بقلم: محمد بربر
الحب الجماهيري الجارف الذي حظى به الفنان الشامل "صلاح جاهين"، كان يؤهله للثراء الفني والإنساني، والتعبير عن لحظات شعب بأكمله عبر أشعاره العامية الرائعة، وشخصية جاهين المرحة كانت على عكس ولادته المتعثرة، فقد ولد شديد الزرقة، و دون صراخ، حتى ظن المحيطون أن الطفل قد ولد ميتًا، ولكن جاءت صرخته منبهة بولادة طفل ليس ككل الأطفال في يوم 25 / 12 / 1930، بحي بشبرا في شارع جميل باشا، وكانت لهذه الولادة المتعثرة تأثيرها، فمن المعروف أن الولادة المتعثرة تترك آثارها على الطفل، فتلازمه طول حياته، وقد تتسبب في عدم استقرار الحالة المزاجية، أو الحدة في التعبير عن المشاعر – سواء كانت فرحًا أو حزنًا، وهو ما لوحظ في "صلاح جاهين"، الذي يفرح كالأطفال، ويحزن لدرجة الاكتئاب عند المصائب.
ولم يستكمل صلاح دراسته بالفنون الجميلة، ولكنه درس القانون في كلية الحقوق إرضاءً لوالده، ووصل إلى السنة الأخيرة، لكنه في النهاية لم يدخل الامتحان، ولم يتخرج فيها، فقد كان بالفعل وقتها ملء السمع والبصر كفنان وشاعر متميز، وكان قد اختار طريقه في الحياة، فهو شاعر مجيد ورسام كاريكاتير من الدرجة الأولى.
كلماته حملت دائمًا الصدق والحب والتفاؤل، لكن حبه لوطنه فاق كل الحب، لم يكتب جاهين شعارات باردة جوفاء، بل استطاع أن يغوص في أعماق الإنسان المصري المتطلع إلى عالم أفضل، ليستخرج منه بكلمات عامية بسيطة، وبليغة فى آن واحد، أجمل ما فيه من أغنيات ومزامير راح ينثر بها البهجة والفرح الحقيقي بالفجر البهي القادم على الأفق.
لم تكن فى كلماته أية ظلال لافتعال سياسي أو تعبوي، بل كانت مشاعر عفوية صادقة ترقص في قلبه المتفائل المحب للحياة، فتتحول عبر شاعريته الأصيلة إلى أناشيد للفرح والحب واللهفة المتوثبة.
على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء
أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء
باحبها وهي مالكة الأرض شرق وغرب
وباحبها وهي مرمية جريحة حرب
باحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء
كانت أشعار جاهين ومواقفه جواز سفره لمختلف البلدان العربية التي رددت كلماته حَفْزاً للعمل والإنجاز، وحب الأوطان، والتخلص من الظلم والاستبداد، وقد اعتبره النقاد امتدادًا لبيرم التونسي سيد الزجل الشعبي والسياسي في مصر بالقرن العشرين، ولأنه كان يشعر بأن الحياة قصيرة فقد دخل معها في سباق، لذلك لم يتوقف لحظة واحدة طوال حياته عن الإبداع، فأنجز المئات من القصائد التي تراوحت بين الزجل و الشعر العامي و الشعر الشعبي، وتحولت إلى أغنيات غناها عشرات المطربين، وراوحت بين أغاني الحب والأغاني الوطنية والأغاني الخفيفة، وكتب أيضًا عددًا من الأوبريتات الغنائية، ربما كان أشهرها أوبريت "الليلة الكبيرة" الذي ما زال يحتفظ بألقه حتى اليوم، ومئات الرسوم الكاريكاتيرية التي بدأ في رسمها أسبوعيًا في مجلتي "صباح الخير" و"روز اليوسف" الأسبوعيتين، قبل أن ينتقل إلى صحيفة الأهرام.
ياعندليب ماتخافش من غنوتك
قول شكوتك واحكي على بلوتك
الغنوه مش حتموتك..... إنما
كتم الغنا هو اللى ح يموتك
نهل جاهين من التراث الفلكلوري المصري والعربي الإسلامي والمسيحي، ومزجها كلها في صوت صادق متفرد، رباعياته كشفت جواهر فكرية ووجدانية بديعة، كان ضيفًا في برنامج إذاعي اسمه "جرب حظك" سأله فيه مقدمه عباس أحمد: من في رأيك أعظم رسام كاريكاتير في العالم؟ فأجاب جاهين الذي كان بدينًا، قصيرًا، أصلعًا، وكأنه كرة ضخمة: "الحقيقة أني كل ما بصيت فى المراية عرفت ان ربنا سبحانه وتعالى هو أعظم رسام كاريكاتور في الدنيا!" فانفجر الجمهور ضاحكًا، ونشر في اليوم التالى لاغتيال الرئيس الامريكى الشاب "جون كيندي" في عام 1963 قصيدة رائعة في رثاء الرئيس الأمريكي في جريدة الأهرام، والتي تدل على انفتاح جاهين السياسي والديني معًا، فلم تمنعه يساريته الفكرية من التعاطف مع رئيس أمريكي شاب كان مثقفًا ثقافة إنسانية حقيقية، وقف أمام نفوذ التحالف الصناعي العسكري في بلده، وأشاع في العالم كله أملاً في مستقبل أجمل.. ولا منعته ثقافته الإسلامية من معرفة واستخدام رمز مسيحي شهير في تلك القصيدة هو "يوحنا المعمدان" الذي كان يوصف بالصوت الصارخ في البرية، لقوته وشجاعته في المجاهرة بالحق، حتى أوصله هذا إلى تقديم رقبته على طبق، هدية لسالومي من الملك هيرودس أنتيبي، الذي صرخ في وجهه يوحنا المعمدان يومًا: "هذا لا يحل لك".
لم يجد في نفسه يومًا مع طبيعة الصدام والمعارضة والهجوم على الآخرين. بما في هذه من العنف العاطفي والخشونة الوجدانية الضرورية للتحمل والصمود. نعم هو شاعر الحلم الثوري لكنه ليس شاعر الغضب والتصدي والتعدي، ولذلك كانت لأناشيده الثورية دائما جانب الأعراس المحفوف بالأجراس والمزامير والرقصات الشعبية.
أنا شاب لكن عمري ألف عام
وحيد لكن بين ضلوعي زحام
خايف ولكن خوفي مني أنا
أخرس ولكن قلبي مليان كلام
عجبي!!
أصاب جرح 67 قلب جاهين، ولعل أجمل ما يعبر عن حالة جاهين تلك بعد انهيار أحلام الثورة التي شارك في صنعها هي رباعيته التي كتبها عندما أصابه انسداد في شرايين القلب.
يا مشرط الجراح أمانة عليك
وانت في حشايا تبص من حواليك
فيه نقطة سودة في قلبي بدأت تبان
شيلها كمان.. والفضل يرجع إليك
المشهد الأخير في حياة جاهين كان أكثر قسوة من الفصول القاسية الأخرى في حياته، فقد دخل الفنان العبقري في اكتئاب شديد، حتى كان يوم 21 ابريل 1986، اليوم الذي صعدت روحه فيه إلى السماء، ليسطر صلاح جاهين رباعيات ذهبية من الحب والبهجة والوطن، ربما تحمل الأمل للأجيال القادمة.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com