ÇáÃÞÈÇØ ãÊÍÏæä
طباعة الصفحة

المخ (الدماغ)، الوعي، الروحانية -قشرة المخ

راندا الحمامصى | 2010-12-20 09:43:21

بقلم : راندا الحمامصي 
 
"Cortex"2-2

لم يظهر مخّ الثدييات في شكله الحالي إلا قبل حوالي خمسين مليون سنة، ومنذ ذلك الحين ونموّ مخّ الثدييات وتطوّره يستحقان الإهتمام. ومع ذلك فإن هذا
التطور الجدير بالملاحظة لا يُقارَن بتطور مخ الإنسان في غضون المائتين وخمسين ألف سنة الماضية. ذلك لأنه تطورٌ فريد خاص بالمخ البشري "Homo sapiens". والحقائق التالية لها أهميتها الخاصة. فقد كتب رستاك:

"... إن ما وصل إليه المخ من حجم في معظم الثدييات قد حصل في باكورة التطور وظل على حاله حتى الآن. أما مخ الإنسان فكان على العكس من ذلك إذ مرّ بطفرة هائلة في المائتين وخمسين ألف سنة الماضية. وحتى الدلافين التي تشاركنا في نسبة حجم المخّ إلى الجسم فإنها تملك مِخاخاً لم تتطور كثيراً في العشرين مليون سنة الماضية. والحقيقة تقول بأن دلافين اليوم تقارب دلافين السلف قبل ملايين السنين في ذكائها."
ويمضي رستاك ليضع بعض الأسئلة المحددة المُفحِمة: لماذا تطوّر مخّ الإنسان بهذه السرعة في مدة قصيرة من الوقت؟ ماذا كان الحافز لذلك النموّ؟ وكيف تلاءم مع تطور الأشياء؟ ثم يُبدي ملاحظته بأن "النمو المطّرد لمخّ الإنسان في المائتين وخمسين ألف سنة الماضية كان فريداً في تاريخ التطور"، ويضيف قوله: "وحتى في هذا اليوم فإننا نفتقر إلى تفسير مقنع لما حدث."
فأي تفسير من هذه التفاسير يمكن أن يكون مقبولاً من وجهة نظر السيكولوجية الروحانية؟ إن حقيقة تطور المخّ، بحيث فاق احتياجات إنسان ما قبل التاريخ بكثير، يعدّ طفرة فريدة من نوعها في تاريخ التطور. ذلك لأن نظرية التطور تقول بأن التطور يحدث من خلال عملية الإصطفاء الطبيعي ويأتي بالتدريج خطوة خطوة. فالكائن الحي ينمو ويتطور بغريزة البقاء وحتمية النموّ فيحصل بذلك على فُرَص التفوق على غيره لبقائه وتطوره. أما عند الإنسان فلا يحدث الأمر هكذا بل بالعكس، فإن الجنس البشري مزوّدٌ بعضوٍ (المخ) منذ مائتين وخمسين ألف سنة، والذي ما زلنا لم نتعلم كيف نستخدمه كاملاً. إنه أمر فريد بالنسبة للإنسان ويُظهِر واضحاً أن تطور الجنس البشري لم يحدث من خلال الإصطفاء الطبيعي. هذه الحقيقة الهامة كانت حقاً معلومة لدى آباء نظرية التطور: تشارلز داروين و أ. ر. والاس "A. R. Wallace". فقد كتب والاس إلى داروين عام 1869: "لا يمكن للإصطفاء الطبيعي إلا أنه قد أعطى الإنسان الهمجي "savage" مخاً أرفع بقليل من مخ القرد، بينما ذلك الإنسان الهمجي يمتلك مخاً أقل بقليل عن الإنسان متوسط الذكاء في مجتمعنا المثقف." فأجابه داروين: "آمل ألا تكون قد قتلت تماماً طفلي وطفلك." ويشير داروين في ذلك إلى نظريتيهما في التطور التي تستنتج أن النوع الإنساني قد ظهر بالتدريج من نوع القردة. فالتطور الفريد لمخ الإنسان كان ولا يزال يضعنا في حيرة ٍ كوننا لا ندرك حقيقة ما يحدث للمخ في تطوره هذا. 
