ÇáÃÞÈÇØ ãÊÍÏæä
طباعة الصفحة

رسائل تونسية : هل من حل للتضخم الحزبي؟

العفيف الأخضر | 2011-04-05 10:56:54

بقلم: العفيف الأخضر
" اتفق العرب على ألا يتفقوا "

مثل
يبدو أن تونس ستتبع، فى الاعتراف بالأحزاب، التقليد الديموقراطى السائد فى الدول الديموقراطية : الإخطار. ولكن بشرط شارط : أن يكون برنامج الحزب ملائما للدولة المدنية.
أُعترف حتى الآن بحوالى 50 حزبا. هذا الانفجار الحزبي هو رد فعل متوقع على كبت الاعتراف بالأحزاب الذى ظل سائدا منذ الاستقلال مع اعترافات بالقطارة منذ 7 نوفمبر  1974. مثّل الحزب الواحد فى تونس المستقلة، كما فى باقى البلدان الأخرى الحديثة الاستقلال  ، بديلا للدولة الأمة الغائبة. بورقيبة كان يقول فى خطاباته لمواطنيه : " كنتم هباء من القبائل والعشائر المتقاتلة، أنا صنعت منكم أمة ". كان خطباء حزبه، فى الأربعينات والخمسينات، يستهلون أو يختتمون خطبهم الجماهيرية  بـ : " الحزب الحر الدستورى هو الأمة التونسية ".

إن ردود الفعل على الكبت الحزبى  تساعد على فهم الظاهرة، لكنها لا تصنع سياسة. من الحزم تجاوزها بسرعة إلى القرار المفكر فيه : إلى اندماج أو ائتلاف هذه الأحزاب، تبعا لتشابه البرامج السياسية، فى حزبين كبيرين يتنافسان على الحكم ويتداولان عليه سلميا. للتذكير : الحزبان الكبيران المتنافسان على الحكم والمتداولان عليه يمثلان الاتجاه السائد فى الديموقراطيات المعاصرة. وقد فوّت " التجمع "، حزب نظام 7 نوفمبر، على تونس فرصة ثمينة لولادة الديموقراطية من صلبه هو نفسه بانشطاره إلى حزبين كبيرين، حزب ليبرالي وحزب اشتراكي ديموقراطي. لا جدوى من البكاء على اللبن المسكوب. المهم هو تدارك أخطاء الماضى : لتبدأ الـ 50 حزبا منذ الآن بالتفكير السياسى الواقعى الذى سيملي عليها الاندماج أو الائتلاف فى كتلتين : حزب ليبرالى وحزب اشتراكى ديموقراطى. لأن بقاء 50 حزبا ميكروسكوبياً يتصرف كل منها حسب منطق نرجسية " الفرقة الناجية " قد يدق مسمارا فى نعش التعددية الحزبية الوليدة بتنفير الجمهور منها وربما من اللعبة الديموقراطية نفسها، على غرار ما حصل فى الجزائر فى 1990، عندما تشكل فيها 270 حزبا لكل منها جريدته، فقط للحصول على المساعدات الحكومية المخصصة للأحزاب وصحافتها !
ستكون برامج الحزبين الكبيرين متشابهة كما هى الحال فى البلدان الديموقراطية. السبب؟ لأن صانع البرنامج الذى عرّف المصلحة القومية لكلا الحزبين واحد : الكومبيوتر. الكومبيوتر، الصانع الأول للقرار علمياً فى العالم، لا يتقن إلا لغة واحدة : لغة قراءة المعطيات الموضوعية والاستنتاج المنطقى منها. وهذا ما يفسر أن برامج الأحزاب الكبرى الديموقراطية متشابهة فى تعريفها للمصلحة القومية الداخلية، وفى مقدمتها الحفاظ على استمرارية الدولة، والخارجية وفى طليعتها الدفاع عن حصتها من السوق الدولية. الفوارق بين البرامج تكاد تنحصر فى التفاصيل وفى أسلوب المقاربة الاجتماعية. فهى " اشتراكية القلب " عند الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية، وهى " واقعية اقتصادية " عند أحزاب وسط اليمين.

عائق فى البنية النفسية التونسية الجمعية أعاق حتى الآن اندماج أو ائتلاف أحزاب المعارضة فى السابق، ومن الممكن أن يعيقها اليوم أيضا إذا لم يمارس كل فاعل سياسى جهدا على نفسه لإعادة صياغة شعوره ولا شعوره السياسى لإقامة الحداد على رواسب الماضى وعوائقه
هذا  العائق سيكولوجى- انثروبولوجى. هو ما أسماه المحلل النفسى الفرنسى دانيال سيبونى sibony، كتفسير للاقتتال العربى المزمن، " مجتمع الأخوة " الغيارى من بعضهم بعضا والمقاتلين لبعضهم بعضا فى غياب الأب الذى يملي عليهم القانون : قانون تحريم قتله والاقتتال على ميراثه. لماذا ؟ يقول سيبونى : لأن محمداً لم يمت شهيدا، كما هى حال عيسى وموسى، حتى لو كان استشهادهما واقعة رمزية أكثر مما هى واقعة تاريخية؛ فالآثار النفسية- الثقافية المترتبة على ذلك متشابهة. بل إن الأب الحقيقى، فى الحياة النفسية، هو الأب الرمزي، هو الأب القتيل واقعا أو تخيلا. ونعرف منذ Lacan أن الأب الخيالى imaginaire أو المتخيل imaginé أكثر أهمية من الأب الحقيقى بالنسبة لصياغة النفسية البشرية.

