كنت جالساً على الرصيف بأحد المقاهى فى صباح شتوى قاهرى أتدفأ بكوب الشاى عندما مرت من أمامى سيارة نصف نقل مكتوب عليها من الخلف: الإحساس نعمة. من المألوف بالنسبة لسيارات نقل الأمتعة وعربات نقل الركاب فى مصر أن يكتب صاحب المركبة عليها من الخلف مقولات يحبها ويراها منابع للحكمة أو مصدراً للطرافة والظرف.. والحقيقة أن بعضها ينطبق عليه هذا فعلاً، وبعضها الآخر سخيف، ويعبر عن ذوق متدنٍ. ومن المؤكد أننى لمحت هذه العبارة (الإحساس نعمة) كثيراً على سيارات النقل، فهى شائعة بين السائقين.
لكننى هذه المرة واستجابة لحالة تأمّلية كنت أمر بها وجدتنى أفكر فى العبارة وأتساءل: هل صحيح الإحساس نعمة، أم أنه على العكس يمثل لعنة لصاحبه عندما يؤرقه ويفسد عليه حياته، وقد تتصاعد درجة الإحساس فترفع ضغط الدم عند الشخص الحسيس وتقضى عليه؟
طاف بخيالى عدد من أصحاب الإحساس الذين قضوا نتيجة مواقف يمر أمثالها على غيرهم كل يوم دون أن تترك فيهم أى أثر. تذكرت الأديب محمد عبدالحليم عبدالله، الملقب بشاعر الرواية، وأمير الرومانسية فى الأدب العربى، صاحب روايات: بعد الغروب وشمس الخريف وشجرة اللبلاب وغرام حائر وألوان من السعادة. هذا الرجل كان مرتبطاً بقريته فى محافظة البحيرة وهناك بنى للعائلة بيتاً اعتاد أن يذهب إليه. فى آخر زيارة له هناك وأثناء رحلة العودة إلى القاهرة بالأوتوبيس تعرض لموقف مؤلم لم يخطر له على بال، إذ إن السائق الذى كان جلفاً غليظاً وجّه للأديب الكبير إهانات فظيعة إثر خلاف عادى لم يكن يستحق السفالة التى تفوه بها فى وجه الرجل المهذب النبيل. لم يصدق عبدالحليم عبدالله نفسه ولم حتمل رأسه كل هذه القسوة اللفظية من جهول غليظ لم يعرف إلى مَن كان يتحدث، فانفجرت شرايين دماغه وفاضت روحه إلى ربه فى مستشفى دمنهور فى منتصف عام 1970 وعمره 57 سنة.
تذكرت أيضاً الصحفى الأستاذ على حمدى الجمّال، الذى عمل بالصحافة منذ أواخر الأربعينيات، وتقلد مناصب قيادية بأخبار اليوم، ومن بعدها الأهرام التى أصبح رئيساً لتحريرها عام 75. كانت ظروف رئاسته للتحرير سيئة، إذ إنها أتت فى فترة عصيبة كان فيها السادات قد قام بزيارته للقدس وأبرم صلحاً مع الإسرائيليين فوقفت ضده كل الدول العربية وشنت عليه الصحافة حملة تخوين خطيرة، وشارك الكثير من الكتاب والصحفيين المصريين فى الهجوم عليه وانتقاده.. كل هذا جعل الرئيس المصرى فى حالة غضب دائم وجعل أعصابه تنفلت فى كثير من الأحيان فتصيب حتى المقربين إليه، وقد تحمّل كل من دنا منه فى تلك الفترة جانباً من آثار نوباته الانفعالية.. وكان من حظ رئيس تحرير الأهرام، الأستاذ على الجمّال، أنه تعرض لغضبة ساداتية عارمة قام فيها الرئيس بإهانته فى وجود جمع من رؤساء التحرير والإعلاميين، وقد بلغت الإهانة درجة لم يستطع معها قلب الرجل أن يحتمل، وما أصعب الإهانة حينما لا تستطيع ردها.. مات على حمدى الجمال فى نفس الليلة، وفاضت روحه إلى بارئها فى 9 نوفمبر عام 79.
الإحساس قتل الكثير من النبلاء، فكيف يكون نعمة؟
نقلا عن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com