وفي سعيه نحو الجواب أرسل رستاك هذا التساؤل إلى إدوارد ولسون. وفيما يلي جزء من الرد كما أورده رستاك في تقريره:
يبقى ضمن الإحتمال بأن المخ، وقد أصبح على ما هو عليه من حجم وتعقيد، قد فقدَ علاقته بباكورة نظام تطوره الجنيني "genetic". بمعنى أن تأثير الثقافة أصبح غالباً ومهيمناً على الإعتبارات البيولوجية في حدّ ذاتها... 
إنه تعليل له دلالته الهامة ولكنه يبقى غير كافٍ. فإما أن تنطبق نظرية الإصطفاء الطبيعي على مخ الإنسان أو لا تنطبق. فنظرية الإصطفاء الطبيعي، من وجهة نظر السيكولوجية الروحانية، يمكن أن تنطبق على التطور البيولوجي للإنسان، أما تطوره الروحاني وما يتعلق بتطور مخه فإننا بحاجة إلى مزيد من تفسير أكثر شمولية.
أقرّ ولسون بأن "لا أحد بالطبع يستطيع أن يضع تفسيراً للمخ بكل بساطة طبقاً لقاعدة التطور، ولا يعتمد ذلك كلياً، في الوقت نفسه، على البيئة والمحيط الثقافي فقط." وقد نتساءل هنا كيف يمكن أن يكون عليه التفسير المحتمل للتطور الإستثنائي لمخ الإنسان بعيداً عن التأثيرات البيولوجية والثقافية!
من المفيد أن نتذكر في هذا السياق أن جنين الإنسان يمرّ في أشهُره التسعة داخل الرحم بمراحل شبيهة بتلك التي يمر بها الجنس البشري في ملايين السنين من عُمُرِ تطوُّرِه داخل رحم هذا الكوكب. وبالأسلوب نفسه، فإن الجنين في شهره الثالث يتطوّر لديه مخٌّ كبير ومعقّد ليس لاستمرار حياته داخل الرحم بل بالأحرى استعداداً للوعي الهائل الذي يتزايد بعد الولادة في هذا العالم؛ وبالمثل قد يكون من الجائز أن إنسان ما قبل التاريخ قد طوّر لديه عقله الإستثنائي مسبقاً استعداداً لبزوغ عهد التقدم الهائل للوعي الإنساني المرتقب. يمكن لنا أن نفترض أن أسلافنا الشبيهين بالحيوان، قبل مائتين وخمسين ألف سنة، قد بدأوا في تطوير مخّهم المميَّز حقاً في مسيرتهم ليصبحوا مخلوقات شبيهة بالإنسان.
أما العالِم الشهير جوناس سالْك "Jonas Salk"، مكتشف المصل الواقي من شلل الأطفال، فإنه يقدم ملاحظة مماثلة عن العلاقة بين عملية التطور وحياة الجنين في الرحم فيقول:
... نلاحظ خلال فترة الحمل البالغة تسعة أشهر تطور الكائن الفرد من خلية واحدة إلى خلايا متعددة، والجنين في تطوره يتخذ أشكالاً عدة متغيرة شبيهة بأحوال الإنسانية في تطورها منذ أن كنا تراباً كونياً إلى أن أصبحنا كائنات من خلية واحدة في مياه البحار البدائية ثم بعد وقت من ذوات القوائم الأربعة ثم زواحف تعيش على اليابسة إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه من مخ كبير نمشي على ساقين ومن ذوات الثدييات. ولهذا فإن البشرية تبدو أنها تمثّل ذلك الكمّ الهائل الكامل من التجربة منذ بداية الكون. 
فالجانب الهام والمميَّز للحياة داخل الرحم هو نموُّ وتطورُ مخٍ كبير ومعقد، الأمر الذي يدعونا إلى الإفتراض بأنه تمّ استعداداً للتجاوب مع الوعي الإنساني الهائل المتزايد في هذه الحياة. وبالمثْل فإن إنسان ما قبل التاريخ يمكن أن يكون قد طوّر لديه مخّه الإستثنائي استعداداً لفجر عهدٍ مُفْتَرَضٍ من تقدُّمٍ هائل في الوعي الإنساني.