ذكرى الأب القتيل بيد أبنائه تجعل أبناءه القتلة يتوبون من قتله فيحرمون على أنفسهم بعض المحرمات، المؤسسة للمجتمع، كالاقتتال بعده على ما حرمّه عليهم فى حياته : الغيرة والاقتتال على نكاح الأم. بالمقابل ، الأب غير القتيل لم يمل على أبنائه القانون، لم يحرم عليهم الغيرة والاقتتال حتى التفاني . لذلك " اتفقوا على ألا يتفقوا " واتحدوا على ألا يتحدوا ... التشرذم لا الاتحاد هو قدرهم، هو لعنة الفراعنة التى تلاحقهم منذ ليل تاريخهم.
فى غياب وازع قانون الأب الرمزي، يلجأ الأخوة الأعداء ، أحفاد قابيل وهابيل، إلى قانون الغاب.

ثابت التاريخ العربي، منذ الجاهلية حتى الآن، منذ حرب داحس والغبراء  إلى حرب حماس وفتح، هو اقتتال " الأخوة الأعداء " الغيارى من بعضهم بعضا على حساب المصلحة الحقيقية ، المعرَّفة تعريفا صحيحا لكل منهم، من أجل الاستئثار بالأم  -الدولة والأم - الثروة بعيدا عن الحلول الوسطى. هل كانت الفتنة الكبرى شيئا غير ذلك ؟ ألم يقتتل الصحابة "على الولاية ( = الدولة ) لا على الديانة " ، كما لاحظ ابن تيمية ؟ وتشرّب الوعى الجمعى ذلك على أنه سنّة حميدة : " يجوز الاختلاف على الولاية وحتى القتال عليها كما فعل الصحابة ... "  كما كتب إسلامي خليجى ! ألم يكن تاريخ الخلافة الأموية، فى جزء مهم منه، هو صراع رجال القبائل القيسية ـواليمنية الذين كانوا يكفرون بعضهم بعضا لأنهم كانوا يحرمون الصلاة وراء بعضهم بعضا، إذ كان لكل منهم مساجدهم الخاصة، وكان ذلك أحد أسباب ضعف الخلافة الذي أدت إلى سقوطها ؟ ألم يكن اقتتال ملوك الطوائف فى الأندلس على "الأم" أحد أسباب سقوطهم لصالح المرابطين المتعصبين ... ثم أحد أسباب سقوط الأندلس؟. ألم تكن الحرب بين " الأخوة الأعداء " ، بين آل الحسيني وآل النشاشيبي فى فلسطين ،أحد أسباب نكبتهم جميعا؟ أليست حرب فتح وحماس اليوم أحد أسباب إعاقة ظهور الدولة الفلسطينية؟.

قد يبدو للبعض أن هذه الرسائل، كمعظم ما أكتب، ألصق بالهمّ المعرفى منها بالأحداث السياسية التى تملأ الدنيا وتشغل الناس. بلى. لأن الانغلاق على الأحداث المتوهجة هو تركيز على ما يطفو على السطح. وما يطفو على سطح التاريخ ليس سوى " وهم خادع " illusion   fallacieuse" كما يؤكد مؤرخ مدرسة الحوليات Braudel . ما يصنع التاريخ حقا ليس الأحداث ، بل البُنى الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، الثقافية والنفسية الكامنة وراء الأحداث والصانعة لها. تبقى الأحداث من دون إضاءة معرفية للعلاقة بين الحدث والبنية أو البُنى التى أنتجته لغزا تحار فى فهمه العقول.
فى سايكولوجيا الأعماق، كل مكبوت تم تصعيده ولو جزئيا من سديم اللاشعور إلى وضح الشعور، إلى محكمة العقل، لا يعود الموجّه للتصرفات العصابية، ويتوقف عن كونه عائقا للفهم والممارسة؛ فهل سيساعد هذا التوضيح السريع قادة الأحزاب التونسية على الخلاص من عقدةِ نرجسيةِ القبيلة المختارة التى تأبى الائتلاف مع القبائل المحتارة، وعلى إيقاف حرب " الإخوة الأعداء " للتفرغ لبناء وطن مسالم وآمن ومتصالح بائتلافهم فى كتلتين قويتين قادرتين على رد التحديات وكسب الرهانات ؟        

 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع

جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com