ما أجملَ الحياة! ما أجملَ الحياة حين تسودُ المحبّةُ! ما أجملَ المحبّة حين تكونُ عونًا لنا على مواجهة الصعاب!
رغم أنف الغُربةِ، ورغم أنف السفر والأميال والأنهار والبحار، تصلُنى هدايا السماء من مصرَ ومن الدنيا، إلى حيثُ أكون. المحبةُ غير مرهونة بالجغرافيا، ولا الفرحُ رهينُ المكان. بالأمس صدر كتابٌ جديد لأستاذ كبير. وبالأمس أرسلتُ له رسالة من غربتى أطالبُه بنسختى. قلتُ «أطالبُ»، ولم أقل «أطلبُ»؛ ربما لشعورى بأننى «أطالبُ بحقٍّ»، ولا «أطلبُ هِبةً»، أو هدية. وكيف لا؟! أليس من حقّنا على أساتذتنا أن نتعلّم على أياديهم، وعليهم أن يؤدوا «واجبهم» تجاهنا، فى تعليمنا وتثقيفنا ومدّنا بجذوات مشاعلهم حتى نحملها، ونُسلّمها بدورِنا مشتعلةً إلى تلاميذَ جددٍ؟ نعم. ذلك حقٌّ، وذلك واجب.
بالأمس صدر كتاب (اِسمحْ لى أسألك) للكاتب المحاوِر: «مفيد فوزى». وبالأمس طلبتُ نسختى منه، فإذا، فى اليوم التالى، بباب بيتى فى أبوظبى يطرق مع شعاع النهار الأول، ليمنحنى ساعى البريد مظروفًا جميلًا يحملُ الكتاب، وبداخله هذا الإهداء الرفيع: (إلى عاشقة الحروف. صديقة الكلمات. رفيقة الوجدان. ابنة الحريّة. سفيرة الحبّ. حليفة السفر. ساكنة الدروب. ذائقة الشرود. فاطمة بنت ناعوت. مع محبتى. مفيد فوزى).
ألجمتنى الكلماتُ. فتركتُ الكتابَ على المكتب، ونهضتُ إلى الشرفة أنثرُ حبوبَ البُرغل والقمح على سور شرفتى، حتى تتجمّع اليماماتُ والعصافيرُ فى صومعتى الصغيرة، كعادتها كل صبحٍ منذ سكنتُ هذا المكان، طلبًا لرزقِها الذى كتبه اللهُ لها على يدىّ. حينما يباغتنى الجمالُ أتريّث، ولا أتعجّلُ ارتشافَه دُفعةً واحدة. أُقسِّم كلَّه إلى جرعاتٍ صغيرة أتناولها على مهلٍ حتى لا تنفدَ قبلما أرتوى من قطْرِ العذوبة الشهى. وهذا «مفيد فوزى». العملاق الذى تتلمذ على يد عمالقة، وجالس عمالقة، وحاور عمالقة. فهذا الذى بين يدىّ إذن ليس كتابًا، إنما هو دغلٌ كثيفٌ مشتجرُ الأغصان من عقولٍ فذّة تتحاور وتتعاصفُ وتتعاركُ وتتصالحُ وترتكبُ الخطيئة الكبرى: التفكير.
من غير العسير أن تكتبَ عن كتابٍ كتبه مؤلف مبدع. فأنت إذ ذاك عقلٌ يحاورُ عقلًا. قلمُ ناقدٍ يشاكسُ قلمَ مبدعٍ. ولكن العُسرَ كلَّ العسرِ أن تكتب عن كتابٍ كتبه خمسةٌ وعشرون عقلًا حرونًا صاخبًا مشاكسًا متمرّدًا. عقلٌ مشاكسٌ، هو عقل المحاوِر مفيد فوزى، فى مقابل ثلاثة وعشرين عقلًا مشاكسًا، هم عقول المحاوَرين، وفى الخلفية ثمّةُ عقلٌ شاعرٌ يرقب جلسات العصف الذهنى ليكتب مقدمة بديعة عنوانها: «درس مفيد فوزى» هو عقل الشاعر الكبير: «فاروق شوشة». فى كل حوار من تلك الحوارات؛ يصحُّ أن أكتب مقالًا تحليليًّا مُفصّلًا.
كيف بوسعى أن أنقل أربعةً وعشرين جبلًا شاهقًا من الألماس بكفّ يدى النحيلة، لأودعَ جواهرَه ودُرَّه وألماساتِه فى جيوبكم؟ كيف بوسعى أن أختزل أربعةً وعشرين مقالًا، فى هذه الزاوية الضيقة من الجريدة؟ اقتنوا هذا الكتاب الموسوعى الصادر عن «دار العين»، وتجوّلوا، كما جُلتُ، بين أفنان وأغصان حدائق الفكر الرفيع: الطبيبان مجدى يعقوب، يحيى الرخاوى، الإمام الشعراوى، البابا تواضروس، الفريق مهاب مميش، المستشار الدستورى ماهر سامى، الفنانون: فاروق حسنى، فاتن حمامة، ماجدة الرومى، رشوان توفيق، الموسيقار محمد عبدالوهاب، وزوجته نهلة القدسى، الشاعرة سعاد الصبّاح، المفكرون والنقاد والكتّاب والإعلاميون: مصطفى سويف، على السمّان، على سالم، حمدى رزق، بثينة كامل، السياسيان بطرس غالى، أمين فخرى عبدالنور، الرئيس الفلسطينى محمود عباس، وزيرة الثقافة البحرينية مى آل خليفة، ورجل الأعمال أنسى ساويرس.
شكرًا مفيد فوزى على هذه الحديقة الغنّاء، وشكرًا لمصر ربّة العلوم والفنون الخالدة. وشكرًا لطير الزاجل الذى حمل الكتاب لمكتبتى، وقلبى وغُربتى.
نقلا عن المصري اليوم
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com