بقلم: زياد ابو غنيمة
كعادته منذ سنوات تلطف الصديق العزيز المفكر العروبي الأستاذ جميل هلسا بدعوتي لمأدبة الإفطار الرمضانية التي دأب على إقامتها في شهر رمضان في قاعات النادي الأرثوذكسي في ترجمة عملية رائعة للوحدة الوطنية المسيحية الإسلامية ، كنت وأنا أستمع إلى كلمة الأب المحترم قيس صادق بعد كلمة الشيخ حمزة منصور أتمثل الآية الكريمة : ( ..... وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّة ً للذينَ آمَـنـُوا الذِينَ قَالوا إِنـَّـا نَصَارَى ذَلِكَ بِأنَّ مِـنـْهُمْ قِـسِّـيسينَ وَرُهْبَانا وأنـَّـهم لا يَسْتـّـكْـبِرُونَ ) ، وحين رفع فتى صغير بصوت رخيم أذان المغرب ثمَّ حين أدينا الصلاة وراء الأستاذ الدكتور همام سعيد في قاعة أحد البناة الروَّاد في مسيرة الإقتصاد الأردني سليمان السُّـكـَّـر الدبابنة في النادي الأرثوذكسي في ترجمة رائعة للوحدة الوطنية المسيحية الإسلامية عادت بي الذاكرة ألفا وأربعمئة عام ليقفز أمامي كيف استقبل النبي صلى الله عليه وسلم في مدينة تبوك في عام 9 هـ / 630 م وفدا من عشائر العرب المسيحيين في جنوب الأردن من الشوبك وأذرح والجربا والعقبة والبتراء التي كانت تضيق ذرعا بسيطرة الرومان البيزنطيين وتتوق بفطرتها العربية وبمشاعرها العروبية للتخلص من سيطرتهم واحتلالهم ، وقد وجدت هذه المشاعر العروبية متنفسا لها عندما بدأت تتناهى إلى مسامع عشائر الأردن العربية المسيحية أخبار ظهور قوَّة جديدة في بلاد الحجاز قوامها أبناء جلدتهم من عرب الحجاز المسلمين .
ووجدت عشائر الأردن العربية المسيحية أن الفرصة باتت مواتية للتخلص من نفوذ الرومان البيزنطيين فألقت بثقلها إلى جانب أبناء جلدتها من عرب الحجاز المسلمين في حملتهم لدحرالرومان البيزنطيين عن شرقي الأردن ومن ثـمَّ من كل بلاد الشام ، كان على رأس الوفد مطران العقبة يوحنـَّا بن رؤبة الذي أهدى للرسول الكريم بغلة بيضاء أعجب بها النبي الكريم ، وأهدى النبي الكريم المطران يوحنا بُردةً من بُرَدِه ، وتمخضَّت تلك الزيارة عن عقد اتفاق لفتح أبواب هذه المدن أمام جيوش الفتح الاسلامي ، وفي هذا الصدد يذكر كتاب ( عشائر الحدَّادين حتى عام 1991م ) أنَّ الرسولَ الكريم لم يطلب من مسيحيي جنوب الاردن تغيير دين آبائهم ، وأن جيوش المسلمين التزمت باتفاق تبوك فلم تتعرض للسكان العرب المسيحيين ، بل وجَّـهت سيوفها ورماحها فقط في مواجهة جند البيزنطيين ، تلك كانت بداية نموذجية للوحدة الوطنية الإسلامية المسيحية وللتعايش الإسلامي المسيحي ، وها هو الحفيد المسيحي الكركي الأردني العروبي جميل هلسا يمضي مشكورا على خطى أجداده مسيحيي الكرك في تكريس هذه الوحدة الوطنية المسيحية الإسلامية .
وقد تحدثت معظم كتب السيرة النبوية عن زيارة مطران العقبة على رأس وفد من عشائر جنوب الأردن المسيحية العربية للرسول صلى الله عليه وسلم أثناء وجوده في تبوك ، فقد أورد الجزء الخامس من المجلد الثالث من كتاب ( البداية والنهاية ) لأبي الفداء الحافظ إبن كثير (ص16) نص كتاب الرسول الكريم للوفد وجاء فيه : " بسم الله الرحمن الرحيم ، هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل إيلة سفنهم وسيارتهم في البر والبحر (وفي راواية أساقفهم وسائرهم) لهم ذمة الله ومحمد النبي ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، وأنه لا يحل أن يُـمنعوا ماءً يردونه ولا طريقاً يردونه من بر أو بحر" ، كتبه جهيم بن الصلت وشرحبيل بن حسنة بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة تسع للهجرة .