وكا أرى، فإن أسلافنا الشبيهين بالحيوان قبل مائتين وخمسين ألف سنة، قد بدأوا في واقع الأمر بتطوير مِخاخٍ مميزة وهم في طريقهم لإكتساب المزيد من السمات الإنسانية كردّ فعل لمظهر مفاجئ وقويِّ من قِبَل شخص أو أكثر ممن يملكون وعياً أعلى من الباقين. هذه العملية تماثل التغيُّر الأحيائي "mutation"( هو تغيُّر افتراضي مفاجئ في الوراثة يُحدِث مواليد جديدة مختلفة عن الأبويْن المُنتِجيْن اختلافاً أساسياً، وذلك بسبب تحوّلات طارئة على الصبغيات (الكروموسومات) أو على المورِّثات (الجينات)) في التطور البيولوجي. من النظرة الأولى لا يبدو أنها نظرية مستبعدة. فهناك الآن في واقع الأمر كثير من الدلائل على أن لفكر الإنسان ووعْيِه تأثيراتٍ كبيرةً على المخ من حيث شكله وأدائه. إلى جانب أن صفحات التاريخ تروي لنا أن جميع الحضارات الرئيسة قد ظهرت بعد أن تمتّع العالم بنموذج جديد من الوعي. وتُرينا دراسة قريبة من هذا النمط الحضاري بأن الأوجه الأساسية والعالمية لهذه النماذج الجديدة للوعي هي التي تُعرِّف الطبيعة الإنسانية وتشرح لنا الهدف من حياة الإنسان وتضع معايير الأخلاق والآداب في العلاقات الإنسانية، وكل هذه الأمور روحانية في طبيعتها. ولا عجب إذن أن نرى الحضارات الكبرى قد تأسست على أسس وقواعد تعاليم مؤسسي الديانات السماوية العالمية مثل بوذا وموسى وزرادشت والمسيح ومحمد وبهاءالله والفلاسفة الروحانيين من قبيل سقراط وأفلاطون وكنفوشيوس وغيرهم.
وحتى لو اخذنا بهذه المشاهدات، فإن مسألة السبب في تطور مخ الإنسان بهذه السرعة تحتاج إلى مزيد من الشرح والتفصيل، ولنا عَوْدٌ عليها لاحقاً إذ يجدر بنا الآن إتمام بحثنا عن أداء المخ.
إن لقشرة المخ مهامّاً تُعزِّز فيها إلى حدٍّ كبير قدرتَنا على التكيُّف والتطور، وبهذه القشرة نتخذ القرارات وننظِّم عالمنا ونحلّل الظروف المعقدة التي تواجهنا، وبها نصيغ حديثنا ونفهمه ونبتكر الفنون والرسم والموسيقى.
يتكوّن المخ من فصّيْن رئيسيْن – وهو ما يندرج على الحيوانات الرئيسة من الثدييات أيضاً – إلا أنهما مميزان عند الإنسان فقط لاختلاف وظائفهما وأدائهما. فهذه الخصوصية هي التغيير الأحدث في التطور الإنساني. ورغم الأبحاث الواسعة المكثفة التي تركزت على أداء فَصَّي المخ، هناك إجماع بسيط على حقيقة أدائهما. ومع ذلك يمكننا، من خلال هذا الكمّ من الأبحاث، أن نُعِدّ قائمة (ليست كاملة بأي شكل من الأشكال) للأعمال الرئيسة للمخ، وكلها متماثلة في سلسلة من الخبرات والدراسات الطبية، وتشير كلها إلى أن الفصّ الأيسر يتحكم بحركات الجانب الأيمن من الجسم؛ إذ يتحكم باللغة وما تتطلبه وبالنشاطات المنطقية، وهو خطّيٌّ في أسلوب التفكير (يسير في خطوط) ويختص بشكل رئيس بالتحليل المنطقي في التفكير وخاصة في الأداء الشفوي وما يتعلق بالرياضة الفكرية (الرياضيات). أما الفصّ الأيمن فإنه يتحكم بحركات الجانب الأيسر من الجسم وبالأعمال الفنية والنشاطات التي تحتاج إلى تحديد الوقت والمسافة ووضع الجسم، ويقوم بعمليات التحليل، وتعدّ قابليته في اللغة محدودة. وبفضل ما لهذا الفصّ من خصائص فإننا به نكيّف أنفسنا لمتطلبات المكان ونبتكر الفنون والأشغال اليدوية، ونعمل على تطوير مظهرنا، وبه نتعرّف على أصحاب الوجوه وندركها. 
