ÇáÃÞÈÇØ ãÊÍÏæä
طباعة الصفحة

(1( أسباب ثورة 14 تموز 1958*

د. عبد الخالق حسين | 2011-07-15 00:00:00

 بقلم :عبدالخالق حسين

ضرورات التغيير
هناك بديهية مفادها أن كل مرحلة تاريخية هي وليدة المرحلة السابقة، لذلك فمن نافلة القول أن بذور ثورة 14 تموز قد نمت في رحم العهد الملكي نفسه. والثورات لا يمكن تفجيرها "حسب الطلب" أو بفرمان من أحد وإنما هي نتيجة لانفجار تراكمات ومظالم ومتطلبات سياسية واجتماعية واقتصادية، وعندما تنتفي الوسائل السلمية الديمقراطية لتحقيق هذه التحولات المطلوبة، وتتوفر لها الظروف الموضوعية والعوامل الذاتية، عندئذِ يحصل التغيير بالعنف الدموي وما يصاحب ذلك من هزات عنيفة واضطرابات خطيرة في المجتمع، بغض النظر النتائج والعواقب.

كذلك يجب التوكيد على إن ثورة 14 تموز كانت الإبنة الشرعية لثورة العشرين (30 حزيران 1920) ووريثتها، مضموناً وفكراً والتي أرغمت المستعمرين الإنكليز في الإستجابة لمطالب الشعب العراقي في تأسيس الدولة العراقية فيما بعد، كما مر في فصل سابق من هذا الكتاب. إلا إن الإستقلال السياسي بقي ناقصاً دون طموحات الشعب وقواه السياسية، وكانت الدولة مرتبطة بمعاهدات جائرة، لذلك استمرت الإنتفاضات الشعبية والوثبات الوطنية والانقلابات العسكرية، تتفجر بين حين وآخر، وكانت ثورة 14 تموز تتويجاً لتلك الانتفاضات والحركات السياسية ومكملةَ لثورة العشرين، إذ حققت طموحات الشعب العراقي في إنجاز استقلاله السياسي الكامل وسيادته الوطنية، ومهدت السبيل للسيطرة على ثرواته الطبيعية مستقبلاً.

سأحاول قدر الإمكان، وبشكل موثق، إثبات إن المسئول الأول والأخير عن اندلاع ثورة 14 تموز 1958، هو النظام الملكي نفسه، ونوري السعيد تحديداً، الذي وقف ضد الديمقراطية والتحولات الاجتماعية وأمعن في انتهاك حقوق الجماهير الديمقراطية، وأعاق مؤسسات المجتمع المدني، وأوقف التطور السلمي التدريجي، ووقف عقبة كأداء أمام التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي فرضتها قوانين التطور إلى أن استنفد دوره. وحتى الانتفاضات الشعبية والوثبات الوطنية فشلت في تغيير سياسة السلطة نحو الأفضل بسبب القمع، لذلك صرح قائد الثورة الزعيم عبد الكريم قاسم مرة: " لو اعتقدنا أنه كان باستطاعة الشعب أن يزيل كابوس الظلم الجاثم على صدره، لما تدخلنا بالقوة المسلحة، ولكننا كنا نعرف أن الناس كانوا يائسين ولا من يدافع عنهم ."

تدشين مرحلة الانقلابات وتسييس العسكر
يحاول البعض، سواء عن جهل أو عمد، تحميل ثورة 14 تموز 1958 تبعات سياسات النظام البعثي الساقط في العراق وما حل بهذا البلد من خراب ودمار لاقتصاده وتمزيق وحدته وتلويث بيئته وتدمير نسيجه الاجتماعي وتشريد أكثر من أربعة ملايين من أبنائه إلى الخارج، وتحويل الوطن إلى سجن كبير لمن لم يستطع الخروج منه… يعتقد هؤلاء، أنه لولا ثورة 14 تموز لما ابتلى العراق بهذا النظام ولما نزلت عليه هذه الكوارث. فهؤلاء يذكرون فقط ما حصل بعد الثورة، ويتجنبون ذكر ما كان يجري قبل الثورة من مظالم، أي الأسباب التي أدت إلى تفجيرها.

وقد استغل أنصار عودة الملكية، وحتى البعض ممن أيدوا الثورة في وقتها، هذا الوضع المزري الذي عاشه العراق في عهده الجمهوري البعثي، وتبعات سقوطه، فيلقون باللائمة على ثورة 14 تموز وقادتها، والزعيم عبدالكريم قاسم تحديداً، مسؤولية تسييس العسكر وتسلطهم على الحكم ومقدرات البلاد والعباد، وأنها دشنّت عهداُ للانقلابات العسكرية وعدم الاستقرار. ويدّعون أيضاً، أن العهد الملكي كان عهداً ديمقراطياً زاهراً مستقراً، فيه دستور وانتخابات وبرلمان وأحزاب معارضة ديمقراطية، كانت تمارس نشاطاتها بحرية تحت قبة البرلمان، وحقق تقدماً واسعاً في التطور الاجتماعي والاقتصادي، وكان نبتة طرية لبناء المجتمع المدني ومؤسساته الديمقراطية "لولا اقتلعها عبد الكريم قاسم" على حد تعبير أحدهم. وبذلك فهم يدَّعون أنه لم تكن هناك أسباب كافية لقيام "الإنقلاب" وإن ما حصل في 14 تموز 1958 كان نتيجة طيش بعض الضباط المغامرين في الجيش لتحقيق طموحاتهم في السلطة والجاه.

