بقلم: فرانسوا باسيلي
رحل والدي القمص بولس باسيلي عن عالمنا الفاني في 19 يوليو 2010 - عن أربعة وتسعين عاماً - وفي الذكري السنوية الأولي لانتقاله أقدم هنا مقالاً كنت قد كتبته في عيد ميلاده الثالث والتسعين. فرانسوا باسيلي
الوصف الأكثر دقة لإنجازات القمص بولس باسيلي كتبه قداسة البابا الأنبا شنودة الثالث ونشر كمقدمة لعدد من كتب والدي. يقول فيه قداسة البابا:
"الأب الموقر القمص بولس باسيلي واعظ وخطيب معروف لدى الجميع، قضى حياته كلها في الوعظ، يحمل على كتفيه خبرة نصف قرن من الزمان في هذا المجال، أستاذ بالكلية الإكليريكية، تتلمذ على يديه مئات من الخريجين والكهنة، وهو أيضاً كاتب له إنتاج وافر يربو على الأربعين كتاباً، وصحفي أصدر مجلة مارجرجس منذ أكثر من ربع قرن، وهو رجل وطني ساهم في خدمة بلدنا العزيز عن طريق عضويته في مجلس الشعب واللجنة المركزية. وفي الناحية الإجتماعية عن طريق جمعية الكرمة وخدمة المكفوفين. وله بمنبر الكنيسة علاقة طويلة المدى في القاهرة والأقاليم، ويعرفه سامعوه كخطيب مفوه، له أسلوب قوي، وصوت جهوري، وسعة إطلاع في مجالات عديدة، وكثيراً ما يذهلني نشاطه وكأنه مجموعة من الناس في رجل واحد"!
والحقيقة أن قداسة البابا قد قدم تلخيصاً بارعاً جامعاً لا يسعنى هنا سوى أن أقوم بإضفاء بعض التفاصيل على إنجازات ومواقف كل واحد من مجموعة الناس هذه التي وجدها قداسة البابا مجتمعة في أبونا بولس وهم رجل الدين ورجل الوطن ورجل الفكر ورجل الإنسانية.
ظهرت على الشاب فؤاد أفندي باسيلي – إسمه قبل الرسامة الكهنوتية – مواهب مبكرة في القيادة والخطابة، وحينما أنشأ أستاذه حبيب جرجس الكلية الإكليريكية التحق بها وتخرج ضمن أول دفعة من خريجيها، وعينه حبيب جرجس أستاذا لكرسي الوعظ بالكلية، وذاع صيت الكلية الإكليريكية بسرعة – وكانت أيامها في حي "مهمشة" بالقاهرة – والتحق بها بعد ذلك الجيل الأول من قادة الكنيسة اليوم، ومنهم بالطبع "نظير جيد" أي قداسة البابا شنودة الثالث، والواقع أن كل من تخرج من الكلية الإكليريكية منذ نشأة كرسي الوعظ بها وحتى تقاعد والدي لبلوغه سن الستين عام 1976- ومنهم قداسة الأنبا شنودة - لابد أنه تتلمذ في مادة الوعظ على يدي أبونا بولس باسيلي الذي عين أستاذا للوعظ عام 1938.
ومن إنجازاته إصداره لأول مؤلفاته كتاب "حياة موسى" عام 1939 وكان عمره ثلاثة وعشرون عاما – وهو كتاب قال عنه حبيب جرجس: "هذا ليس كتابا يا فؤاد، هذه رسالة دكتوراة"!. وأسس دار النشر القبطية عام 1948، وفي عام 1954 أسس الإتحاد الإكليريكي العام الذي تطور فيما بعد إلى "رابطة خريجي الإكليريكية"، وفي عام 1969 عين مشرفا عاماً لإذاعة صوت الإنجيل اللبنانية بالقاهرة، وفي نفس العام أوفده البابا كيرلس السادس مع وفد من الكهنة إلى روما لاستلام رفات القديس مارمرقس وإعادتها لمصر، كما أن مؤلفاته تتضمن سلسلة كاملة باسم "المواعظ النموذجية" هي مرجع فريد يتضمن عظات كاملة متنوعة لكل يوم صلاة من أيام السنة، ولكل مناسبة دينية. وهو مرجع مايزال الوعاظ والكهنة ينهلون من نبعه ومازال بلا مثيل حتى اليوم. وفي عام 1971 منحه بابا روما ميدالية القديس بطرس التذكارية، وفي نفس العام انتخب عضوا بمجلس الشعب المصري كأول (وآخر) كاهن قبطي يدخل البرلمان بالإنتخاب الحر.
