بقلم:د. عبدالخالق حسين
بعد إسقاط حكم البعث يوم 9/4/2003 بأيام قلائل، انفجر العنف الطائفي في العراق بين السنة والشيعة، بشكل غير مسبوق من القتل على الهوية المذهبية، وتفجيرات الإرهابيين في الأحياء السكنية التي معظم قاطنيها من الشيعة، استهدفت أماكن تجمعاتهم مثل المساجد والحسينيات، والأسواق، وتجمعات عمال المسطر الفقراء، ومواقف سيارات الأجرة المزدحمة، وأخيراً قاموا بتفجير ضريحي الإمامين: علي الهادي والحسن العسكري في مدينة سامراء، وهما من أئمة الشيعة. والقصد من كل ذلك إشعال حرب أهلية طائفية بين السنة والشيعة لكي ييأس الناس من الوضع الجديد وحملهم على الاعتقاد أن العراق لا يصلح له غير حكم البعث والقبضة الحديدية.
وقبل تفجير ضريحي الإمامين الشيعيين، كان المرجع الشيعي الأكبر، السيد علي السيستاني، يدعو الشيعة إلى الهدوء وضبط النفس وعدم الرد بالمثل، ولكن بعد حادث الضريحين انفجر العنف المضاد من جانب الشيعة، وحصل ما حصل من اقتتال طائفي بشع، أساءت لسمعة المجتمع العراقي، بقيت آثاره السلبية إلى الآن، وإلى أجل غير معلوم.
وكالعادة، بدأت نظرية المؤامرة تلعب دورها في هذا المجال، خاصة وأن هذه النظرية رائجة في البلاد العربية لأنها ولدت بالأساس من رحم الصراع بين المسلمين إثناء الثورة على الخليفة الثالث، عثمان بن عفان، حيث تفتقت عبقرية مزيفي التاريخ من وعاظ السلاطين عن اختلاق شخصية وهمية باسم عبدالله بن سبأ، أدَّعوا أنه يهودي أعلن إسلامه كذباً، وتسلل إلى صفوف المسلمين لتمزيق وحدتهم شيعاً وأحزاباً. والجدير بالذكر، أن معظم الباحثين المتنورين ينفون وجود هذه الشخصية أصلاً، ومن بينهم العلامة علي الوردي، الأمر الذي يؤكد أن نظرية المؤامرة هي من إنتاج العقلية العربية بامتياز منذ فجر الإسلام، ليتهموا اليهود، ثم الفرس، وأخيراً التحالف "الصليبي- الصهيوني الكافر" المتمثل بالغرب، وبالأخص أمريكا.
إن سبب ولع العرب بهذه النظرية هو رفضهم البحث في أسباب تخلفهم، وموروثهم الاجتماعي الذي يدعو إلى العنف، فاختلقوا هذه النظرية لتعليق غسيلهم الوسخ، وأسباب صراعاتهم، وتخلفهم على شماعة الآخرين، والتصور أن العالم كله يقف ضدهم، لأنهم "خير أمة أخرجت للناس" على غرار ما يعتقده اليهود أنهم "شعب الله المختار"، فصار شعارهم "ملة الكفر واحدة". ولما اكتشف العراقيون بشاعة واقعهم أصيبوا بصدمة عنيفة ولم يصدقوا ما حصل، لذلك تنكروا لها وأدَّعوا أن الشعب العراقي لم يكن يعرف يوماً أي صراع من هذا القبيل، ولكن جلبه الأمريكان معهم إلى العراق لتمزيق الشعب العراقي بغية تسهيل نهب ثرواته وخيراته!!
