ÇáÃÞÈÇØ ãÊÍÏæä
طباعة الصفحة

المادّة و المسألة الأخلاقيّة

سهيل أحمد بهجت | 2011-03-08 00:00:00

بقلم: سهيل أحمد بهجت
ينتقل المسيري بعد ذلك إلى نقد ما يسميه شمولية  العلمانية عبر نموذجين هما "ماكس فيبر" و "جلال أمين"، فماكس فيبر يضع خطوطا عامة يرى أنها ضرورية لبناء العلمانية عبر ترشيد الإنسان و عقلنته، و ينقل المسيري عن ماكس فيبر أن هناك نوعان من الترشيد "العقلنة"، الترشيد التقليدي أو (الترشيد المضموني)، الذي يعني أن لا يتعامل المرء مع الواقع بشكل ارتجالي و جزئي، و إنما يتعامل معه بشكل منهجي متكامل، و متسق مع مجموعة من القيم الأخلاقية المطلقة و التصورات المرجعية المسبقة التي يؤمن بها، و يضيف المسيري حول هذه النقطة قائلا:
"و عملية بناء الهرم الأكبر و الفتح الإسلامي من العمليات التي لا يمكن إنجازها إلا من خلال هذا النوع من الترشيد." ـ المصدر السابق ص 97
و النوع الثاني هو "رشيد في علاقته بالأهداف" أو "الترشيد الشكلي أو الإجرائي" أو "الترشيد الأداتي" و هو الترشيد (المادي) الحديث المتحرر من القيم، و الموجه نحو أي هدف يحدده الإنسان بالطريقة التي تروق له، أو حسبما تمليه رغباته أو مصلحته، و الترشيد الشكلي يتعلق بالكفاءة التكنولوجية و توفير أفضل الوسائل و التقنيات لتحقيق الأهداف (أية أهداف) بأقل تكلفة ممكنة و في أقصر وقت ممكن، و كلما كانت الوسائل أكثر فعالية كان الفعل أكثر رشدا من الناحية الشكلية أو الإجرائية." ـ المصدر السابق ص 98
إن الإنتقائية و التي تنطلق من أحكام مسبقة على الآخرين تكون نتيجتها محسومة مسبقا، فالعقلنة التي قسمت هنا إلى شطرين لا تعكسان إلا نموذجين متناقضين، و كلام ماكس فيبر لا ينطلق من مجتمع متجانس و مقولب كمجتمعاتنا الشرقية، بل إن كلمة تجانس لا تناسبنا هنا لأن التجانس يعني التلائم الطبيعي و الواقع أن مجتمعاتنا مقولبة في إطار واحد على عكس المجتمع الغربي، و لكي تتوضح الفكرة علينا مناقشتها، فالنوع الأول من الترشيد أو العقلنة التي تحمل "أحكاما" مسبقة ذات صفة مطلقة، تبتعد عن العقلنة الواقعية ـ و إن كانت تتسم بها شكليا ـ كلما توسع الوعي الإنساني و تطور، ففي عصرنا الحديث ننظر إلى بناء الهرم الأكبر (هرم خوفو) على أنه ضرب من الجنون و إن كان قبل أربعة آلاف و خمسمائة سنة يبدو مشروعا روحيا، كذلك الأمر مع الفتوحات الإسلامية، فما يبدو لنا تحريرا إسلاميا للشعوب، يُنظــَر إليه من قبل المسيحيين و اليهود و المجوس كنوع من "الغزو" الذي لا يحمل أي هدف سوى الغنائم و الاستيلاء على الأرض، و هكذا يبدو واضحا بما لا يقبل الشّك أن لا عقلنة و لا ترشيد في هذه العقلنة، فهل كان لبناء الهرم الأكبر أثر إيجابي على حياة الفقراء و المساكين؟ و هل جاء الفتح الإسلامي بتغيير حقيقي إلى حياة الناس في البلدان المفتوحة؟ إن مقياس العقلنة هنا يرتبط بالنوع الثاني و هو ليس نظاما مفتوحا على أهداف غير محدودة، فالترشيد يتعلق بمصلحة النوع الإنساني و سلامة كل أفراده، بينما يُصرّ المسيري على إيهامنا بأن ماكس فيبر يلغي الحدود الأخلاقية للعقلنة و أن كل هدف هو مشروع (أي هدف كان)!! و هذا خطأ مؤكد، ففي الفقه الإسلامي و بكل مذاهبه يتم التأكيد على أن من أهداف الحكم "حفظ مصالح الناس"، و لكن حينما تنظر إلى الواقع تجد أن النقيض هو السائد و الحاكم في البلدان التي تتبنى هذا الفقه، لأن الظاهر هو "العقلنة" و الباطن و المضمون الذي ينعكس على أرض الواقع هو "التبرير".
إن التطور العقلي في الغرب منفتح ضمن شرط أساسي، و هذا الانفتاح ليس فوضويا و عبثيا، فأساس التطور الحالي هو البحث عن التطور مشروطا بمصلحة و سلامة الأفراد و المجتمع، و لذلك نجد أن المنظومة العقلية الغربية أخذت تربط بين ممارسة الفرد للحرية و اشتراط البلوغ و السلامة العقلية لهذا الفرد لكي يكون ملزما بالمسئولية القانونية إذا ما خرق القانون أو اعتدى على حريات الآخرين و أملاكهم، و سواء قال ماكس فيبر بأن الترشيد و العقلنة محدودة أو مفتوحة بالمطلق، فإن آرائه لا تمثل قاعدة الفكر العلماني الغربي، و المشكلة في المطلقات ـ و هذه المشكلات هي السبب في رفض الغربيين لأكثرها ـ أنها متنوعة و تتباين من دين أو مذهب إلى آخر، فالمطلقات الإسلامية تختلف كليا عن نلك المسيحية أو اليهودية، و إن أمكن ـ و هذا رأيي ـ تجاوز هذه الخلافات اللفظية مذهبيا و دينيا إذا ما نظرنا إلى الدين نظرة العقل الفلسفي كبديل عن التدين التقليدي المتخلف السائد في الدول المتخلفة، و أولها دول العالم الإسلامي، فهذه الخلافات في العقائد تسبب تضاربا و تناقضا إذا ما تحولت إلى برامج على الأرض.