وكان فؤاد باسيلي يصحبني معه في الكثير من سفرياته حيث ذاع صيته كواعظ مؤثر فكان يدعى من الكنائس والجمعيات في كافة أنحاء مصر، وكانت عظاته مزيجا مدهشاً من القصص الدينية والعبر الأخلاقية والاستشهادات الأدبية والفلسفية والأشعار العربية والنوادر والطرائف بل وحتى "النكت" المصرية تلقي كلها بصوت جهوري واثق من نفسه ومن خطابه فيجبر الحضور علي الانصات واليقظة والتعلم. ولم يكن في مصر وقتها من يعظ بهذا الاسلوب ولا بهذا الزخم الديني والثقافي، وأذكر أنه أخذني مرة لحضور مولد ميت دمسيس وكان من أشهر الموالد القبطية في مصر وقتها، وبعد إلقاء موعظة في الجموع الحاشدة هناك ركبنا مركبا صغيراً أو "معدية" للذهاب إلى الطرف الآخر من "نهر النيل" ولدهشتي رأينا مراكب أخرى يأتي منها الطبل والزمر وترقص فيها "الغوازي". وعاد فؤاد باسيلي يومها ليبدأ في مجلة مارجرجس سلسلة مقالات نارية تطالب بإصلاح الموالد الدينية وتنقيتها مما لا يمت للدين بصلة، وكان بمجلة مارجرجس باب دائم بعنوان "حراب مارجرجس" مخصصا لحملات ضد الخرافات والإنحرافات، وظل يصدر مجلة مارجرجس بمفرده وعلي حسابه الخاص طوال ثلاثة وثلاثين عاماً ولم يتوقف عن اصدارها إلا مضطرا إذ منع من ذلك بعد سجنه من قبل السادات، ويعد استمراره في إصدار مجلة دينية لكل هذه السنوات دون أن تكون وراءها مؤسسة للنشر أو ممول كبير إنجازا مدهشا حقا.
واصطحبني معه مرة لحضور واعظ قدير يكبره سنا هو الأستاذ عياد عياد، وكان هو أيضاً ذائع الصيت كواعظ متمكن، ومرة أذكر أنه أخذني معه لحضور إجتماع في قاعة للإخوة البروتستانت، وفي وسط الإجتماع إذا ببعض الحاضرين ينتفض من على كراسيهم ليرطنوا بكلمات غريبة لا تعني شيئا ولا تمت لأية لغة، وسمعت والدي بعدها في جلسة مع آخرين يبدي اعتراضه على هذه التصرفات وعدم اعترافه بها، وعرفت بعد ذلك ان بعض الجماعات البروتستانتية تؤمن بظاهرة "التكلم بالألسن". وتكونت في ذهني منذ ذلك الوقت حساسية شديدة ضد كافة مظاهر الخرافة التي يقوم البعض – بحسن نية كاملة – بإقحامها على العبادات الدينية والإيمان الديني – وهي ظاهرة موجودة لدى بعض المؤمنين في كافة المذاهب والأديان، إذ هي ظاهرة إنسانية في المقام الأول لها علاقة بمستوى التعليم – أو مستوى الجهل – السائد في المجتمع.
وكان فؤاد باسيلي متديناً في إعتدال ومنفتحاً علي عالم الأدب والثقافة والفنون وأخذني في صغري لحضور حفل موسيقي يعزف فيه عازف الكمان الأول في مصر وقتها سامي الشوا، كما كان يقيم حفلات لتمويل جمعية الكرمة الخيرية التي أسسها عن طريق تأجير مسرحية كاملة من المسرح القومي منها مسرحية السلطان الحائر لتوفيق الحكيم، وكان هذا عملاً رائداً فحتي اليوم لا تقدم الهيئات القبطية سوى أعمالاً ومسرحيات دينية بشكل وعظي خطابي مباشر لا يمت للفن بصلة، بنما عرف فؤاد باسيلي قيمة الفن المجرد في تهذيب النفس ولم يحاول أن يخلطه عمداً بالدين.