في القاهرة كانت صورة أخرى من صور الوحدة الوطنية المسيحية الإسلامية تتجلى حين أصرَّ المرشد العام للإخوان المسلمين الأستاذ الدكتور محمد بديع على تكريم الدكتورة منى ابنة الزعيم القبطي المصري مكرم عبيد في حفل الإفطار الذي أقامه الإخوان لنخبة من قيادات الأحزاب والفكر والإعلام والثقافة والفن الملتزم تقديرا لعلاقة الصداقة المتينة التي كانت بين والدها وبين مؤسِّـس الجماعة الأستاذ حسن البنا ، الكثيرون لا يعرفون أن الزعيم المسيحي القبطي مكرم عبيد كان صديقا أثيرا لحسن البنا ، ولا يعرفون أن مكرم عبيد المسيحي القبطي رفض أوامر الملك فاروق الذي اغتالت حكومته البنا بأن لا يُشارك أحد في جنازة حسن البنا فدخل التاريخ أنه كان الرجل الوحيد الذي حمل نعش حسن البنا مع والده المكلوم وزوجته وبناته الثكالى .
في إفطار النادي الأرثوذكسي قفزت أمام عيني صور عديدة من الصور التي تترجم الوحدة الوطنية المسيحية الإسلامية ، شهادة الرحَّالة أوليفانت الذي أكـَّـد في مذكراته عن زيارته للأردن في مطلع القرن العشرين المنصرم أنه : " لا يمكن التمييز بين المسلمين والمسيحيين لأن مظهرهم واحد وملبسهم واحد ، ولا يوجد تعصُّبٌ ديني بينهم ، بل إن عاداتهم متشابهة " ، إصرار عرب فلسطين على تفويض الجمعية الإسلامية المسيحية في القدس بتمثيلهم أمام لجنة كنغ ـ كرين الأمريكية التي أرسلها الرئيس الأمريكي ولسون إلى فلسطين ووصلتها في 10 / 6 / 1919 م ، صورة إختلاط دم البطل اللداوي حنا صليبا كركر في ثورة البراق الشريف في عام 1929 م بدماء البطل المقدسي محمد عبد السلام وغيره من شباب فلسطين الذين حصدهم رصاص المحتلين الإنجليز ، صورة إختلاط دم البطل الأردني من نشامى جيشنا العربي الأردني حنـَّـا عيسى سالم نصراوين بدم البطل الأردني من نشامى جيشنا العربي الأردني محمد خالد يوسف الداوود العبيدات ، صورة المطران إيلاريون كبوشي الذي طرده المحتلون من القدس في نفس اليوم جنبا إلى جنب مع الشيخ عبد الحميد السائح رئيس الهيئة الإسلامية العليا في فلسطين ، صورة المطران إيليا خوري والأب إبراهيم عيـَّـاد ورجل الأعمال الصديق العزيز الدكتور رؤوف سعد أبو جابر وغيرهم من رجال الدين المسيحي ومفكـِّـريهم وهم يجوبون الدول الغربية جنبا إلى جنب مع الأستاذ كامل الشريف والدكتور الشيخ عبد العزيز الخيـَّاط وأمين القدس روحي الخطيب وغيرهم من علماء المسلمين دفاعا عن قضية فلسطين وقضايا الأمة العربية .
صورة شاعرنا الأردني السلطي المسيحي سليمان المشـِّـيني وهو يُجسِّـد الوحدة الوطنية الإسلامية المسيحية بقصائده التي كانت في الخمسينيات بندا لا يخلو منه إحتفال بالمولد النبوي أو بذكرى الهجرة أو بأية مناسبة وطنية أو إسلامية ، صورة المطران عطا الله حنا رئيس أساقفة سبسطيه بفلسطين وهو يمسك بساعديه ساعدَ شيخ الأقصى الأسير عكرمة صبري وساعدَ شيخ الحركة الإسلامية الأسيرة في فلسطين المحتلة عام 1948 م رائد صلاح ويرفعهما إلى عنان السماء في 24/7/2005م ، ليطلق صرخته المدوِّية من ملعب مدينة أم الفحم داعيا ً إلى تشكيل جبهة عربية ـ إسلامية - مسيحية تتصدى للهجمــة التي تستهدف المسلمين والمسيحيين على حد سواء .
ما أحوجنا إلى تحقيق حلم مطراننا العربي عطا الله حنا ، وعسى أن تكون صلاتنا في النادي الأرثوذكسي خطوة على طريق تحقيقها .
Ziad_1937@yahoo.com
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com