بقلم: د. عبدالخالق حسين
نقلت وكالات الأنباء تصريحات السيد أسامة النجيفي، رئيس البرلمان العراقي، في مقابلة له مع قناة "الحرة"، في واشنطن عقب محادثات أجراها مع مسؤولين أميركيين أبرزهم نائب الرئيس جو بايدن ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، أن "العرب السنّة في العراق قد يفكرون بخيار الانفصال إن لم تُعالج أسباب شعورهم بالإحباط الشديد وبأنهم مواطنون من الدرجة الثانية."
لم تكن هذه التصريحات تستحق هذا القدر الكبير من ردود الأفعال لو كانت صادرة من شخص عادي، أو سياسي من الدرجة الثانية والثالثة، ولكن نالت كل هذا الاهتمام لأن السيد النجيفي يمثل ثقلاً ملحوظاً في العملية السياسية، فهو قيادي بارز في كتلة "العراقية"، وتنظيمه السياسي في الكتلة حاز على 20 مقعداً في البرلمان، وهو رئيس البرلمان العراقي، وبالتالي يمثل شريحة واسعة من الشعب، ولذلك من حق السياسيين والمعلقين، بمن فيهم قياديون من كتلته، أن يبدوا دهشتهم ويمنحوا هكذا تصريح كل هذا الاهتمام.
هذه التصريحات ليست زلة لسان، أو ربما سيحاول السيد النجيفي القول بأن الناس أساءوا فهمه، كما هي عادة السياسيين في مثل هذه الحالات!! وإنما المسألة أعمق من ذلك، إنها تدل على أن الشعب العراقي غير متصالح مع نفسه كنتيجة حتمية لتعددية مكوناته، والتي تعرضت للظلم والجور، ولو بدرجات مختلفة، على أيدي الحكومات المتعاقبة قبل 2003. فمنذ تأسيس الدولة العراقية، هيمنت على السلطة نخبة من الضباط العسكريين من خريجي المدرسة التركية الذين خدموا الدولة العثمانية إلى آخر رمقها، والمنتفعين منها بالامتيازات، وبقوا يحاربون إلى جانب الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى إلى أن سقطت، وعندئذ قفزوا من السفينة الغارقة إلى السفينة الناجية (سفينة أبو ناجي!)، فاستعربوا وتبنوا القومية العربية وصاروا عروبيين أكثر من العرب، واختطفوا ثمار ثورة العشرين، وبمساعدة الإنكليز، حرموا قادتها من المشاركة في الدولة الحديثة، وأصروا على إتباع ذات النهج الطائفي التركي، فخدعوا العرب السنة بأنهم يمثلونهم في الدولة الوليدة، وعليهم دعم سلطتهم، وبذلك زرعوا الألغام الطائفية ضد الشيعة، والعنصرية ضد الأكراد وبقية مكونات شعبنا. وهذا التمييز الطائفي والعرقي أكده المرحوم الملك فيصل الأول في مذكرته المعروفة، والتي أشرنا إليها مراراً في مقالات سابقة.
وخلال 82 عاماً كانت السلطات المتعاقبة تحكم العراق بالنهج الدكتاتوري الطائفي والعنصري غير المعلن، وتعامل معظم مكونات الشعب العراقي كمواطنين من الدرجة الثانية، مع إنكارها الشديد لهذه السياسة، فتقمع بشدة كل من يشكو ولو همساً ضد التمييز الطائفي والعنصري، إلى أن انفجر البركان بعد سقوط حكم البعث عام 2003.
ولما جاءت الديمقراطية فجأة وبجرعة عالية، راحت كل مكونة تصرخ: أين حقي؟ فصار الناس أحراراً في التعبير عن أفكارهم، والمطالبة بحقوقهم المشروعة، والتصرف كما يشتهون، ولكن ليس كل ما يشتهون كان جميلاً، بل في بعضها أمور قبيحة يندى لها الجبين، حيث انكشفت عيوب المجتمع العراقي، ومعظمها من مخلفات البعث الذي نشر الجهل، وعمل على تفتيت النسيج الاجتماعي، و تأجيج الصراع الطائفي والعرقي، والردة الحضارية والانهيار الفكري والجريمة المنظمة. ولما شاهد العراقيون كل هذه العيوب، أصيبوا بالصدمة الشديدة، فلم يصدقوا ما يرونه من واقع مزري، فأنكروا أن يكون هذا هو واقعهم، ولا بد من البحث عن شماعة أجنبية لتعليق الغسيل عليها، لذلك أدعوا أن أمريكا هي التي جلبت لهم الطائفية والصراعات الأخرى. وهذا هراء، إذ كلما في الأمر أن أمريكا جلبت لهم الديمقراطية ووفرت الفرصة لأول مرة للشعب لاختيار حكامه بنفسه من خلال صناديق الاقتراع، وبمشاركة جميع مكوناته وعدم السماح لأية مكونة بالاستحواذ على مقدرات الشعب، ولذلك يسعى المتضررون من الديمقراطية إلى تشويه سمعتها، والادعاء بأن ما تحقق هو ليس ديمقراطياً، وحتى طالبوا بإلغائها.
