سليمة إن شاء الله.. والشرف مصان
إنها تلك العبارة التى رددتها الألسنة على أثر انطلاق زغرودة من الحجرة الداخلية ترددت على أثرها الزغاريد فى المنزل كله.. وبدأت النسوة المتحلقات حول «فاطمة» فتاة القرية الجميلة والست «أم جورج» زوجة ناظر المحطة تعلن وثيقة براءتها بعد أن قامت بالكشف عن عذريتها.. والاطمئنان على وجود غشاء البكارة رابضاً فى مكانه الحصين يصد غزوات «الولوج الحرام» ويرفع راية الشرف الخفاقة.. شاهداً على عفة الحرائر.
يصف «يوسف إدريس» المشهد المروع فى قصته البديعة «حادثة شرف» بأن النسوة تكاثرن على «فاطمة» وأرقدنها على السرير بالضغط والجذب وتولت إحداهن تقييد يديها وأمسكت امرأتان كل بساق من ساقيها وامتدت أيد كثيرة وعشرات العيون الصادقة فى بحثها عن الشرف والمحافظة عليه.. امتدت كلها قلبت وتفحصت.. و«أم جورج» تنهر النسوة بلا فائدة.. وتطمئن «فاطمة» بلا فائدة أيضاً.. والشد والجذب والصرخات تدور فى صمت، وسكون الترقب قد خيَّم على الحجرة وامتد منها إلى البيت ووصل الصمت إلى رؤوس الرجال حول «فرج» (أخوها) وإلى المتناثرين قريباً من الدوار وعند الماكينة وفى الغيط، الذين كانوا يتابعون كل شىء يدور داخل منزل الناظر حتى دون أن يروه.
وكان قرار الكشف عن العذرية قد جاء بإجماع النسوة من أهل العزبة رعايا جمالها المدلهون بحبها.. ولعل ذلك هو السبب فى خوفهم الشديد عليها من العيب.. وكأنهم لا يصدقون أن أنثى جميلة مثلها لا ترتكب العيب.. بل إنهم من كثرة خوفهم عليها حددوا الشخص الذى يمكنه أن يفعل ذلك معها.. إنه «غريب» الولد قليل الأدب الذى يغوى النساء وينجح فى الإيقاع بهن.. كان أكثر الذكور ذكورة كما كانت هى أكثر الإناث أنوثة، ولهذا كان من الطبيعى أن تقرن الشائعات بينهما، ومع هذا ما كان أبعد ما بينها فـ«فاطمة» تتجنبه.. هى خائفة منه خوفها من العيب.. هو خائف منها خوفه من العجز.. لكن الجميع كانوا يتوقعون دائماً أن يحدث شىء ما.. مثل أن تأتيهم من الغيطان صرخة تقول: ضبطوها فى الذرة مع «غريب».
ولا يعنينا فى الأمر كيف تطورت الشائعة إلى افتعال أكذوبة أن هذا هو ما حدث بالفعل وهى منه براء.. بقدر ما يعنينا تفاصيل سلوك هذا المجتمع الزائف فيما يتصل بالتمسك الكاذب بمفاهيم الأخلاق المرعية.. وحماية حمى الفضيلة المستباحة فيسقطون عجزهم وجبنهم وحرامهم على «فاطمة» كما أسقطوه على «عزيزة» فى رواية «الحرام» ليوسف إدريس أيضاً.. إنهم ينتهكون أعز خصوصياتها ويناقشون شكهم فيها عياناً بياناً.. على مرأى ومسمع من أخيها وأهلها كل هؤلاء الذين كانوا يحبونها وتحبهم ويدللونها وتتدلل عليهم.. رغم أن هؤلاء المتهمين فاسدون وجبناء تساعدهم الخياطة والماشطة «صابحة» التى ليس لديها مانع من أن تصنع من نفسها وبيتها ستاراً يلتقى وراءه الرجال بالنساء.. لكن لأن أحداً لم ير بعينيه فالحرام لا يصبح حراماً والعيب لا يصبح عيباً إلا حينما يكشفه الناس.. ولا يمكن التستر على الفضيحة.
ما يعنينا هنا أن «فاطمة» حبسها «فرج» ومنع خروجها من البيت.. وفقدت فى محبسها الحيوية التى كانت تبرق فى عينيها وخدودها ولفتاتها وتحولت إلى حيوان بليد كخروف الضحية لا تكاد تتحرك، وإذا تحدثت خرج حديثها ذليلاً فقد كبرياءه وحلاوته والأنوثة التى تقطر منه.. لكن هذا لم يدم طويلاً.. وعادت «فاطمة» إلى الخروج وقد تحولت إلى «فاطمة» أخرى.. كانت قد فقدت براءتها وأصبحت تستطيع أن تنظر دون أن تنظر وتضحك دون أن تريد.. وتريد الشىء وتخفى رغبتها فيه.