وبعد سنوات من الوعظ الديني كواعظ ثابت في كنيسة مارجرجس بالجيوشي بشبرا، قام البابا كيرلس السادس برسامة فؤاد باسيلي كاهناً على نفس الكنيسة باسم القس بولس باسيلي عام 1966 فبدأ بذلك مرحلة جديدة من الخدمة الدينية والرعاية الكهنوتية، تنقل فيها أبونا بولس من كنيسة مارجرجس إلى كنيسة العذارء بمسرة ثم إلى كنيسة العذراء بالوجوه وأخيراً إلى كنيسة الأنبا انطونيوس أيضا بشبرا.
و كان أبونا بولس يعشق شبرا بكل ما فيها ومن فيها، وعندما كان يزورني في نيويورك ونأخذه لزيارة أجمل الأماكن في أنحاء أمريكا مثل مدينة واشنطن العاصمة أو شلالات نياجرا، كنت كثيراً ما أراه سارحاً ببصره فأسأله فيما تفكر يا أبونا؟ فيقول في شبرا! فنضحك ونصيح معترضين: معقول؟ وكان يضجر من الهدوء الشديد في منطقة بيتي في نيو جرسي ويعترض أ نه لا يرى الناس يمشون في الشوارع يتكلمون ويتسامرون وكان حين يرى الشوارع مهجورة يقول كلمته الشهيرة: "عمار يا شبرا"! وأذكر أنه في طفولتنا أنا وأشقائي سمير وفريد كنا نجد الكثير من أصدقائنا يتركون شبرا مع عائلاتهم إلى أحياء أكثر "وجاهة" مثل مصر الجديدة أو الزمالك أو المهندسين، وكنا نطلب من أبونا أن نفعل مثلهم ونترك شبرا، فينظر إلينا في عتاب شديد ويقول: كيف أفعل ذلك؟ إن شبرا هي مكاني وأهلي وأحبائي ولن أتركها أبداً. يقول هذا وهو الذي سافر إلى روسيا وبولندا في الشرق، وأمريكا وكندا في الغرب، ولبنان والقدس والسودان في الشرق الاوسط، وفعل ذلك في الخمسينات إلى السبعينات عندما لم يكن السفر متاحاً كما هو الآن.. لكنه لا يخلص إلا لشبرا. وإلا لمصر.
بالإضافة إلى الجوانب الدينية والوطنية والفكرية فهناك جانب الخدمات الاجتماعية التي كان له فيها إنجازات مدهشة، إنك لتصاب بدهشة حقيقية حين تنظر إلى حجم المؤسسات الاجتماعية التي قام بإنشائها وفي الزمن المبكر الذي ظهرت فيه، في ريادة حقيقية لهذا النوع من الخدمات لذوي الاحتياجات الخاصة في مصر، فقد أسس أبونا بولس جمعية الكرمة للمكفوفين عام 1953 بميزانية 8 جنيهات (وهو مبلغ لا بأس به في ذلك الوقت!!) لتصل ميزانيتها إلى ثلثي مليون جنيه عام 2001، ولم تكن في مصر أي جمعية قبطية للمكفوفين في ذلك الوقت وقد نمت من شقة ضيقة إلى عدة مجمعات من عدد من المنازل في القاهرة والإسكندرية. إنها الآن 14 مؤسسة في مؤسسة واحدة تضم مؤسسات للمكفوفين والكفيفات، والعجائز والأرامل، وحضانة أطفال، ورعاية للمسنين والمسنات، ودار للمغتربات، ومستوصف للعلاج الخيري، ونادي للأطفال، ومكتبة صوتية للمكفوفين تضم أعمال نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم والعقاد وسلامة موسى وغيرهم، وقامت بالعناية بالمئات من الأطفال المكفوفين من الجنسين وتربيتهم وتعليمهم حتى حصل بعضهم على شهادات الماجستير والدكتوراه في الآداب، وقد ذاع صيت الجمعية عالميًا فزارتها بعثة من مؤسسة جون ملتون الأمريكية الذي سجل سكرتيرها العام دكتور سميث كلمة بعد زيارته للجمعية قال فيها: "نحن أمام معجزة في الشرق الأوسط"!
