مِن أبدعِ ما أنتجت السينما العالمية فيلم «خلاص شوشانك».. والذى يُناقش حياة سُجَناءٍ وسَجَّانيهم فى أحد أكثر السجون قسوة.. ومن أعمق ما طرح فى روايته علاقة السجناء بفكرة «الحرية»..!
فالسجناء بين «مُنسحقٍ» يخاف العالم خارج الأسوار ولا يقوى إلا أن يعيش سجيناً.. وبين «مُشَوَّه الوجدان» «متوائم» مع فُتاتِ الحياة الذى يتسرب من بين أصابع إهانات وقسوة «آمرِ السجن».. وبين «متُعايشٍ» طامح لأن تَهون أيامه بظروف أفضل يَستنطِقُها من بين سطور لوائح السجن الخَشِنة.. وبين «مُستقيم الفِطرة» «حالم» بالحرية لا يقبل بغيرها بديلاً!
على سُلّمِ الحزم والانضباط.. السجون هى- نظرياً- المؤسسات الأعلى إنجازاً!
و لِمَ لا.. فهى بالأصل نشأت لتَحرِم الإنسان- فى سياق عقابه أو تأديبه وإصلاحه- من «جوهر إنسانيته» وهى «حريته»!
ولهذا ليس من بأسٍ.. أن تَتَغول فيها- أى فى السجون- قيود اللوائح والقوانين على الفطرة والمنطق والأعراف!
ولهذا ليس من بأسٍ.. أن تُحمد فيها الغِلظة.. وتبُرر فيها الإهانة.. وأن تَحكُمَها منظومة قيمية ليست للبشر!
ولهذا ليس من بأسٍ.. أن يكون العدلُ فيها هو عدلَ العقاب.. وأن يكون عدلُ الإثابة- لمن يُحسِن- تَرَخُصاً يُفسِدُ أكثر منه يصلح.. أو هكذا يظنون!
فى السجون وإن يأكل البشر كَكل البشر.. وإن يعمل البشر كبعض البشر.. وإن يَتعلم.. وإن يُعَلِم.
ولكن يبقى سقف ترقيهم مُرتَهناً بكونهم سجناء مختزلى الإنسانية.. لا يملكون حُلماً إلا حُلم «الأقل».. حلم الـ«بعض» من «المتاح» الضيق.. وليس حلم «السعة»..!
«خوفٌ أقل».. «إهانةٌ أقل».. «شقاءٌ أقل»..«عَنَتٌ أقل».. «بعضٌ» من كرامة و«بعضٌ» من كفاية و«بعضٌ» من أمل.. ذلك جُلُّ الحُلم!
بل بعض من حرية تنقل فى محيط مغلق.. و«بعضٌ» من هواء و«بعضٌ» من شمس ليست كتلك المبتسرة التى تطل من بين القضبان.. شمس يرونها حين يريدونها.. وليس حين يريد «آمر السجن» وسَدَنته!
ولهذا لم تكن أبداً السجون محيطاً لإبداع أو منطلقات لنهضة.. ولا يمكن أن يرجى منها تنشئة لبشر حالم مُلهم يشعر بقيمته ويسعى لكى يحقق ذاته ويبنى مجتمعه!
الدولة مؤسسة وكذلك السجن!
ظاهرهما فيه تقارب.. فكلاهما يَزعُم تحقيق عدلٍ ما لمجتمع من البشر.. ومَرَدُّ الانضباط فيهما- زعماً- هو لسيادة القانون!
ولكن «الدولة» مؤسسة فلسفتها صون الإنسانية وإسعاد البشر بتمكينه من أدوات ومناخ يكفل الإبداع من خلال أمنه وحريته وكفاية احتياجاته.
الدولة مؤسسة رضيها أبناؤها وطناً يملكونه ويبذلون الانتماء له برضا عطاء الملكية!
أما «السجون» وإن كانت مؤسسة أيضاً.. وإن تماهى السجناء مع جلاديهم وسجانيهم.. وإن أعادوا تعريف الكرامة بكونها الإهانة الأقل.. وإن أعادوا تعريف العدل على كونه المساواة فى الظلم.. وإن تماهوا مع سطوة اللوائح وضيق المحابس..
ولكن أبداً.. لا يقبلون بالسجن وطناً.. حتى وإن أرادوا.. فلا تراودهم ملكيته ولا يمنحونه انتماءً!
من قلب تلك البديهية تأتى قصة «سوريا» القائمة ومأساتها.. وقصة كل «سوريا» قادمة فى التاريخ ومأساتها!
من قلب بديهية التضاد الواضح بين طبيعة الدولة وفلسفة وجودها.. وطبيعة السجون وفلسفة وجودها.. نقرأ مأساة كيف آلت سوريا إلى ما آلت إليه.. حين توهم البعض أنه يستطيع أن يحيل الأوطان سجوناً أو السجون أوطاناً بدعوى درء شبهات الخروج عن الشرعية والقانون.. وبدعوى أن البشر ما داموا أحياء يأكلون ويتنفسون- كالكائنات الأولية- فهم بالضرورة سيقيمون أودَ أوطانهم نهضة وترقية وحماية!