لذا فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: من المسؤول عن الاقتتال الطائفي بعد سقوط حكم البعث؟ وهل حقاً، أمريكا هي التي جلبت لنا هذا الاقتتال على الهوية الطائفية؟
لا شك أن للأجانب دور في تفجير الصراع الطائفي، ولكن السؤال المهم الآخر هو ما هي مصلحة أمريكا في تفجير هذا الصراع؟ فلو تأملنا جيداً لوجدنا أن مفجري الصراع عم الأقربون منا مثل السعودية وإيران وسوريا والقاعدة. ولكن حتى مؤامرات هؤلاء الأجانب، وتدخلاتهم لا يمكن أن يكتب لها النجاح ما لم يكن هناك استعداد نفسي وأخلاقي لدى العراقيين أنفسهم، لتنفيذ ما يريد منهم الأجانب، وإلا من الذي آوى بهائم القاعدة من الانتحاريين السعوديين وأرشدهم إلى أهدافهم غير العراقيين؟
لقد درست موضوعة الطائفية من مختلف جوانبها ومراحلها التاريخية، فتراكمت لدي كمية لا بأس بها من معلومات نشرتها هذا العام في كتاب بعنوان: (الطائفية السياسية ومشكلة الحكم في العراق). ومن دراستي هذه توصلت إلى نتيجة مفادها أن الطائفية متأصلة في العراق منذ زمن بعيد، ولكنها بقيت كالبركان الخامد يبعث الدخان من تحت السطح، ينتظر الفرصة المناسبة لينفجر. والذي أبقى هذا البركان خامداً هو قمع الحكومات المتعاقبة، فما أن سقط حكم البعث الجائر، وأزيل القمع حتى و حصل الانفجار. لذا فمن الخطأ الفظيع الاعتقاد أن الطائفية جاء بها الأمريكان، بل كل دورهم يتمثل في كونهم أنهم أسقطوا حكم البعث، وأزالوا القمع الطائفي، وجلبوا معهم الديمقراطية والحرية اللتين لم يألفهما العراقيون طوال تاريخهم المكتوب، وطبقوها بسرعة دون المرور بفترة انتقالية لتحضير الشعب لها بعد مئات السنين من الجور. لذا فدور الديمقراطية هنا ينحصر في أنها أزاحت الغطاء، وكشفت المجتمع العراقي على حقيقته، وفضحت المستور عنه من عيوب وأمراض اجتماعية مزمنة.
وقد اعتاد المثقفون والسياسيون العراقيون على عدم التطرق إلى عيوب المجتمع أو نقده، لأن هكذا نقد في رأيهم، يعرض شعبنا إلى شماتة الآخرين بنا. ويُستثنى من هذه القاعدة، الخالد العلامة علي الوردي، الذي أكد أنه لا يمكن لأي مجتمع التخلص من تخلفه والسير نحو الحضارة إلا بكشف عيوبه وأمراضه الاجتماعية ومعالجتها، لا التستر عليها مثل النعامة التي تدفن رأسها في الرمال وتترك مؤخرتها مكشوفة للصياد!. لذا وبعد كل هذه الكوارث، علينا أن لا نتردد في كشف العيوب ونقدها.
ونتيجة لما تقدم، نعرف أن الحقيقة المرة التي فضحتها الديمقراطية هي أن الشعب العراقي غير متصالح مع نفسه، وأن هناك خزين هائل من الأحقاد بين مكوناته. كما وبتنا نعرف الآن أن جذور الطائفية عميقة في تاريخ العراق، بدأت حتى قبل اكتشاف أمريكا بألف سنة، ومورست بشكل صريح وواضح في عهد الاستعمار العثماني الذي دام أربعمائة سنة. والمؤسف أن الدولة العراقية الحديثة عند تأسيسها عام 1921، تبنت الموروث التركي العثماني في التمسك بسياسة عزل أكثر من 80% من الشعب ومعاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية لأسباب عرقية وطائفية.
ومن الإنصاف القول، أن الطائفية كانت على وشك الاختفاء في نهاية العهد الملكي، والعهد الجمهوري الأول خلال حكم الزعيم عبدالكريم قاسم، قائد ثورة 14 تموز 1958. ولكن حصلت نكسة سياسية واجتماعية، وردة حضارية كبيرة بعد انقلاب 8 شباط 1963، وما تلاه من حكم الأخوين عارف، ليأتي بعده حكم البعث الذي مارس التمييز الطائفي والعنصري على المكشوف وجعلها قاعدة للحكم إلى حد أن تمت تسمية المحافظات حسب الانتماء المذهبي والعرقي لغالبية السكان، إلى محافظات بيضاء ومحافظات سوداء، ورفعوا لافتات أيام قمع الانتفاضة عام 1991: (لا شيعة بعد اليوم). وقبل ذلك منعوا الشيعة من ممارسة طقوسهم الدينية، ونسبوا لهم صفات نابية، مثل الشعوبية، وعملاء الفرس المجوس، والرتل الخامس، وحتى أنكروا عليهم عراقيتهم وولاءهم لوطنهم، فهجَّروا منهم نحو مليون نسمة وشردوا ملايين آخرين إلى الشتات. كذلك سلسلة مقالات جريدة الثورة عام 1991 بعنوان (لماذا حصل ما حصل)، باتت معروفة، ومازال الطائفيون يعزفون على نفس الوتر الطائفي النشاز، فكل سياسي شيعي هو إيراني. ولا شك فإن هذه الممارسات، واضطهاد الناس بسبب انتمائهم الديني والعرقي، ومنعهم من ممارسة شعائرهم المذهبية يدفع إلى المزيد من التخندق الطائفي والقومي. ولا ننسى الحملة الإيمانية التي أعلنها حكم البعث الصدامي بعد هزيمته في حرب تحرير الكويت.