يقول «يوسف إدريس»: بل أصبحت «فاطمة» إذا ما لمحها «فرج» خارجة ذات يوم من دار «صابحة» الماشطة وأخذها إلى البيت وأغلق عليها باب القاعة وأمسكها من ضفائرها وشدد عليها وسألها عما كانت تفعله عند «صابحة» أصبحت تستطيع أن تقول..
- كنت باقيس التوب.. إوعى كده.
وتجذب نفسها وضفائرها من قبضته بعنف غريب.. وتقف فى الركن تعيد النظام إلى شعرها وتواجه بعيون مشرعة حلوة.. لا تنخفض ولا تخجل.
هل تفكر «فاطمة» أن تسير فى طريق الغواية أم أنها انحرفت بالفعل.. ؟!
لمَ لا.. وقد وضعوا شرفها على المحك وتعاملوا معها باعتبارها مشروع عاهرة تستوجب المساءلة والاختبار والامتهان.. أليست أنثى وهذا يعنى أنها كائن جنسى.. فضيحة غرائزية تسير على قدمين خلقت لكى يعتليها الرجال.. أليس كل ما فيها عورة؟! إذاً كانوا لا يصدقون أنها عذراء عفيفة فلمَ لا تصبح تلك المرأة الساقطة التى يريدونها؟!..
إن مولانا الفاضل «عجينة» عضو مجلس النواب فى يوتوبيا الفضلاء ومملكة الأطهار.. يريد من حكومتنا المؤمنة أن تفعل مع بناتنا ما فعلوا مع «فاطمة».. تقيم محاكم تفتيش بالجامعة لمواجهة انتشار الزواج العرفى بين الطلبة والطالبات.. ويتم الفرز (الذى بالقطع سوف تفلت من إدانته لها من استوعبت الدرس مثل «فاطمة» التى سوف تدرب نفسها على العلاقات الجنسية دون أن تفقد عذريتها أو تخضع لعملية ترقيع الغشاء) فأى عار علينا أن نسمح لهن بتلك التقاليع الفاضحة المستحدثة مثل السفور والتبجح بتجريم الختان وتحريم الزواج وهن قاصرات طالما أنهن يطقن النكاح.. هل يريدون أن يعودوا بنا إلى الحياة فى ظل دولة مدنية كافرة؟! يخطرن فيها بعضهن متبرجات داخل الحرم الجامعى ويرتدين البنطلونات ويحتفلن هذه السنة بالذكرى السبعين لتصميم «البكينى» أننا سمحنا لهن أصلاً بدخول الجامعة رغم أنهن أسرع الناس إلى الفواحش.. ولا يؤتمن على عرض ولا ولد بل هن أكثر أهل النار.. سامحك الله «يا طه حسين» لقد ارتكبت خطأ فادحاً حينما تآمرت عندما كنت رئيساً لقسم الآداب بالجامعة مع وكيلها «لطفى بك السيد» واتفقتما على دخولهن سراً حيث كان القانون يحظر دخولهن الجامعة معتمدين على أنه إذا ما افتضح أمرهن تكون الحكومة قد وضعت أمام الأمر الواقع الذى لا يجوز فيه التراجع.. وفى إطار تدعيم وهابية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وتكريس ركائز الدولة الدينية استقلالاً عن الدولة المدنية المارقة.. فإنه تتوالى تداعيات الصراع المحتدم بين الكنيسة والمتضررين.. من قانون الأحوال الشخصية الجائر الذى ترفض فيه الكنيسة الطلاق إلا لعلة الزنا.. تفتقت قريحة مولانا المحامى الفاضل «رمسيس النجار» عما تصوره حلاً للأزمة باقتراح الكشف الطبى الكامل الذى يشمل العذرية لإعطاء صلاحية للعلاقة الجنسية، حيث يصبح عقد الزواج صحيحاً ولا يتم اللجوء بعد ذلك لدعاوى بطلان الزواج.. والرجل بذلك -كما يدافع عن نفسه- «لا يتسلف» لا سمح الله.. ولكن يتماهى مع الورِع «عجينة» فى النيل من كرامة النساء والتحقير من شأنهن واستهدافهن فى أعراضهن.. والتجريس والتشهير بهن فى أرجاء المعمورة.. فالتى يرفض دخولها الجامعة أو دخولها قفص الزوجية تصنف على الملأ وعلى رؤوس الأشهاد بتفريطها فى شرفها وليعلم بذلك الدانى والقاصى.
وهكذا فإن خزعبلات «عجينة» و«رمسيس» فى هوس العذرية يتماهى مع مناخ عام وهابى النزعة، وردَّة حضارية وتخلف مجتمعى لا مثيل له.
ويا عزيزى د. خالد منتصر كلنا «عجينة».. و«رمسيس النجار» أيضاً.
نقلا عن الوطن
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com