فى سوريا الآن حروبُ ثلاث.. أولاها حرب «أهلية».. وثانيتها حرب «مقدسة» مُدعاة تُحَاربُ جُلها بالوكالة.. وثالثتهما معارك حرب «باردة» تُحارب كلها بالوكالة!
فبعض من ممالك عربية ثأرها مع بشار وإيران من خلفه أكثر من إنكارها لنظام حكمه.. وفى سبيل ذلك تداعت بها الأحداث إلى دعم متطرفى التنظيمات الجهادية.. يراوحون بالدعم بين داعش وجبهة النصرة ويكرسون ظواهر مدمرة- مآلها إلى زوال- يطال تدميرها العالم وهم فى أوله.. وفى سبيل ذلك يُستدعى غطاء طائفى ردىء.. لحرب تدعى «القداسة»!
وروسيا تكرس وجودها العسكرى فى البحر المتوسط وفى سبيله تدعم بشار شخصاً ونظاماً.. فهو آمر السجن السورى الكبير لها بالوكالة!
وتركيا.. إرهاقاً للحلم الكردى المبتسر فى دولة.. تستبيح سوريا أرضاً وموارد.. وتصبح الحليف الأول- غير المُعلَن- والممر الآمن لمقاتلى داعش.. والحليف السُنى المُدعَى للعرب.. وفى ذات الوقت قسيم صفقات الخفاء مع إيران على النفوذ فى الشام والخليج بل المنطقة العربية برمتها.. بين أحلام الخلافة التركية.. وأحلام الإمامة الإيرانية!
وإيران توسع مجالها الحيوى.. وبعد أن كانت تحلم بتصدير الثورة وكفى.. باتت ترسخ قواعد هيمنة إمبراطورية تحت العمائم السوداء هذه المرة وليس تحت تاج الطاووس!
والولايات المتحدة تمارس اللعبة الأثيرة.. وهى استنزاف الكل بيد الكل!
تلك هى سوريا الآن.. ومصر الطرف الوحيد واجب الحضور.. غائبة!
استراتيجياً.. وسياسياً.. وأخلاقياً.. وإن لم تستطع مصر أن تقبل بأى مسوغ لأى من تلك الحروب.. فلا يستقيم لها أن تغيب!
ويقيناً وإن لم ينبغِ لمصر أن تكون طرفاً بالتحالف أو حتى القبول مع أطراف حمام الدم السورى.. فحضورها على نحو يقرر مستقبل سوريا والشام الأكبر حتمى!
حضور على نحو تراه مصر الواعية وتقرره.. نحو يغاير التناول الدبلوماسى الفاتر فى بيانات الشجب والإدانة والأمل فى تسوية سياسية!
وإلى أن تعى مصر الغائبة.. وتريد وتقرر وتقدر.. أن تحضر حضورها الواجب فى سوريا.. سنكون مصراً أول من ننزف أمننا القومى من شرايين سوريا.. ولن تفى البكائيات- على مصير كمصير سوريا من شعوب خائفة.. ولا شيطنة الربيع العربى والتدليس باسمه وتأثيم حلم المصريين والعرب فى غد أفضل من مماليك خائفة- عن حضور تحمى به مصر مستقبلها فى مستقبل سوريا والشام!
وذلك الحضور الحتمى فى الشام يتوجب مثله فى ليبيا واليمن والجزائر والسودان وإثيوبيا وأعالى النيل.. ولهذا حديث آخر!
ولن تحضر مصر حضورها الواجب والمتأخر إلا إذا أيقنا أن سوريا الأبقى لمصر.. والأجدر بالحرص.. هى سوريا الشعب الممزق الآن فى تلك الحروب الثلاث بين قتيل ومهجر ومشرد.. وسوريا الشعب والمواطن لا نصرة لها إلا فى ضمان مستقبل تكون فيه «سوريا الدولة والوطن» هى الوعد والمآل.. لا «سوريا السجن» بآمر بالوكالة!
وكان لمصر فى نصرة الشعوب دورها فى التاريخ.. فما بالنا بشعب الشام الذى كانت أوطانه حضارياً وثقافياً واقتصادياً وأمنياً.. جناح وصل ومقدمة أمن ومستودع إبداع!
ولن تحضر مصر حضورها الواجب فى سوريا.. إلا وهى مصر التى لا تتقزم عن قَدرها.. ولا تسمح لنفسها بأن تُشَوَش لديها بديهية المؤسستين.. وأن تُذَكِّر نفسها ومحيطها العربى القادم بأنه لن تكون أبداً الأوطان سجوناً ولا السجون أوطاناً.. مهما ارتأى ذلك أو أراده خائف أو واهم.
فَكِّرُوا تَصِحُّوا..
نقلا عن المصري اليوم
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com