تجدر الإشارة هنا إلى أنه رغم أن لكل فصّ قدراته وأداءه الخاص، فإن لكل منهما القدرة على أن يعمل عمل الآخر بدرجة كبيرة أو صغيرة. فقد بَيَّنَتِ المشاهداتُ الطبية أن الطفل إذا ما أصيب في أحد فصّيْ مخّه، يأخذ الفص الآخر وظيفته إلى جانب أعماله، والأعمال المتخصصة التي يقوم بها الفصّان الأيمن والأيسر لها تداخلاتها الهامة فيما يتعلق بقدراتنا الروحانية في المعرفة والمحبة والإرادة.
فالمحبة قوة روحانية من نوع خاص. فبينما المعرفة والإرادة تشكلان عملية نشاط وحركة، فإن المحبة تشكل عملية جذب وانجذاب وبها ننجذب نحو ما نحب. وعلى هذا النحو فإن المحبة تُشغِل كل كياننا في السعي وراء محبوبنا مسخّرين في ذلك أفكارنا وإرادتنا. ولهذا فإن للمحبة تلك القدرة العظيمة على الجمع بين طاقاتنا وقدراتنا. فعملها تتخلله قوة خفية هائلة وهي التي تشحن طاقاتنا الفنية الخلاقة.
من هذه المشاهدات يمكننا الإستنتاج بأن الإهتمام بقوى وقدرات الجانب الأيمن من المخ بإمكانه أن يعزّز لدينا إلى حدٍّ كبير طاقتنا في التعبير عن المحبة، وهو ما يُعدّ أمراً غاية في الأهمية في عالمنا اليوم. لقد تطورت الإنسانية عبر التاريخ وتقدمت مدنيتها على جناحي المعرفة والمحبة. وعلى أقل تقدير فإن معرفتنا بالقوانين الطبيعية والمادية قد منحتنا قوى وقدرات هائلة يمكن لنا أن نُحْسِن استعمالها أو نسيئه. وعنصر المحبة في الوجود لم يؤكِّدْ عليه العلماء فحسب، بل ومؤسسو الأديان الرئيسة في العالم وبعض أتباعهم. يبدو أن التقدم الهائل الحاصل في العلوم قد ساعد الفصّ الأيمن من مخ الإنسان على أن يصبح هو المهيمن على أدائه. فلا غرابة في ذلك لأن القوانين المادية والطبيعية أسهل وضعاً وظهوراً وتُعتبر سَلِسَةً في طريق التجربة والدراسة بحواسّنا لأنها قدرات ملموسة محسوسة يمكن الوصول إليها بطرق أكثر يسراً. أما المحبة والقيم الروحية مثل العدالة والوحدة والرحمة فليست بتلك السهولة خاصةً لإنسانية في مرحلة طفولتها ومراهقتها.
وبينما نقترب الآن من مرحلة بلوغنا الجماعي، سنكون أكثر قدرة على فهم طبيعة المحبة وخصائصها. وإذا ما حقّقنا ذلك سنفوز بقدرات أكبر للفصّ الأيمن من المخ إلى أن يحين وقتٌ يتحقق فيه التوازن بين الفصّيْن. وبذلك يكون الوصول إلى عهد الوحدة بين العلوم والروحانيات معززاً بتطورٍ أعظم للفصّ الأيمن الذي بدوره سيعزّز تطوّر الفصّ الأيسر في طاقاته وقدراته. (من سيكولوجية الروحانية)
 
 

 

 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع

جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com