ولما سقط حكم البعث الجائر، ومعه انهارت الدولة، حصل فراغ أمني، وغياب حكم القانون، لذلك أنفجر البركان، إذ كما قال جون لوك: "حينما ينتهي حكم القانون يبدأ حكم الطغيان". والجدير بالذكر أن فلول البعث وحلفاؤهم من أتباع القاعدة، هم الذين بدؤوا القتل على الهوية الطائفية، وتفجير أضرحة أئمة الشيعة ومساجدهم وحسينياتهم، وأماكن تجمعاتهم في الأسواق، كما أشرنا آنفاً.
وقبل إسقاط حكم البعث في العراق، شنت المؤسسة الدينية الوهابية في السعودية حملة ضارية من التحريض ضد شيعة العراق، فأصدروا الفتاوى التي وقَّع عليها العشرات من مشايخ الوهابية، يحرضون فيها المسلمين في العالم على الذهاب إلى العراق للجهاد في سبيل الله والإسلام لحماية أخوتهم المسلمين من أهل السنة، من الصليبيين "الكفار" وحلفائهم "الروافض المرتدين عن الإسلام"عملاء الفرس المجوس!!
والمعروف، أن الحكومة السعودية هي حكومة بوليسية، لا يمكن لهؤلاء المشايخ إصدار هكذا فتاوى دون موافقة السلطة، إن لم يكن بأوامرها. ولكن الحكومة السعودية كانت تتنكر لهذه الحقيقة على الدوام، وتدعي أنها حريصة على أمن واستقرار العراق!!. وأخيراً اعترف الأمير تركي الفيصل، رئيس جهاز الأمن السعودي السابق، والمؤسس الأول لحركة الأفغان العرب التي قادت إلى تشكيل القاعدة، لم ينف دعم السعودية للجهاد في العراق. جاء ذلك في مقابلة مع قناة العربية الفضائية، حيث سأل مراسل العربية الأمير السعودي حول الفرق في نظرة السعودية للجهاد في أفغانستان سابقاً والعراق حالياً، فأجاب قائلاً : "إن ما دفع دول كالسعودية لتأييد الجهاد ضد السوفييت في أفغانستان، هو وجود احتلال غير مبرر من قبل السوفييت لأفغانستان، واضطهاد شعبه، .. لكن ما قام به الأمريكيون بعد ذلك من الإطاحة بطالبان بعد أحداث 11 سبتمبر، كان أمراً مبرراً، لأن الهجوم على نيويورك في 11 سبتمبر تم من داخل أفغانستان، ومن شخص كان مأوياً ولاجئاً". لكنه في نفس الوقت اعتبر الحرب الأمريكية على العراق غير مبررة والقتال ضد الأمريكان جهاد فقال: "بينما الحرب الأمريكية في العراق لم تكن مبررة، فالمملكة لم تؤيد الغزو الأمريكي للعراق، وعبرت عن ذلك علناً، بالإضافة إلى اتصالات خادم الحرمين الشريفين مع الزعامات الأمريكية في حينها”. (يرجى فتح الرابط في الهامش).
والجدير بالذكر، أن "المجاهدين" الذين كانت السعودية تبعثهم "لتحرير العراق"، لم يقتلوا الجنود الأمريكان، بل كانوا ومازالوا يقتلون الشيعة والكرد، ويفجروا دور العبادة للأقليات الدينية الأخرى مثل كنائس المسيحيين وارتكاب المجازر ضد الأيزيدين والشبك وغيرهم، وأخيراً لم يسلم من إرهابهم حتى العرب السنة، أخوتهم في الدين والمذهب كما يدعون.
كما واتخذ التحالف الإيراني – السوري من العراق ساحة لهم لشن الحرب بالوكالة على أمريكا وبريطانيا وبدماء العراقيين. كذلك السعودية الوهابية، ورغم علاقتها الحميمة مع أمريكا، إلا إنها انتهزت الفرصة للعمل على إفشال العملية السياسية في العراق، لأسباب سياسية واقتصادية، وطائفية بمنع مشاركة الشيعة في تسلم مناصب سيادية في عراق ما بعد صدام، إذ يعتبرون ذلك خطاً أحمر لا يجوز تجاوزه في عرفهم. لذلك راحت السعودية ترسل الإرهابيين الانتحاريين عبر سوريا ليقوموا بحملة إرهاب لا مثيل لها في بشاعتها وضراوتها ضد الشعب العراقي، في خطة جهنمية محكمة.