يضيف المسيري شارحا نظرية فيبر بالقول:
"و يُـعرّف فيبر عملية الترشيد المادّي بأنه تزايد الضبط المنهجي على كل مجالات الحياة، على أساس تصورات علمية و قواعد و مباديء عامة، تستبعد الولاءات التقليدية و الحماس الكاريزمي و الوسائل السحرية و المرجعيات المتجاوزة لعالم الحواس و المادة، بل و المبادئ الفردية، بحيث يدرك الإنسان أن العالم يتحرك وفقا لقوانين عقلانية مادية قابلة للإكتشاف (أي كامنة فيه)، لا وفق قوى غامضة غير محسوبة مستعصية على الفهم." ـ العلمانية تحت المجهر ص 99
و هذا الكلام الذي يرى فيه المسيري، و من بعده جلال أمين، سلبا و نقصا في الفكر الغربي و إعلان خروج من زمن الإنسان المطلق، هو نفسه الذي يمثل خطاب البقاء في قوقعة العقل المتخلف الذي يؤدي في النهاية إلى تجاوز العقل الخرافي على كل ما له صلة بالعقل الواقعي الموضوعي بحجة "المرجعية المتجاوزة" و الإبقاء على "تبعية صورية" للإنسان إلى الإله، مع أن هذه التبعية (المفترض أنها إيجابية) تمثل مجموع التبريرات الدينية لقهر الإنسان، فالمادة التي يحدثنا عنها فيبر لا تدخل قطعا في قوانين أُخرى غير الكم و الكيف و الوزن و كل المتعلقات الفيزيائية للمادة، فالطبيب حينما يتعامل مع المريض ينظر إليه نظرة حيادية و دون أن يحكم عليه من خلال خلفيته الدوغمائية العقائدية، فإذا افترضنا أن مريضا مسلما يـُعالج من قبل طبيب مسيحي أو يهودي، أو العكس، و إذا سأل الطبيب المريض عن نوعية الأدوية التي يتعاطاها، و كان الجواب مجموعة من الأدوية و العلاجات و من ضمن ذلك العلاج أدعية دينية و زيارة أضرحة أو أماكن مقدسة للمساعدة على الشفاء، فماذا سيكون ردّ فعل الطبيب؟ الحقيقة القائمة هناك في الغرب هي أن هذه المجتمعات ـ المفترض أنها مادية ـ تشجع المرضى على المعالجة الروحية و النفسية دون تهميش الدواء المادي المكون من أمصال أو أغذية يتعاطاها المريض، و هذا ما يفترض أن يقوم به الطبيب (الذي يجب أن يكون حياديا)، أما إذا كان الطبيب يؤمن "بالمرجعية المتجاوز للواقع" فإنه إما سيحاول إقناع المريض أن: (كل دينه باطل).. بما في ذلك الأدعية، و هذا ما يحصل فعليا في عالمنا الإسلامي أو أنه يهمل الجانب العلاجي  الطبي و يترك المريض عرضة للخطر (تحت شعار التوكل).
إن التعامل مع المادة لا يمكن أن يتم إلا من خلال فهم قوانين هذه المادة، و التعامل مع المادة أمر واقع لا علاقة له بالمسألة الأخلاقية إلا حينما تتحول إلى ضرر للفرد و المجتمع، فكل الشعوب قادرة  على تطوير برامج علمية لأغراض سلمية أو حربية مهما كان نوع النظام القائم ـ علمانيا أو دينيا، ديمقراطيا أو دكتاتوريا ـ بشرط توفر جملة شروط من العلل و الأسباب المادية و النظم القانونية و الالتزام بالعمل على هذه الأسباب، إن الجانب الأخلاقي سيتعلق فقط في كيفية استخدام هذه المادة، و الدول الديمقراطية التي تعمل ضمن آلية مراقبة السلطة تمنع الاستخدام السلبي للقوة و المادة، بينما بغيدا عن العقلنة يسهل خلق تبرير بسيط للدخول في حرب أو استخدام العنف و التدمير.
من البديهي أن العالم يحوي أسراره الذاتية الكامنة فيه، و لا ينفع التفلسف و قوة الحجة من إنكار هذه الحقيقة، فطاقة الرياح و الماء في العصر القديم و البخار و الكهرباء و الطاقة النووية في عصرنا الحاضر، كلها أشياء كانت كامنة و موجودة هناك و لكن الإنسان كان يجهلها، و ما أن ازداد وعيه و اطلاعه و معرفته حتى أصبح قادرا على الاستفادة منها، و بالتالي التنظير لأي إضافات روحية تتعلق بالمادة لا يعدو كونه تلاعبا لفظيا من نوعية "الجدال البيزنطي" العديم الفائدة، و هنا نقف مرة أخرى أمام إشكالية مناقشة الفكر معزولا عن الواقع المعاش، فالفلسفات القائمة على النظر المحض ـ كما فعل المسيري ـ غير ذي جدوى إذ هو منفصل عن حياة الناس التي تتحرك كنهر جار.

 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع

جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com