ميشيل حنا الحاج
الموقف في سوريا الآن دخل مرحلة مفترق الطرق. فالقوات التركية ودباباتها قد وصلت مشارف مدينة عين العرب (كوباني) ، بل وقيل أنها قد دخلت مشارفها رغم مظاهرات احتجاجية من سكان المدينة. وهذا التطور الهام، يضع القضية السورية على مفترق طرق، أحدها تأكيد جدية الموقف التركي الجديد المتفاهم مع روسيا، المعادي لأميركا، الساعي لتطبيع العلاقات مع كل من مصر وسوريا كما قال رئيس وزراءتركيا علي يلدريم، اضافة الى توقفها عن معارضة بقاء الرئيس بشار الأسد في موقع القيادة خلال المرحلة الانتقالية...وثانيها احتمال دخول العلاقة التركية الأميركية، مرحلة المواجهة الجدية المباشرة وربما الدامية.
فهل تجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة الآن، للتدخل لحماية كوباني من الاجتياح التركي، كما فعلت قبل عامين، عندما رمت بكل ثقلها للحيلولة دون سيطرة الدولة الاسلامية (داعش) على مدينة كوباني ذات الأكثرية الكردية.
وقد نجحت فعلا آنئذ في احباط المساعي الداعشية التي اخترقت قواتها المدينة وسيطرت على بعض أحيائها، لكن المقاتلين الأكراد الأشاوس بقيادة امرأة كردية، عمرها 40 عاما واسمها ميساء عبدو (أخت الرجال) ، وبدعم من اغارات أميركية جوية مكثفة، وكمية من السلاح والذخيرة القتها لهم طائرات أميركية من نوع سي130 ... استطاعت كوباني الصمود، ونجح المقاتلون الأكراد في طرد الداعشيين خارج المدينة، وحالت بينهم وبين السيطرة عليها، مما اضطر مقاتلو الدولة الاسلامية في نهاية المطاف، لحزم امتعتهم والرحيل عن كوباني منذ منتصف الشهر العاشر عام 2014، مما شكل فشلا بل وهزيمة عسكرية لداعش كانت الأولى من نوعها منذ ظهورها كتنظيم قوي لا يقهر.
وكان التوتر قد بلغ ذروته آنئذ بين الولايات المتحدة وتركيا. فالرئيس التركي كان يرفض بعناد السماح لامدادات الذخيرة والمقاتلين، بالمرور عبر الأراضي التركية الى كوباني. واستمر الرئيس أردوغان في التشبث بموقفه الرافض للتعاون، رغم مكالمة هاتفية طويلة (قيل استمرت ساعة أو أكثر) بين أوباما وأردوغان جرى خلالها تبادل بعض العبارات الحادة. وعندما تشبث أردوغان بموقفه الرافض، لجأ الرئيس أوباما متحديا الى استخدام طائرات سلاح الجو الأميركي، لالقاء 22 طردا محملة بالذخائر وبالأسلحة والمواد الطبية، تسلمتها القوات الكردية المقاتلة، وأعانتها على الصمود في وجه الدولة الاسلامية، خصوصا وأن 150 عنصرا من البشمركة (كردستان العراق) قد وصولوا أيضا اليها، مرورا عبر الأراضي التركية، بعد أن وجد أردوغان نفسه مضطرا لبعض التعاون، ازاء تقييمه لمدى جدية الرئيس أوباما وتصميمه على تقديم الدعم للأكراد، رضي أردوغان بذلك أم لم يرض.
ويبدو الآن أن قفاز التحدي بات من المتوقع أن يرفع مرة أخرى من الطرفين في مواجهة كل منهما للآخر. فاذا كان التحدي الأميركي قد بلغ ذروته نتيجة رغبتها في حماية مدينة كردية واحدة، فكم ستكون حرارة هذا التحدي، وقد بلغ الأمر الآن وضع العراقيل والعصي في الدواليب، في وجه مشروع اميركي أوسع لحماية كامل المناطق الكردية في الشمال السوري، تمهيدا لنوايا أميركية معلنة تسعى لظهور اقليم كردي يتمتع بحكم ذاتي كخطوة أولى، ونوايا غير معلنة، تسعى لتشكيل نواة للمشروع الأميركي بعيد المدى، الساعي لتشكيل شرق أوسط جديد، لكن باطار جديد، يؤدي الى نشوء دولة كردية مستقلة على كامل المناطق الكردية في سوريا والعراق وتركيا وايران، باعتبارها ستكون حليفا لكل من الولايات المتحدة ولاسرائيل في آن واحد، يشكلان معا كماشة تحمي المصالح الأميركية، وتحقق الأمان والاطمئنان للدولة الاسرائيلية التي سعى مشروع الشرق الجديد باطاره القديم الى تجزئة دول المنطقة الى دويلات، بهدف حماية أمن اسرائيل، باعتباره الغاية القصوى للاستراتيجية الأميركية.
