بقلم: د. عبد الخالق حسين
على رغم من أن العراق يتمتع بثروات هائلة، ولكن ليس هناك شعب حرم من ثرواته كالشعب العراقي. فمنذ أن اغتصب حزب البعث السلطة للمرة الثانية عام 1968، بدأت مرحلة تبديد الثروات على عسكرة المجتمع، والحروب العبثية، الداخلية والخارجية، وشراء الذمم في الخارج من وسائل إعلام للتطبيل والترويج للسلطة البعثية الغاشمة وسياساتها الطائشة، وتأليه الطاغية.
فقبل استحواذ صدام حسين على جميع مفاصل الدولة عام 1979، كان هناك احتياطي من العملة الصعبة يقدر بنحو أربعين مليار دولار أمريكي، والدينار العراقي كان يعادل أكثر من ثلاثة دولارات، وعندما سقط حكم البعث الجائر عام 2003، كانت ديون العراق قد بلغت حوالي 120 مليار دولار، وتعويضات الحروب نحو 400 مليار دولار، والدولار الأمريكي يعادل نحو 3500 دينار عراقي، إضافة إلى خمسة ملايين عراقي مشردين في الشتات، وغالبية الشعب في مستوى أفقر بلد في العالم.
ثم جاء الحكم الجديد ما بعد البعث، وهو يواجه الخراب الشامل وتعقيدات ومضاعفات السقوط، والتركة الثقيلة، وهنا بدأت المرحلة الثانية من النهب والفرهود على أيدي الحكام الجدد والأجانب، على أيدي أناس المفترض بهم أنهم جاؤوا لخلاص هذا الشعب من حكم عصابات المافيا البعثية الفاشية. ففي عهد بول بريمر تقدر المبالغ المفقودة بنحو 18 مليار دولار، أما على أيدي الحكام الجدد، فهناك تصريحات تفيد باختفاء أكثر من أربعين مليار دولار، لا نعرف مدى صحة هذه الأنباء، ولكن إن صحَّتْ، فالعراق يعيش حالة كارثية من النهب. ولكننا نعرف وبشكل مؤكد، أن في عهد وزارة الدكتور أياد علاوي، هرب وزير الدفاع، حازم الشعلان بنحو مليار دولار، ووزير الكهرباء أيهم السامرائي بـ 300 مليون دولار، وكلاهما يتنعمان الآن بالمسروقات وسحت الحرام في الخارج، مقابل الملايين من الأرامل والأيتام والمعوقين من ضحايا الحروب والإرهاب، يعانون من الفقر المدقع في العراق.
لا شك أن مشاكل العراق كثيرة، حيث استلمتْ السلطة الجديدة بلداً مدمراً، عانت بناه التحتية وركائزه الاقتصادية الكثير من الإهمال لعشرات السنين، إضافة إلى ما أصابها من عطل وتخريب إثناء الحروب والحصار، لذلك فهناك شح في توفير الخدمات الضرورية، وبالأخص الطاقة الكهربائية التي صارت الحياة العصرية مستحيلة بدونها لشعب بلغت نفوسه أكثر من ثلاثين مليون نسمة، واحتياجاته من الطاقة أضعاف ما كان عليه في العهود السابقة. وإزاء هذه المحنة، تصاعدت موجة التظاهرات الاحتجاجية المشروعة السلمية، وغير السلمية، للمطالبة بتوفير أبسط متطلبات الحياة. وتحت هذه الضغوط، ولمواجهة الأزمات، حاول المسؤولون الإسراع بتلبية مطالب الجماهير وبأي ثمن كان، وفي أقصر مدة، الأمر الذي فسح المجال أمام اللصوص والمحتالين والنصابين في الخارج ليستغلوا مأساة الشعب العراقي، ويقدموا أنفسهم على شكل شركات عالمية قادرة على حل مشاكل الشعب، والغرض هو خدع المسؤولين، أو حتى إشراكهم في عملية نهب الثروات ليس بالملايين، بل بالمليارات.
مناسبة هذه المقدمة هي رسالة بعثها الصديق الدكتور جواد هاشم إلى دولة رئيس الوزراء، السيد نوري المالكي، وتفضل مشكوراً بإرسال نسخة منها لي، مع وثائق حول قيام وزارة الكهرباء بتوقيع عقود بناء محطات توليد الطاقة الكهربائية في مناطق مختلفة من العراق مع شركات، تبين له أنها إما وهمية لا وجود لها، أو مفلسة. والدكتور جواد هاشم شخصية وطنية معروفة، ووزير التخطيط سابقاً، ومتابع لما يجري في العراق ومعاناته، وحريص على إنجاح العملية السياسية، والديمقراطية الوليدة، محاولاً تقديم المشورة المخلصة للمسؤولين. تفيد الرسالة أن الحكومة العراقية وقعَّت في 7 تموز 2011 عقدا مع شركة كندية تدعى Capgent لبناء محطات للكهرباء في عدد من مناطق العراق. قيمة العقد، كما ورد في الصحافة، هو 1.2 مليار دولار أمريكي. قدمت Capgent عنوان مقرها على النحو التالي:
) 440- 319 W. Pender Street- Vancouver, B.C./Canada)
(ورقم الهاتف: # 604-218-3972.)
