حُسم الأمر، وبدأت محاكمة القرن، وتحديدا محاكمة الرئيس المصرى السابق حسنى مبارك فى تمام الساعة التاسعة من صباح الأربعاء 3 أغسطس 2011.
حُسم الأمر لتبدأ واحدة من غرائب وأصعب المحاكمات التى لم تكن مُتصورة من قبل، كانت كالحلم الذى راود المصريين جميعا وأحاطت بها الشكوك حتى قبل لحظات من بدء وقائعها. فالرئيس المصرى يُعد نموذجا لرئيس مطلق الصلاحيات، وكأننا أمام أحد فراعنة التاريخ القديم، ولكنه فى لباس عصرى، وكان من الصعب، بل والاستحالة تصور أن يقبع فى القفص كمتَّـهم ينفى عن نفسه الاتهامات.
أما فى المحاكمة الفعلية، فقد تجسد الحلم إلى حقيقة، والمتهم مجرد مسؤول كبير له فرصة الدفاع عن نفسه وفق الأصول المرعية، والحُكم الأخير سيكون حسب القرائن والأدلة وشهود النفي والإثبات وكفاءة المحامين أيضا.
لحظة تاريخية
مع بدء المحاكمة، عاش الشعب المصري لحظة تاريخية، حين دخل الرئيس السابق مبارك محمولا على سرير المرض إلى قفص الاتهام لمحاكمته على جرائم قتل ودهس المتظاهرين أثناء الثورة.
لحظة سوف تسطّـر تاريخا جديدا للحياة السياسية في مصر وفي العالم العربي، لتثبت أن الشعوب باتت قادرة على محاكمة رؤسائها، مهما كانت قوتهم وصلاحياتهم وامتيازاتهم، وقادرة على القصاص منهم بالقانون والعدالة لما اقترفوه من جرائم وفساد وتسلط واستبداد وعدم مراعاة الحقوق.
مزاعم انتهت صلاحياتها
ومع بدء وقائع المحاكمة، انتهى الجدل حول مزاعم عدة، أبرزها أن المحاكمة ليست سوى تمثيلية لإلهاء الشعب. فجاءت الوقائع عبر شاشات التليفزيون لتثبت أن الأمر جد وما هو بالهزل وأن العدل والشفافية صنوان لا يفترقان.
وثانيا، أن هناك تواطؤا متعمّـدا من المجلس العسكري الحاكم لإجهاض الثورة والالتفاف حول مطالبها، لكن المحاكمة تثبت أن هناك جدية في محاكمة رموز النظام السابق بلا أي تدخل من قبل المجلس العسكري في شأن القضاء عامة، وشأن محاكمة مبارك خاصة.
وثالثا، أن بقاء الرئيس السابق دون محاكمة ودون قصاص، وبالرغم من مرضه المعروف، يحتمل عودته مرة أخرى إلى الحكم، كما روج لذلك إعلاميون وصحفيون كبار في مجال التهويل، بأن الثورة لم تحقق أهدافها بعد، وجاءت المحاكمة لتنهي هكذا تصورات بلا أساس وتبخرها في الهواء. وبذلك، أثبت قادة المجلس العسكري أنه شريك في الثورة وفي إدارة البلاد وفي هدم النظام القديم وفي بناء نظام آخر، يُفترض أن يكون أكثر قبولا من عموم المصريين.
كما انتهى الجدل أيضا حول معنى الجدية في هدم نظام وبناء آخر. وأصبح الاستحقاق المطلوب هو كيفية توافق القوى السياسية أيا كانت أيديولوجيتها، على السير قدما إلى الأمام نحو ديمقراطية حقيقية ونحو نظام يراعي حقوق الإنسان والتعددية الفكرية والسياسية والاجتماعية.
