بقلم: عبدالمنعم عبد العظيم
منذ مائة وستة وعشرين عامًا، كانت هناك امرأة عجوز من قرية اسمها قرية "الحاج قنديل"، المتاخمة لقرية "تل العمارنة" التي كانت قديمًا "أختاتون"، العاصمة التي أقامها "أخناتون" ومارس فيها عبادة الإله الواحد بعيدًا عن سطوة كهنة طيبة عاصمة "مصر" والأمونية. اعتادت هذه السيدة وأهل قريتها، أن يلتمسوا في تلال العمارنة ما يريدونه من سماد لحقولهم، وأتربة لبناء دورهم، وأحجار وطوب، منذ أن حطت قبيلة "عمران" العربية في هذه المنطقة بعد الفتح، وأطلقوا عليها اسم "تل العمارنة" نسبة لقبيلتهم.
حملت هذه السيدة العجوز قفتها (وعاء مصنوع من خوص النخيل والحبال المصنوعة من ليف النخيل أيضًا ومازالت تُستخدم إلى اليوم)، وأخذت في ملئها بتراب التسميد، فاصطدمت أصابعها بجسم صلب أخرجته، فإذا هو قوالب من الطوب المحروق على أحد جانبيها نقوش، فأدركت أنها عثرت على لقية (كنز أثري)، فملأت القفة بهذه القوالب لعلها تجد تاجرًا من تُجَّار الآثار يشتريها، وأقنعها أحد هؤلاء التجار أنها لا تساوي شيئًا وأخذ منها ما جمعته مقابل ريال (عشرون قرشًا)، ففرحت السيدة بهذا المبلغ وزغردت؛ لأنه مبلغ كان ذو قيمة في تلك الأيام، ثم بدأ رجال القرية حفرياتهم، فإذا بهم يعثرون على جدار من طوب أحمر وأصفر وأسود رُصَّت بطريقة منظَّمة في صفوف ليس فيها عوج، حملوها على حميرهم وعادوا إلى قريتهم غانمين، ولم تمض على ذلك أيام حتى كانت هذه القوالب بين أيدي التجار في "أخميم" و"الأقصر" و"القاهرة"، ثم وصل خبرها إلى مدير مصلحة الآثار وقتها "مسيو جريبو رالي"، ووصل مدير المدرسة الفرنسية في القاهرة- مسيو نورمان فاشتريا- بعض منها، وأخذا في فحص النقوش، فأدركا أنها تشبه الخط المسماري، خط الكتاية البابلية القديمة. واستغربا لوجود مثل هذه الكتاية في هذه المنطقة، ثم أرسلا القوالب لعالمين من خبراء الخط المسماري؛ العالم "أوبير" في "باريس"، والأستاذ "سايس" في "لندن" اللذين أكَّدا أن الكتاية بابلية. وعندما أُذيع الخبر اندهش العلماء وأصابتهم الريبة، وتصوروا أن مازحًا صنع الطوب ووضعه في "تل العمارنة" ليداعب به الفلاحين والعلماء. كان عدد القوالب هذه ستمائة قالب تلف منها نصفها، اشترتها متاحف "مصر" و"لندن" و"برلين" و"فيينا"، واشترى بقيتها طبيب معروف بـ"الإسكنرية" من هواة جمع الآثار يُدعى "دانتوس باشا"، وهاوي جمع آثار آخر يُدعى "جراف". وعرف متحف "برلين" القيمة الأثرية لهذه القوالب، فاشترى من "جراف" و"دانتوس" القوالب التي إنكب العلماء على دراستها. ففي أبريل عام 1888 قرأ "سايس" أسماء لملوك "بابليين" وحكام سوريين، وقرأ "أودلف أرمان"- العالم الألماني الكبير- اسم الفرعون المصري "أمونوفيس الثالث"، والفرعون "أمونوفيس الرابع" مكتوبين بالخط المسماري. ثم تضافرت جهود أربعة من العلماء؛ "أبيل ونكلير" في "برلين" و"بيزولد وبودج" في "لندن" على طبع صورة من النقوش التي على الطوب وإذاعتها في جميع المحافل العلمية لتصبح في متناول علماء اللغة المسمارية، واستطاع العالم الفرنسي "هاليفي" أن يترجم مجموعة كبيرة من هذه النقوش باللغة الفرنسية. وبرغم النقص الذي شاب الترجمة، لكن المحاولة استطاعت أن تُلقي الضوء عما جاء في القوالب، وعرف العالم أن هذه القوالب تحوي رسائل سياسية بين فراعنة "مصر" من جانب وملوك "بابل" وآسيا الصغرى وحكام "سوريا" من جانب آخر.
كانت هذه الرسائل أقدم مكاتبات سياسية في التاريخ كشفت العلاقات التي كانت بين "مصر" وجيرانها في عهد الأسرة الثامنة عشرة. وتُعد من أقدم الوثائق التاريخية. كانت "مصر" أيامها "إمبراطورية" يمتد حكمها من "النوبة" و"السودان" إلى "فلسطين" و"سوريا" وسواحل الفرات وآسيا الصغرى، إلى جانب الجزر المنتشرة في الجانب الشرقي من البحر المتوسط. هذه الإمبراطورية التي وحَّد امونوفيس الرابع (أخناتون) عقائدها لتعبد الإله الواحد "آتون"، وقبلها كان في "طيبة" دار تُحفظ فيها المراسلات الخارجية، ولما حوَّل "أخناتون" العاصمة إلى "أختاتون" تل العمارنة، بنى دارًا لهذا الغرض في قصر ملكه، ونقل إليها المراسلات التي كانت محفوظة في "طيبة".
إنها نفس الدار التي كشفتها فلاحة عجوز كانت تجمع السباخ من قرية "الحاج قنديل"، فكشفت عن رسائل كتبها الملوك الأجانب إلى ملوك "مصر". إنه أول أرشيف منظَّم لوزارة الخارجية المصرية في هذا العصر السحيق. وكان لهذا الأرشيف موظفون ومترجمون. ولنا مع الرسائل ومحتواها رسالة أخرى.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com