إن سبب هذا التفسير الخاطئ لما لحق بالعراق في عهد صدام حسين من دمار، هو لأن العراق يعيش مرحلة الإنحطاط الحضاري والإنهيار الوطني، منذ تسلط حزب البعث على السلطة. والإنهيار الوطني يصاحبه عادة إنهيار فكري، إذ يسيطر اليأس والإحباط على النفوس في الخلاص من الوضع المزري، وتحصل البلبلة والتشويش، فيلجأ قطاع واسع من الناس إلى الإيمان بالخرافات والتفسيرات الغيبية، فيفسرون ما حصل انه عقاب من الله تعالى لإبتعادنا عن تعاليم الدين، وانه امتحان لنا بهذا البلاء. لذلك نجد قسماً كبيراً منهم، يلجئون إلى الغيبيات والدين متضرعين إلى الله تعالى، طالبين العفو والغفران عن المعاصي لخلاصهم من هذا الظلم.

وهذا الإنهيار الفكري لم يشمل الناس البسطاء في المدن والأرياف فحسب، بل أثر بشكل وآخر حتى على عدد من المثقفين. فلن نستغرب أن نرى شخصاً كان بالأمس متحمساً للماركسية وإذا به الآن يدعو للورع والتقوى والتدين. هذه هي ظاهرة الإنهيار الفكري التي تصاحب الإنهيار الوطني في كل مكان وزمان نتيجة الشعور باليأس والإحباط في الخلاص من الكارثة، لأنها فقدت الثقة والأمل بتحقيق الخلاص من هذه المحنة عن طريق النضال الحاسم والقوى المادية، فتلجأ النفوس إلى الإيمان بالخرافات والغيبيات والقوى الخارقة الميتافيزيقية.. الخ أملاً في الخلاص... (طالبين النصر من عنده تعالى- على حد تعبير نزار قباني).

ولا نستغرب أيضاً من تفسيرات غريبة وعجيبة يطلقها هذا المثقف أو ذاك في تفسيرات مشبوهة أو خرافية وغير معقولة لتعليل هذه الظاهرة أو تلك، متصيدين بالماء العكر في عملية خلط الأوراق وحرق الأخضر بسعر اليابس. ومن الجدير بالذكر أني ذكرت مثل هذا الكلام في إحدى الندوات في شمال شرق إنكلترا عام 1998، إبان الحملة الإيمانية التي دشنها صدام حسين، فقاطعني أحد الحضور بغضب، متهماً إياي بالكفر، مدعياً إن هذا التوجه الإيماني والحملة الإيمانية في العراق بعد حرب الخليج الثانية، ما هو إلا من الله تعالى الذي أدخل الإيمان في قلوب العراقيين. فذكرته بأن هذا السلوك ليس غريباً على الدين وقد جاء ذكره في القرآن الكريم أيضاً وتلوت عليه الآية الكريمة: "وإذا مسكم الضر في البحر من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً" (الآية67، سورة الإسراء). إن لجوء الإنسان إلى الله أيام المحنة فقط وتخليه عنه فيما بعد ليس بالأمر الجديد. وتكفير الآخرين أصبح أمراً مألوفاً في هذا الزمن الرديء. لذلك فلا عجب أن نواجه بعضاً من هذه التفسيرات الخاطئة ومنها تحميل ثورة 14 تموز تبعات ما حصل في العراق على يد النظام البعثي في العراق. وهذا التفسير الخاطئ هو نتيجة الإنهيار الفكري وإستثمار الأزمة لأغراض مشبوهة من قبل البعض.

إن إلقاء تهمة تسييس العسكر وتدشين مرحلة الانقلابات على ثورة 14 تموز لم يصمد أمام أية مناقشة منصفة، إذ لم يكن العسكر غرباء عن الدولة العراقية في عهدها الملكي، فأغلب المساهمين في تأسيس الدولة العراقية كانوا من العسكر، سواءً الذين عرِفوا بالضباط الشريفيين من خريجي المدرسة العسكرية التركية، ومنهم نوري السعيد نفسه الذي كان برتبة جنرال والذي تولى رئاسة الحكومة 14 مرة. كذلك ياسين حلمي الهاشمي، والفريق جعفر العسكري والفريق نوري الدين محمود وجميل المدفعي وغيرهم تسلموا رئاسة الحكومة في العهد الملكي وكانوا عسكريين من الضباط العراقيين في الجيش العثماني. لا بل أن العسكر قد وجدوا حتى قبل تأسيس الدولة العراقية، بمعنى أنهم كانوا مسيّسين قبل تأسيس الدولة، ولهم دور كبير في تأسيسها. وكون العراق يعيش وضعاً متخلفاً كأي بلد في العالم الثالث، فالدولة كانت تابعة للجيش وليس الجيش تابعاً للدولة.

لذلك، فمرحلة الانقلابات العسكرية لم تبدأ بيوم 14 تموز 1958 كما يدعي البعض، وإنما دشنت في العهد الملكي نفسه بانقلاب الفريق بكر صدقي عام 1936، (ويعتقد البعض أن الملك غازي كان مشاركاً به) وما تلاه من خمسة انقلابات عسكرية مستترة أخرى، وأحداث مايس 1941 بقيادة العقداء الأربعة والتي عرفت بحركة رشيد عالي الكيلاني. وكانت هناك محاولات انقلابية عسكرية لم يكتب لبعضها النجاح، كلها حصلت في العهد الملكي أي قبل 14 تموز 1958 . وبذلك فإن تسييس العسكر قد حصل في العهد الملكي، وإن ثورة 14 تموز هي نتيجة وليست سبباً له.

 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع

جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com