ولكون الدكتور جواد هاشم مقيما في مدينة فانكوفر الكندية منذ مدة طويلة، وعارفاً بشعابها، وبدافع الحرص على مصلحة العراق، قام بالبحث عن هذه الشركة، فاتصل هاتفياً بمقرها فلم يتلق غير رسائل مسجلة، أو سيدة ترفض الإجابة على أي سؤال، وكذلك لم يستلم أي جواب على رسائله الالكترونية. وأخيراً ذهب بنفسه إلى العنوان المزعوم، فلم يجد أثراً لمقر ما يسمى بشركة Capgent، فالعنوان مزيف، والشركة وهمية رغم أنها تدَّعي بأنها مسجلة في كندا تحت رقم 0825450 B.C ومديرها العام مهند سمارة، إذ وجد إن العنوان في الشارع المذكور يعود إلى محام اسمه Ellis.
ونظراً لخطورة الموقف، فقد بعث الصديق الرسالة المشار إليها أعلاه، إلى المسؤولين العراقيين يخبرهم فيها عن نتائج تحقيقاته في الأمر، ويحذرهم من هذه الشركة الوهمية، وقبل تسليم مليار ومائتي مليون دولار من أموال الشعب إلى نصابين ومحتالين.
كما وأشارت الرسالة إلى قيام وزارة الكهرباء بتوقيع عقد مع شركة ألمانية باسم MASCHINENBAU Halberstadt والتي يرمز لها اختصاراً (MBH)، صاحبها الرئيسي شركة لبنانية باسم "صقر لبنان" وعنوانها: "شارع قرطبة 98 جبيل جالات، عمان 11831، الأردن". ووفقاً لمواقع إلكترونية عديدة، فإن هذه الشركة (MBH) قد أعلنت إفلاسها يوم 11 كانون الثاني 2011، وتصفيتها في محكمة ماكديبورك شرق ألمانيا، أي قبل ستة أشهر من تاريخ توقيعها العقد مع وزارة الكهرباء، وبحضور الوزير المهندس رعد شلال سعيد، ولكن ترتيباً مالياً وإدارياً أنقذ الشركة من الإفلاس، ويقف وراء عملية الإنقاذ الشريك الأساسي المقيم في لبنان باسم SAKR Group .
ومن كل ما تقدم، فنحن أمام مشكلة كبيرة، مشكلة كون المسؤولين في وزارة الكهرباء بهذه السذاجة والبساطة بحيث يوقعون عقوداً تقدر بمليارات الدولارات مع شركات وهمية لا وجود لها إلا على الورق، وعلى صفحات الانترنت، أو مفلسة تقودها شبكات مافيوية احترفت اللصوصية بشكل متقن.
وفي ختام رسالته، يناشد الدكتور جواد هاشم، دولة رئيس الوزراء، السيد نوري المالكي قائلاً:
"ومن خبرتي المتواضعة أود أن أوضح لدولتكم بأن خضوع أية شركة لترتيبات محاكم الإفلاس يعني أن أي خلاف بين الشركة ووزارة الكهرباء حول تنفيذ بنود العقد أو بعد إكمال المشروع يعني إحالة الخلاف إلى محكمة الإفلاس الألمانية، وهي أمور بالغة التعقيد يكون العراق في غنى عنها. ثم ألم تستفسر الوزارة عن الوضع المالي للشركة قبل توقيع العقد، خاصة وأن الإفلاس قد أعلن عنه ستة أشهر سابقة لتوقيع العقد مع الوزارة؟ إن هذا الأمر يستدعي حتماً إلغاء هذا العقد المشبوه.
ويضيف الدكتور جواد: "إن ما يدفعني للكتابة إليكم هو حبي الطاغي للعراق، هذا البلد العظيم الذي تريد قوى الشر والسرقة والفساد خنق تجربته الديمقراطية الوليدة... وأقولها بتواضع واحترام، أن الواجب الوطني يقتضي منكم ليس إلغاء هذه العقود المشبوهة فحسب، بل وأن تضرب بيد من حديد، وبكل قسوة عناصر الشر والسرقة، وأن تحاربهم في كل وزارة ودائرة، بل وتحاربهم في كل منعطف وشارع بغض النظر عن الأحزاب أو الكتل أو الطوائف التي ينتمون إليها."
وبدوري، أضم صوتي إلى مطالبة الدكتور جواد هاشم المسؤولين بأخذ الحيطة والحذر من هذه الشركات الوهمية، أو المفلسة، ومواجهة الفساد والفاسدين والمفسدين بمنتهى الجدية والحزم، فطالما نحن نعيش في عالم مليء بالضباع البشرية الضارية من نصابين ومحتالين، يتمتعون بخبرات واسعة في النهب والنصب والاحتيال، تساعدهم التكنولوجية المتطورة على تنفيذ مخططاتهم الجهنمية، وتقديم أنفسهم كشركات عالمية مسجلة في هذا المجال وذاك، وحرصاً على أموال الشعب من اللصوص، نطالب المسؤولين بعدم التوقيع على أي عقد مع أية جهة، إلا بعد التدقيق والتحقيق بمصداقية تلك الشركات، والتأكد من وجودها في الواقع لا بالوهم، وعن إمكانياتها المالية، والعملية، وخبراتها، وتاريخها، وقدرتها على تنفيذ هكذا عقود ضخمة قبل توقيعها مع أية جهة كانت. وكإجراء إضافي للحماية من اللصوص، أرى من الأفضل التعامل مع الحكومات، والشركات العالمية المعروفة بمكانتها وبالسمعة الطيبة.
ـــــــــــــــــــــــ
Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com