ولاشك أن الإمتحان الأعظم الذي واجه أبونا بولس كان ذلك الموقف الذي أودى به إلى سجن طره عام 1981 ليقضي به حوالي تسعة أشهر، ففي نهايات السبعينيات كان الشيخ الشعراوي في بعض حلقاته التلفزيونية يتعرض بتهكم للكتاب المقدس والمؤمنين به، متهما الإنجيل بالتحريف والمسيحيين الذين يؤمنون به بالكفر، وكانت الجماعات الإسلامية التي أطلقها نظام الرئيس السادات على المجتمع المصري قد بدأت تبذر بذور الكراهية والتكفير وهدر الدم ضد الأقباط، بغطاء كامل من نظام السادات الذي مكنها من السيطرة على الجامعات والنقابات والوزارات والأحياء الشعبية والوجدان الشعبي المصري لدى المسلمين سيطرة مازلنا نعاني من آثارها المدمرة حتى اليوم. وكان يمكن لأبونا بولس ألا يرد على الشيخ الشعراوي وكان يمكنه ألا يعرض مكانته لأي ضرر، وكان وقتها قد دخل وخرج من مجلس الشعب كعضو منتخب عن دائرة شبرا (من 1971 – 1975) وكان حائزا على عدة جوائز وأوسمة منها قلادة من سيدة مصر الأولى جيهان السادات لإنجازاته الإجتماعية كما كان يتقلد عددا من المناصب الشرفية والقيادية لمصر والتي لاشك كان يعرف أنه يمكن أن تهتز أو تضيع كلها إذا ما فتح فمه وتكلم.
ولكن هذه هي الأوقات التي تظهر فيها معادن الرجال الحقيقية، ونجد ان ابونا بولس باسيلي بعد أن رُفض طلبه للرد على الشعراوي في التلفزيون قام بتسجيل رده كاملاً على ثلاث شرائط كاسيت راح الآلاف يتلهفون عليها بعد ذلك وماتزال موجودة لدى الكثيرين، كما قامت بعض مواقع الانترنت بوضعها عليها. واللافت في رد ابونا بولس على الشيخ الشعراوي هو أن ردوده كانت كاملة تفند إتهامات وتهجمات الشعراوي ضد المسيحية وضد الإنجيل كلمة كلمة، وأنها كانت ردودا قوية واضحة شجاعة بصوته الجهوري، ولكنها في نفس الوقت كانت ردوداً مهذبة، لا تنزلق إلى مستنقع رد الإهانة بمثلها، ولم تنزلق إلى التهجم أو التهكم على الدين الإسلامي أو مقدساته أو رسوله، وإنما كان الرد عقلانيا موضوعيا، محافظا على أدب الحوار وعلى وحدة مصر الوطنية التي لم يهتم بها الشيخ الشعراوي في تهجمه على معتقدات الأقباط وكتابهم المقدس، فجاء الرد قوياً دون أن تفقده القوة أدبه، ومؤدباً دون ان ينتقص الأدب من قوته وجرأته. ولعل هذا يكون مثالا للكثيرين في يومنا هذا الذي نرى ونسمع فيه على صفحات الانترنت تبادلا مهينا للشتائم والإهانات لمعتقدات ومقدسات الآخرين مسلمين ومسيحيين، في سقوط مؤسف للعلاقة بين أبناء الوطن الواحد.
واقتيد ابونا بولس باسيلي إلى السجن وألقوا به على الأسمنت في زنزانة صغيرة بلا نوافذ ولا أثاث سوى حفرة في الركن، وذلك ضمن قرارات السادات الهوجاء في سبتمبر 1981، وكان أبونا من آخرمن أفرج عنهم بعد استلام الرئيس مبارك للسلطة وبعد الإفراج عن معظم المسجونين الآخرين. وقد وصف أبونا بولس تجربته في السجن في عدد من كتبه ولخصتها في مقال مستقل. فماذا فعل بعد خروج من السجن؟ أصدر كتابين أحدهما هو "الأقباط وطنية وتاريخ" والآخر هو: "أنت أخي، وأنا أحبك"يخاطب فيه شريكه في الوطن، إذ لم يفقد حتي بعد تجربة السجن القاسية ثقته في مصر والمصريين مسلمين ومسيحيين.
وفي كل هذه المراحل والمواقف والإنجازات ضرب لنا أبونا بولس باسيلي المثال لما يجب أن يكون عليه رجل الدين الحقيقي في هذا العصر وفي كل عصر، وقد قال عنه نيافة الانبا موسي أسقف الشباب " أبونا بولس كان نموذجا للكهنوت المثالي" .
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com