دراما الصعود والسقوط
لقد كانت لحظة دخول الرئيس المصري السابق إلى القفص، لحظة درامية بكل المعاني، اختلطت فيها المشاعر لدى الكثيرين، ولكنها ظلت صافية لدى آخرين. وثار التساؤل في أذهان البعض أن لا تشفع للرجل بعض انجازاته الكبرى وحمايته البلاد من أن تنزلق إلى حرب أكثر من مرة، خاصة وأنه أحد قادة حرب أكتوبر المجيدة، غير أن الإجابة التي سطرتها وقائع بدء المحاكمة، أن البطولة والإنجاز المادي والمعنوي شيء، والمحاسبة على الخطأ الفادح والجرائم الكبرى شيء آخر، والمهم أن القانون يُطبق على الجميع، بغض النظر عن أي بُـعد آخر.
المحاكمة ذاتها لا تخلو من مفارقات كبرى. فهي ليست مجرد محاسبة قانونية لرئيس استبد بشعبه وحسب، ولكنها تجسد قصة من الصعود إلى القمة ثم السقوط المريع عنها، وما بين الأمرين، استبداد وفساد أودى بصاحبه إلى نهاية من الهلاك المعنوي وربما المادي أيضا.
تبدو مفارقة المكان هنا غير بعيدة الصلة عن دراما الصعود والسقوط. فالمحاكمة تجري وقائعها في أكاديمية الشرطة ـ التي كانت تحمل إسم أكاديمية مبارك للأمن ـ ولكن الثورة غيرت الاسم والمعنى والمضمون، وتقرر نهائيا إزالة مبارك والاكتفاء بأكاديمية الشرطة مجردا، وهي المكان الذي شهد آخر ظهور علني له، حين كان في قمة السلطة في احتفال عيد الشرطة الذي جرت وقائعه يوم 23 يناير 2011، قبل يومين من بدء فعاليات الثورة. والآن، يدخلها متهما في أول ظهور علني له بعد تنحيه القسري عن السلطة في العاشر من فبراير الماضي. وكأن المكان يشهد على الصعود والسقوط معا، وإن كان يمكن أن نتحفظ على معنى السقوط لعدم اكتمال المحاكمة وعدم صدور أحكام قاطعة بعد، والاكتفاء بالسقوط المعنوي.
رسائل مهمة للقاصي والداني
لا تخلو المحاكمة أيضا من رسائل كبرى، أولها يخص القضاء في النظام المصري عموما، وهو المرفق المعروف عنه الشموخ والنزاهة، رغم الضغوط التي تمارس أحيانا من ذوي النفوذ أو من وسائل الإعلام المختلفة، وبما يوفر مساحة كبيرة من الاطمئنان لدى عموم المصريين، بأن الأمر كله بات في أيدٍ أمينة، خاصة وان المستشار احمد رفعت، رئيس المحكمة التي تنظر القضية، مشهود له بالحسم والأحكام الرادعة المطابقة لنص القانون وروحه.
وثانيها، أن المحاكمة أكبر بكثير من مجرد رسالة ردع لأي رئيس مصري في مقبل الأيام. فالمحاسبة للمسؤول أيا كان وضعه ومرتبته، لم يعد من الممكن تجنبها أو التحايل عليهت. ولذا، فالرئيس المصري الجديد وأيا كانت صلاحياته الدستورية كبيرة أو صغيرة، سيضع في اعتباره قبل حكم التاريخ، أن يلتزم الصراط المستقيم حتى يتجنب مصير مبارك.
وثالثا، رسالة أبعد قليلا من حدود مصر التي قدمت النموذج، إلى العالم العربي وربما الإسلامي أيضا. فشعوب اليوم لا تقبل بالاستبداد ولا أنصاف الحلول، وهدفها ببساطة محاسبة المخطئين والمفسدين.
وتبقى كلمة أن المحاكمة وطبيعة الاتهامات وحجم الحقوق المدنية المدعى فيها، تتيح مساحة واسعة من الطلبات والطلبات المضادة من المحامين، كما تتيح مساحة أوسع من الألاعيب القانونية والإجرائية، وقد ظهرت بوادرها بالفعل من طلبات المحامين في أولى الجلسات، غير أن حسم المحكمة كان ظاهرا في الاستجابة إلى الطلبات الجادة وحسب. فوجب التنويه.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com