والعلاج في رأيي لا يكمن في دفن العيوب في الرمال على طريقة النعامة، بل تشخيصها وفضحها والبحث عن العلاج الناجع لها. يبدو أن نوري السعيد قد أدرك هذه الحقيقة المرة عن المجتمع العراقي، إذ ينقل عنه قوله: "أن العراق أشبه ببالوعة مجاري الصرف الصحي (septic tank)، وهو (أي نوري السعيد) بمثابة الغطاء لها، وإذا ما أزيح فسوف تتصاعد الروائح الكريهة؟ وقد تحققت نبوءة نوري السعيد بعد ثورة 14 تموز 1958، وبشكل أبشع بعد سقوط حكم البعث عام 2003.
لذلك فتصريحات النجيفي ما هي إلا جزء يسير من هذه الروائح الكريهة التي كانت مكبوتة تحت السطح حذر منها نوري السعيد. فهل حقاً العرب السنة مهمشون ويشعرون بالإحباط إلى درجة أنهم يفكرون بالانفصال، وتكوين دويلتهم المستقلة، وتفتيت العراق إلى دويلات أو كانتونات؟ الجواب، كلا.
والنجيفي من أكثر الصارخين ضد المحاصصة الطائفية، ولا بد أنه اعتقد أن من الشطارة والذكاء إطلاق هذه التصريحات الاستفزازية التي كان يرمي من ورائها ابتزاز منافسيه وكسب الشعبية في منطقته (دائرته الانتخابية)، ولكنه أثبت قلة الخبرة والتجربة حيث كانت النتائج معكوسة عليه. فهذه التصريحات من شأنها تكريس الطائفية، والإساءة للوحدة الوطنية، وإلحاق الضرر بالمكونة التي يمثلها. ولذلك سارع العقلاء من قادة العرب السنة وحتى من كتلته، بإدانة هذه التصريحات والتبرؤ منها.
وليس لأول مرة نسمع مثل هذه الأصوات النشاز، وربما ليس لآخرة مرة، فبعد إسقاط حكم البعث، ظهر في الموصل ضابط برتبة نقيب، نظم حملة طالب فيها الحكومة التركية بضم الموصل إلى تركياً، لأنه لم يتحمل مشاركة الشيعة والأكراد في الحكم، كما قال. كذلك لاحظنا تصرفات النجيفي في الجلسة البرلمانية يوم 11/11/2010، التي تم انتخابه رئيساً للبرلمان، وما أن تحقق غرض كتلة "العراقية" حتى غادر نوابها الجلسة وبتنسيق مسبق، على أمل إيقاف تنفيذ بقية مواد جدول الأعمال، والذي كان منها انتخاب رئيس الجمهورية، وتكليف رئيس أكبر كتلة برلمانية بتشكيل الحكومة. وقد فشلت المحاولة إذ نجح البرلمان في تنفيذ أعماله بغياب معظم نواب "العراقية"، ومن ثم عاد النجيفي ليواصل إدارة الجلسة، وتبين فيما بعد أنه عاد استجابة لمكالمة هاتفية من وزير خارجية تركيا، فنفذ الأمر، بينما رفض الدكتور أياد علاوي، رئيس الكتلة، العودة إلى الاجتماع عندما اتصل به الرئيس الأمريكي أوبا. وهذه المعلومات نشرت فيما بعد. ونستنتج من ذلك أن السيد النجيفي حريص على إرضاء تركيا أكثر من حرصه على وحدة الشعب العراقي.
هل حقاً هناك تهميش للعرب السنة كما يدعى النجيفي وأمثاله؟ في الحقيقة، ليس هناك تهميش لأية مكونة في العراق الجديد، ولكن قادة المكونة التي استحوذت على السلطة والنفوذ لثمانين سنة، ترفض لحد الآن قبول الأمر الواقع بأن تتعامل على قدم المساواة مع بقية مكونات الشعب في نظام ديمقراطي عادل ودولة المواطنة، يكون فيها الجميع متساوين في الحقوق والواجبات، وتكافؤ الفرص، والمشاركة في السلطة وفق ما تفرزه صناديق الاقتراع، دون أي تمييز طائفي أو عرقي. هكذا نظام يرفضه السيد أسامة النجيفي وأمثاله، وكما صرح قيادي آخر في كتلة "العراقية"، وهو السيد طارق الهاشمي، في العام الماضي، استكثر أن يكون رئيس جمهورية العراق كردياً، مدعياً أن العراق بلد عربي، ويجب أن يكون رئيسه عربي! ولذلك يعتبر هؤلاء معاملة العرب السنة أسوة ببقية مكونات الشعب هي تهميش لهم وإجحاف بحقهم، فيفكرون بالانفصال!!. ورفع التهميش في رأيهم لا يتم إلا بإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل 2003. ولكن ليفهم السيد النجيفي ومن يفكر على طريقته، أن هذا الحلم مستحيل تحقيقه، فالعراق هو بلد الجميع، ولا فرق فيه بين أبنائه ومهما كانت انتماءاتهم القومية والدينية والمذهبية. هذا هو العراق الذي نحلم به، ولا بد أنه سيتحقق ومهما بلغت الصعوبات، فهذا هو حكم التاريخ.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com