بقلم :د.عبدالخالق حسين
" قول الصدق في زمن الخديعة عمل ثوري "- جورج أورويل
في فوضى التعابير والمصطلحات السياسية، اختلط الأمر على البعض، فاعتبر كلمة (اليسار) مرادفة للشيوعية حصرياً، وهذا خطأ. نعم، كل شيوعي يساري، ولكن ليس كل يساري شيوعي. فاليسار تعبير فضفاض يشمل طيفاً واسعاً من السياسيين التقدميين الذين يناضلون ضد الظلم، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وهذا الموقف ليس حكراً على الشيوعيين. وكما بيَّن المفكر المصري الراحل، أحمد عباس صالح، في كتابه القيم (اليسار واليمين في الإسلام)، أن الصراع بين اليسار واليمين كان قديماً منذ فجر الإسلام، ولكن دون وجود هاتين المفردتين آنذاك، فكان اليسار ممثلاً بشخص الإمام علي (ع) وأتباعه، واليمين بشخص عثمان وأتباعه من بني أمية، وبعد مصرع الإمام علي، ابتلي الإسلام والمسلمون باليمين وإلى الآن.
وعن مفهوم اليسار، قال المؤرخ والفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ريفيل: " أن تكون يساريا هو أن تناضل من أجل الحقيقة والعدالة الاجتماعية، ولا مخرج لليسار الفرنسي ما لم يعترف بأن ونستن تشرتشِل كان أقرب لليسار من جوزيف ستالين"، وكان من رأيه ورأي كثيرين من اليساريين أن ستالين عدو للشيوعية.
ومما يجدر ذكره، أن المصطلحين، اليسار واليمين، ظهرا لأول مرة إبان الثورة الفرنسية، حيث كان نواب الفقراء يجلسون على يسار الملك لويس السادس عشر، ونواب النبلاء الإقطاعيين على يمينه، فشاع تعبير اليسار واليمين منذ ذلك الوقت. والحقيقة إن الثورة الفرنسية أغنت القاموس السياسي بالكثير من المفردات السياسية، معظمها كانت ألقاباً لأشخاص اشتهروا في سلوكيات معينة، فصارت ألقابهم مصطلحات تعبر عن تلك السلوكيات مثل الشوفينية، نسبة إلى جندي فرنسي يدعى Nicolas Chauvin، الذي كان متطرفاً في وطنيته الفرنسية، وغيرها من مصطلحات لا مجال لذكرها.
وعلى ضوء ما تقدم، فجميع الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية في العالم هي يسارية ولو بدرجات مختلفة.
دعوة لإعادة النظر في المسلَّمات
منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، تم تثقيف العراقيين بالكثير من الأفكار المعادية للغرب، بما فيها قيمه الحضارية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وغيرها... وعلمونا منذ تعليمنا المبكر، أن هذه القيم والمفاهيم ما هي إلا خدع استعمارية، ومن نتاج الرأسمالية "المتوحشة"، غرضها خدع الشعوب واستغلالها ونهب خيراتها، حتى صارت هذه التعاليم غذاءنا الثقافي والروحي اليومي، ومن المسلَّمات التي لا يمكن الشك بها. ولذلك اعتبروا معظم المعاهدات والأحلاف العسكرية التي أبرمتها الحكومات العراقية المتعاقبة في العهد الملكي مع بريطانيا وغيرها، أنها معاهدات استعمارية إسترقاقية مخلة بالسيادة الوطنية، غرضها استعباد الشعب ونهب ثرواته. لذلك استمرت الانتفاضات الشعبية ضد هذه المعاهدات والتحالفات العسكرية، ودفع الشعب تضحيات جسيمة من أرواح أبنائه، وبدون أي مقابل، كانت حصيلتها الكوارث، وآخرها حكم البعث الفاشي الذي جعل من العراق.
خرائب وأنقاض.
وبعد كل ما حصل للشعب العراقي من كوارث بسبب هذه السياسات والمفاهيم المعادية للغرب، نعتقد أنه قد حان الوقت لنعيد النظر في تاريخنا ونخضع تلك التعاليم والمفاهيم للمساءلة، كأن نسأل: لماذا حصلت هذه الكوارث؟ وأين يكمن الخطأ؟ وإلى متى نبقى نتردد حتى من طرح السؤال عن مدى صحة هذه المفاهيم، خوفاً من أن توجه ضدنا تهمة الجهل أو معاداة الوطن؟
المعاهدات والانتفاضات في العهد الملكي
معظمنا يذكر بفخر واعتزاز الانتفاضات الشعبية في العهد الملكي، والتي لعب الشيوعيون فيها دوراً بارزاً في تنظيمها وقيادتها ضد المعاهدات التي أبرمتها الحكومات المتعاقبة في ذلك العهد مع بريطانيا. ففي وثبة كانون الثاني عام 1948 ضد معاهدة بوتسموث (جبر- بيفن) قتل وجرح فيها أكثر من 400 في بغداد حسب ما جاء في كتاب حنا بطاطو الذي حصل على الأرقام من سجلات الشرطة، عدا العشرات، وربما المئات، من الذين سقطوا في النهر واستشهدوا، ولم يعرف عددهم. أقول، هل الإنسان العراقي بهذا الرخص بحيث يضحى بحياته، مع العلم المسبق بشراسة القمع في مواجهة هذه الانتفاضات آنذاك، ومقابل ماذا؟ لقد أصبح التمجيد بالاضطهاد والتضحيات كل ما كسبه الشيوعيون، حتى صار الاضطهاد بحد ذاته هدفاً من أهداف حزبهم.
