى القديم عن هذا المسار، فقد ارتبط الوعى العربى المبكر من قبل ظهور الإسلام بعبادة الألوهة المؤنثة التى تجلت فى الإلهات العربيات (الربات) الكبار: اللات، العزى، مناة.. وهو ما ظهر أثره اجتماعياً فى مكانة عالية للمرأة، نرى أمثلة لها فى السيدة خديجة بنت خويلد، والسيدة هند بنت عتبة».
وللحديث بقية.
نقلا عن المصري اليوم
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com