ÇáÃÞÈÇØ ãÊÍÏæä
طباعة الصفحة

الثورة التونسية.. وانعكاساتها المستقبلية

محمود يوسف بكير | 2011-01-19 00:00:00

بقلم: محمود يوسف بكير *
سجل التاريخ بأحرف من نور يوم 14 يناير 2011، باعتباره اليوم الذي حقق فيه الشعب التونسي أول ثورة شعبية ضد الاستبداد المتغلغل في جميع أنحاء العالم العربي منذ قرون.
نعم كانت هناك ثورات ضد المحتل الأجنبي، ولكن لم تكن هناك أبدًا ثورات شعبية عارمة ضد الاستبداد والاستعباد من جانب حكامنا مثل الثورة التي قام بها الشعب التونسي ضد نظام الديكتاتور "زين العابدين بن علي"، ولعلنا نتساءل هنا أهي مصادفة أن تبتلى كل الدول العربية تقريباَ بأنظمة استبدادية؟
تحية إلى كل شهداء وعمال ورجال ونساء تونس الخضراء، التي أنبتت أرضها رجالاً حملوا أرواحهم على أكفهم ولم تفرقهم عصي الأمن التونسي الغليظة، واستمروا في ثورتهم حتى أجبروا الديكتاتور الفاسد على الفرار من البلاد، تحت جنح الظلام كما تفر الفئران.
تحية إلى هذا الشعب العظيم الذي لم تثني عزيمته وقوة إرادته إغراءات ووعود المستبد الظالم، لشق صفهم وإخضاعهم من جديد، ولنا فيما فعله الشعب التونسي عبرة يعيدها التاريخ الإنساني بشكل مستمر، وهي أن الحرية ليست منحة ولا يمكن أن تأتي من الحاكم المستبد طواعيةً، وإنما هي قيمة أغلى من الوجود ولابد أن تبذل من أجلها التضحيات والدماء .
تحية إلى هذا الشعب الصغير عددًا والكبير قدرًا، والذي رفع راية الوحدة الوطنية والكرامة الإنسانية، وكتب أول صفحة بيضاء في تاريخ العرب الملطخ بالسواد والمهانة والذل والعبودية .
إن الثورة على الظلم والفساد والاستبداد لا تعني أبدًا الفوضى كما يدعي البعض، نعم هناك الآن بعض أعمال الفوضى والنهب، ولكن حدث هذا في كل الثورات الكبرى عبر التاريخ، وعلى رأسها الثورة الفرنسية التي تخللتها نفس الأحداث، ولكنها انتهت ببزوغ عصر النهضة وحقوق الإنسان في أوربا كلها، وسوف يكون هذا هو شأن الثورة التونسية في عالمنا العربي البائس .
زرت تونس عشرات المرات ابتداءً من عام  1984، حيث شاركنا في عمليات تمويل مشروع ردم بحيرة تونس العاصمة، مما أتاح لي فرصة التعامل المباشر مع شرائح مختلفة من التونسيين ولا أبالغ بالقول إنهم واحد من أرقى الشعوب العربية، ولكن الفساد والظلم الذي أتى به نظام أسرة الطاغية "بن علي" غير بعضًا من سلوكيات الناس عبر السنين، ولكنه تغيرًا لم يتجاوز القشرة الخارجية وظل هذا الشعب الصغير من أكثر الشعوب العربية رقيًا وشجاعة، وقام بثورة أذهلت العالم.
وإننا ندعو الله أن تنجح هذه الثورة في نقل تونس إلى مصاف الدول الديمقراطية، وأن تحقق طموحات جماهيرها في وضع حد للفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية ودولة القانون. إن البعض يتخوف من إن هذه الثورة لن تزيد عن مجرد نقل للسلطة من "بن علي" إلى طاغية جديد، ونحن نعتقد أن هذا غير وارد بعد أن تذوق الشعب التونسي طعم الحرية والعزة والكرامة.
سوف يكون لهذه الثورة تبعات ونتائج بعيدة المدى في مستقبل منطقتنا، منها على سبيل المثال وليس الحصر:
•    سوف تنتشر الحركات الاحتجاجية ويتعاظم شأنها في كل أنحاء العالم العربي من الآن فصاعدًا ضد كل أشكال الاستبداد والفساد والظلم، وإن غدًا لناظره قريب، وستظل الثورة التونسية الملهم الأول في وجدان كل الشعوب العربية المغلوبة على أمرها، حتى يكتب لها النصر.

•    أتوقع أن تراجع الإدارة الأمريكية والحكومات الأوربية دورها في دعم الديكتاتوريات العربية، بحجة دعم الاستقرار في المنطقة، حيث رأوا جميعًا بأم أعينهم ما يؤدي إليه جبروت واستبداد الحكام .

•    أتوقع أن يبدأ الكثير من الحكام العرب المستبدين حملة علاقات عامة هدفها تلميع صورهم والتقرب إلى شعوبهم زلفًا، لتفادي مصير "بن علي" وسوف تكون أدواتهم في هذا بعض الإصلاحات الاقتصادية الشكلية، ودعم أسعار بعض السلع الأساسية وبعض المغريات الرخيصة الأخرى، ولكن لن تتمكن هذه الأنظمة من إدخال أي إصلاحات جوهرية حقيقية لسبب بسيط؛ وهو أن الفساد قد استشرى في هذه الأنظمة بشكل يفوق الوصف والتصور، فهذه الأنظمة مدعومة بشبكة هائلة من المنتفعين ومصاصي دماء الشعوب ومدمني نهب المال العام، وعلى سبيل المثال لا الحصر فلننظر جميعاَ إلى غالبية أعضاء المجالس النيابية في عالمنا العربي، إن هؤلاء لم يترشحوا لهذه المجالس إلا لهدف واحد ألا وهو التمتع بالحصانة والنفوذ وفتح طريق لهم للمشاركة في عمليات نهب المال العام .

•    أظهرت الثورة التونسية أيضًا النوعية الدنيئة للمستبدين العرب، فقد بدى "بن علي" في أيامه الأخيرة مرتعدًا وخائفًا شأنه شأن أي لص عندما يقبض عليه متلبسًا، وبدأ يهلوس بكلام من عينة "لقد سمعت وفهمت"، ولكن رد الشارع التونسي كان واضحًا "ولكنك لم تسمع وتفهم طوال ربع قرن فما الذي سيجعلك تسمع وتفهم الآن؟" وفي خلال ساعات محدودة قام بن علي بالتضحية بكل من ساندوه وقدموا له الدعم للاستمرار في غيه وظلمه، لقد قام بالتضحية بوزير داخليته، وبعدها بساعات قليلة قام بحل الحكومة، مؤكدًا أن كرسي الرئاسة أهم عنده من كل هؤلاء، وعندما أيقن أن الشعب التونسي مصمم على خلعه، قام بالفرار تاركًا وراءه حاشيته وأقرباءه، ولعل زبانية الأنظمة الاستبدادية في عالمنا العربي تتعلم من هذه الأحداث شيئًا .
قد تبدو المياه راكدة كعادتها الآن في عالمنا العربي، ولكن المد التونسي قادم لا محالة، ويخطئ من يعتقد أن الشعوب العربية ستظل مستكينة للأبد، خاصة بعد بزوغ شمس الحرية في تونس من خلال سلسلة من الإضرابات السلمية قام بها الشعب التونسي، ضد واحد من أقوى الديكتاتوريات الأمنية في العالم العربي.
تحية واحترامًا وإجلالاً لشعب تونس العظيم .

* مستشار اقتصادي مصري
 

 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع

جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com