والسؤال هنا، هل كانت معاهدة بورتسموث بهذا السوء بحيث كان على شعبنا أن يدفع كل هذه التضحيات لإلغائه؟ وهل كان الشيوعيون يحرضون ضد هكذا معاهدة ويصفونها "بمعاهدة استعمارية استرقاقية" لو كانت قد أبرمت مع الاتحاد السوفيتي مثلاً؟ فالآن، ونحن في القرن الحادي والعشرين، نعلم الجميع، أن هناك العشرات من الدول ترتبط مع بعضها بمعاهدات سياسية واقتصادية وأحلاف عسكرية، مثل دول حلف الناتو، والوحدة الأوربية. وكذلك في عهد الاتحاد السوفيتي، كانت الدول الاشتراكية في حلف وارسو، فهل كانت سيادة هذه الدول ناقصة بسبب هذه المعاهدات والأحلاف العسكرية؟ والآن لأمريكا قواعد عسكرية في عشرات الدول مثل اليابان، وكوريا الجنوبية، وألمانيا، وقطر، بل وحتى في بريطانيا العظمى، فهل خسرت هذه الدول سيادتها؟
لذلك، أعتقد أن الشيوعيين الذين كان لهم الدور البارز في التأثير على الشارع العراقي وتحريضه للتظاهر ضد تلك الأحلاف والمعاهدات، كان موقفهم منسجماً مع سياسات الاتحاد السوفيتي، وربما بإيعاز منه، ولكن بذريعة الدفاع عن مصلحة الشعب والسيادة الوطنية. ووفق قناعاتنا اليوم، لا أرى هذه الانتفاضات كانت في صالح شعبنا، بل العكس هو الصحيح، إذ جلبت له الكوارث على المدى القصير والبعيد.
وإذا كانت القوى الوطنية معذورة في تبنيها مواقف عدائية متشددة ضد الغرب، ومناهضتها لمعاهدة بورتسموث وغيرها آنذاك، حيث كانت تتعامل مع تلك المعاهدات بذهنية وثقافة مرحلة الحرب الباردة، والانحياز للمعسكر الاشتراكي ضد الغرب الاستعماري، فالأمور مرهونة بأوقاتها، ولكن هل من الحكمة مواصلة ذات السياسة الخاطئة وأن نبقى أسرى عقلية تلك المرحلة ونحن في القرن الحادي والعشرين، زمن العولمة والقطب الواحد، وتداخل مصالح الشعوب؟ نعم، ليس بإمكاننا تصحيح أخطاء الماضي، ولكن ألا يحق لنا أن نعيد النظر في هذا الماضي وننتقد أخطاءه لكي لا نكررها؟
الموقف من العولمة؟
نشرت قبل سنوات مقالاً بعنوان (العولمة حتمية تاريخية)[1]. من المؤسف القول أن مازال بعض القوى السياسية رغم أنها تحسب نفسها تقدمية إلا إنها تتعامل مع قضايا اليوم، مثل العلاقات العراقية – الأمريكية، بعقلية ومفاهيم رجعية، أي بعقلية مرحلة الحرب الباردة. لذلك يعتقدون خطأً بـ "اعتبار انسحاب القوات الأميركية من العراق مشتركا وطنيا غير قابل للمساومة" حسب تصريح قيادي شيوعي لصحيفة (الشرق الأوسط) قبل أيام، وكذلك عداءهم للعولمة. فالعولمة أصبحت اليوم حقيقة لا يمكن مناهضتها أو حتى تجاهلها، بل الترحيب بها، والاستفادة من إيجابياتها الكثيرة، لأنها حتمية تاريخية، ونتاج التقدم العلمي والثورة التكنولوجية في الاتصالات ونقل المعلومات، حيث جعلت من العالم قرية كونية صغيرة، ومصالح الشعوب متداخلة ومتشابكة.
فعالمنا اليوم يواجه مشاكل وتحديات عالمية كبرى مثل الإرهاب، والمجاعة في أفريقيا، والجفاف وشحة المياه في العالم الثالث، والأوبئة، وتغير المناخ، والإنحباس الحراري، والأزمات المالية والاقتصادية، وحروب إبادة الجنس، وسباق التسلح النووي، والصراعات السياسية بين الدول (مثل الصراع العربي-الإسرائيلي)...وغيرها كثير من المشاكل العالمية التي لا يمكن مواجهتها إلا بتضافر جهود دولية مشتركة. فكيف والحالة هذه يطالب الرفاق بمناهضة العولمة؟
إن الذين يدعون إلى مناهضة العولمة دليل على أنهم مازالوا يتعاملون مع مشاكل اليوم بعقلية الأربعينات من القرن الماضي، وعقلية الحرب الباردة، ولم يتعلموا أي درس من الكوارث الماضية وسياساتهم الخاطئة، فالسياسي الحصيف هو الذي يحاول الاستفادة من إيجابيات العلاقة مع الدولة العظمى والعولمة لا معاداتهما. ويجب أن يفهم هؤلاء أن المعسكر الشيوعي أنهار لأنه ضد الطبيعة البشرية، والنظام الديمقراطي الرأسمالي انتصر وفق مبدأ البقاء للأصلح.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com