قال توني بلير في مذكراته (رحلة A Journey)، لقد شنت فلول البعث وحلفاؤهم من أتباع القاعدة، حرب الإرهاب في العراق لغايتين: الأولى، أنهم إذا ارتكبوا جرائم القتل والتدمير ضد العراقيين فاللوم يقع على قوات الحلفاء، وبالأخص أمريكا وبريطانيا، والحكومة العراقية وليس على مرتكبي الجرائم. والغاية الثانية هي، بإشعالهم الفتن الطائفية وقتل العراقيين وجنود الحلفاء، سيحصل تذمر ورد فعل عنيفين لدى شعوب دول الحلفاء، فتخرج مظاهرات جماهيرية واسعة تضغط على حكوماتها وترغمها على الانسحاب من العراق، والإعلان عن أن المهمة قد فشلت، وأن نشر الديمقراطية في العراق والمنطقة عملية فاشلة ومن الأفضل العودة إلى ما كان عليه الوضع من قبل.
ووفق هذه الخطة، راحت وسائل الإعلام العربي تركز حملتها لتشويه صورة العراق الجديد، وتضخيم أعداد القتلى بمئات الأضعاف، والإدعاء بأن القوات الأمريكية هي التي تقتلهم، وتفتك بالشعب العراقي وتهتك أعراضهم، وليست القاعدة. وقد استخدم الإعلام العربي هذه الحملة في تحريض الشباب العرب والمسلمين في رفد المنظمات الإرهابية "الجهادية"، من أتباع القاعدة.
كما واستغل البعث تعقيدات الوضع، فأدعى أنه الممثل الوحيد للعرب السنة، والمدافع الأمين عن حقوقهم، وراح يعزف على نغمة الطائفية، ويلعب على الحبلين، فمن جهة، أدَّعوا مظلومية العرب السنة وحرمانهم من حقهم التاريخي في المشاركة في الحكم، ومن جهة أخرى، قاموا بقتل كل عربي سني يشارك في العملية السياسية. واستفادوا كثيراً من هذه الدعوة في تضليل الرأي العام العالمي، وتحريك الشارع العربي ضد العراق الجديد. إضافة إلى وجود ناس يكرهون أمريكا لأسباب أيديولوجية، مثل اليسار العربي والأوربي، لأن إسقاط حكم البعث تم على أيدي الأمريكان، فهناك رغبة كامنة في لاوعي هؤلاء في إفشال العراق الجديد، نكاية بأمريكا.
الخلاصة والاستنتاج:
إن الاقتتال الطائفي لم تجلبه أمريكا، بل حصل نتيجة صراعات وأحقاد دفينة قديمة، وألغام موقوتة في المجتمع العراقي تراكمت عبر مختلف العهود، وكانت تنتظر اللحظة المؤاتية للانفجار. كما واستغلت الدول الإقليمية هذه التعقيدات لصالحها فصبت الزيت على النار. لذا، وعلى الرغم من تعقيدات المجتمع العراقي وتصارع مكوناته، كان بالإمكان التخفيف من حدة هذه الصراعات الطائفية لو ترك العراقيون يتدبروا أمورهم لوحدهم بعد إسقاط حكم البعث. فلو لا تدخل دول الجوار، إيران وسوريا والسعودية، ومنظمة القاعدة في شؤونهم، وتحريض الإعلام العربي ضد العراق، لكان الوضع العراقي مختلف تماماً وبالتأكيد نحو الأفضل.
أما وجود القوات الأمريكية في العراق فقد ساعد على كبح جماع العنف الطائفي، وعمل على حماية العراقيين من فتك بعضهم بالبعض، وإلا لكان مصير العراق أسوأ من مصير الصومال. وهذه الحقيقة أدركها مؤخراً العرب السنة أنفسهم، وكذلك الكرد أكثر من غيرهم، لذلك راح هؤلاء يطالبون ببقاء القوات الأمريكية في العراق. أما بعض القوى السياسية الشيعية التي تحرض ضد العلاقة مع أمريكا، فوراءها إيران، كما هو الحال مع التيار الصدري وجماعة الحكيم، وبتأثير الإعلام العربي المنافق، والذين لا يريدون الخير للعراق، فيراهنون على رحيل القوات الأمريكية عسى أن تتوفر لهم الفرصة لإفشال العملية السياسية وإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء.
لذا نهيب بقادة العراق أن ينتبهوا إلى حالهم، فيميزوا بين الصديق والعدو، ووفق ما تحتمه مصلحة الشعب، وليس لمكاسب سياسية فئوية مؤقتة.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com