فالمشروع الأميركي الجديد يحقق كامل ما سعى مخطط الشرق الأوسط الجديد (بصيغته القديمة) الى تحقيقه، دون اثارة زوابع تتهم الولايات المتحدة بالعدوان وبتفكيك الدول، تحقيقا لمصالحها ومصالح ربيبتها اسرائيل. ففي مشروعها الجديد، هي تطرح السعي وتقديم العون لتحرير أمة (كردية) ظلت تحت نير حكم الدول الأخرى لأجيال طويلة، وبات الآن من العدل أن تساعدها الولايات المتحدة لتحقيق أمنيتها في الاستقلال، والتحرر من حكم الآخرين، والاستقرار بدولتهم الخاصة بهم. اذن هي الآن محررة لشعب وليست معتدية على شعوب أو دول، رغم أن مشروعها يقتضي انتزاع مناطق من كل من سوريا وتركيا والعراق وايران، كانت تشكل أجزاء من تلك الدول.
ومن أجل تحقيق هذا المشروع الذ ي سيطرح كمشروع انساني تحريري لشعب مقهور، قدمت العون لقوات الحماية الكردية، ومن ثم لجيش سوريا الدمقراطي الذي شكلته ودربته على مدى سنتين، وزودته بالسلاح والذخيرة بل والخبراء العسكريين أيضا، من أجل تحقيق مخططها ذاك. وتقول الولايات المتحدة أنها قد شكلته كبديل للجيش السوري الحر، بذريعة معلنة هي مقاتلة الدولة الاسلامية ازاء عجز الجيش السوري الحر الذي عولت عليه كثيرا لتنفيذ هذه المهمة، لكنه تفكك وأصابه العجز وفقدان المقدرة على تنفيذ تلك المهمة، علما أن القوات التركية تتدخل الآن في الشمال السوري (جرابلس - الراعي - كوباني) كدرع مؤازر للجيش السوري الحر الذي يشكل رأس الحربة لذاك الزحف. ومن المعلوم أن قيادة الجيش السوري الحر متواجدة في اسطنبول، تماما كما أن قيادة جيش الاسلام، قيادته أو مرجعيته في السعودية، وقيادة جبهة النصرة ، (أو جبهة الفتح باسمها الجديد) في أفغانستان. أما أين قيادة الدولة الاسلامية، فالله هو العليم، اذ قد تكون في اسرائيل، أو في واشنطن أو في الدوحة، أو في كوكب المريخ... الله أعلم.
اذن التحدي كبير الآن، والمواجهة قد تكون أكبر اذ تشبث كل من الأطراف في موقفه. ففي الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة لانشاء منطقة كردية تتمتع بحكم ذاتي في الشمال السوري، تريد تركيا تحويلها الى منطقة عازلة تحت اشرافها، (المشروع الذي طالما طرحته ورفضته الولايات المتحدة)، نتيجة لتصنيفها أكراد سوريا بأنهم متحالفين ومؤيدين لأكراد تركيا الذين تقاتلهم الآن القوات التركية، فهم بالتالي يشكلون خطرا عليها.
الصراع اذن ليس مجرد صراع على مواقع جغرافية، فهو صراع تناحري (وليس تحاوري)، بين استراتيجيتين أساسيتين غير قابلتين للتغيير أو للتعديل، تقف كل منهماعلى نقيض الأخرى، وتنذران بالمواجهة المباشرة بين تركيا وأميركا، في ظل صمت روسي ماكر يراقب ويتحفز، بعد أن ضاق ذرعا بالمماطلة الأميركية في التوصل الى تسوية سلمية للمسألة السورية، رغم كل ابتسامات جون كيري اثر كل جولة مفاوضات. اذ أدركت روسيا أخيرا أن ابتساماته، هي نيوب ليث يبتسم.
فكيف ستنتهي المواجهة بين الأطراف المتعددة المختلفة في أهدافها ونواياها: أمر قد يحتاج لبعض الوقت قبل انجلاء صورته. ولكن الانفراج قد لا يكون في مرمى عصا، رغم اللقاء الثنائي بين أوباما وأردوغان الذي عقد اليوم على هامش قمة العشرين التي افتتحت اليوم في الصين. فما رشح عنه اتفاق بين الطرفين للتعاون في تسهيل المعاناة في المناطق المحاصرة وخصوصا في حلب، والأرجح ألا يكون هناك اتفاق أشمل وأوسع، ازاء عناد أردوغان وخصومته مع الأميركيين التي ازدادت اشتعالا بعد الانقلاب التركي الفاشل، ورفض الولايات المتحدة تسليم أردوغان، غريمه وحليفه القديم الذي أكل معه عيش وملح، ويسعى الآن لتعليقه على حبل المشنقة.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com