بقلم: عوض بسيط
أن تكتب وأنت مصلوب اليدين
وصليب الموت يرزح فوق الكتفين!
أن تكتب من جرح القلم الغائر
بمدادٍ فائرٍ ثائر
أن تكتب بقلبٍ مرتعشٍ غاضب
وألوانُ الموتِ ترفرف أمام العينين
***
في البداية كان الدم..
نؤمن أن الكنيسة الأم تأسست على دم السيد المسيح، وعلى صخرة لا تقوى عليها أبواب الجحيم.. وبدم القديس "مرقس" الرسول تأسست الكنيسة القبطية وتخضبت بدماء الشهداء من عصر "دقلديانوس" إلى هذه اللحظة.
فالدم ليس غريبًا على الأقباط، بل نفرح بالاستشهاد، إذ نؤمن بالحياة الأبدية، وبأن الكنيسة (جماعة المؤمنين) تصبح أقوى في هذه الأيام.. ولكن.. تبقى الأحزان سرمدية المدى.
***
البكاء بين يدي زرقاء اليمامة
لا شيء يستطيع التعبير عن مشاعري هذه الليلة أكثر من هذه القصيدة، لشاعري المفضل "أمل دنقل"..
كانت سحائب الدخان المسيل للدموع تغطي سماء ماسبيرو، بينما صوت الرصاص الحي يُسمع بكل أرجاء التحرير، البعض يجري، والبعض يهتف، وآخرون يرشقون الأمن بالحجارة.. لم أدر أكانت تلك العاصمة المصرية أم تل أبيب؟
بمدخل إحدى العمارات استوقني صراخ.. كانت جثث الشهداء بمدخل العمارة.. البعض يدعو لتغطية الوجوه حفظًا لكرامة الموتى، والبعض يكشفها لعدسات المصورين ليرى العالم ما يحدث بمصر للمتظاهرين السلميين.. لا أعرف كيف استطعت المشي بين الجثث، السير فوق الدم.. التقاط صور الموت..
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة
منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاء
أسأل يا زرقاء..
عن فمكِ الياقوتِ عن، نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع.. وهو ما يزال ممسكًا بالراية المنكَّسة
ثم فوجئنا بقوات الأمن المركزي والجيش تكسر باب العمارة للهجوم علينا.. كانوا يحطمون الباب بوحشية وعنف.. هربنا للأدوار العليا، مسلمين وأقباط كنا، وكان بيننا الإعلامية الرائعة مرشحة الرئاسة "بثينة كامل" والمناضل القمص "متياس نصر".. انشغل الجنود البواسل بسحب الجثث! ولم أفهم لماذا اهتموا للدرجة بالجثث!! ربما ليستجوبوها في المشرحة؟ ليحصلوا على اعترافات من الموتى أنهم انتحروا، وأن المدرعات كانت تداعبهم ولكنهم أصروا على الموت تحت عجلاتها عشقًا في مجلس العار؟! وأي عار..
أعطانا ذلك فرصة للهرب، حيث اختبأنا بأحد المكاتب، وهناك لم أجد أبونا متياس ولم أستطع معرفة مكانه بعدها.. اختبرت الليلة شعورالاختباء وكتم الأنفاس في حجرة مظلمة، خوفًا من اقتحام أمن بلدي لها!! لم تكن قوات المارينز تطاردنا.. لكنني لم أعلم هل كنت في ماسبيرو أم في غزة!
كانت الأنباء المتواترة إلى حجرتنا المظلمة تقول أن القمص متياس تعرض للضرب، وأن قوات الأمن تعتقل الصحفيين وتحطم معدات المصورين، وأنهم اقتحموا مقر قناتي "25" و"العربية"، وأنهم يمشطون المبنى، وقريبًا قد يقتحمون المكتب الذي نختبئ به..
بعد حوالي ساعتين قال مضيفونا أن الوضع هادئ نوعًا ويمكننا الخروج من الباب الخلفي للمبنى، وهو ما حدث..
أسأل يا زرقاء..
عن وقفتي العزلاء بين السيف.. والجدارْ !
عن صرخة المرأة بين السَّبي. والفرارْ ؟
كيف حملتُ العار..
ثم مشيتُ؟ دون أن أقتل نفسي؟! دون أن أنهار؟!
.....
تكلمي... لشدَّ ما أنا مُهان
لا اللَّيل يُخفي عورتي .. كلا ولا الجدران!
ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدُّها..
ولا احتمائي في سحائب الدخان!
***
الوطن.. والرئيس المؤتمن!
ثرنا في 25 يناير لنثأر لكرامتنا.. لتصبح مصر دولة سيادة القانون، ولكننا فوجئنا بها تتحول لدولة سيادة المشير!!
لكن.. لم تكن ثورتنا قد اكتملت بعد، أرى اليوم أن الحلقة المفقودة في الثورة قد وجدت، فلم يكن للثورة أن تنجح بدون مشاركة قوية من الأقباط.. اليوم العمال مع الطلبة مع الأقباط يشكلون موجات مد ثوري جديدة تحرك الماء الراكد.. تسطع وجوه الشهداء في وجه المجلس العسكري قائلة: "لا يحل لك" لن تمتلك ما حررناه بدماءنا.. لن تجلس على كرسي الإله، فمصر لم تعد تعبد البشر!
فقد مضى عصر القائد الملهم، والرئيس المؤمن، والرئيس الأب، والرئيس المؤتمن.. أذكر أبيات "أحمد مطر":
زار الرئيس المؤتمن
بعض ولايات الوطن
وحين زار حيّنا
قال لنا
هاتوا شكاواكم بصدقٍ في العلن
ولا تخافوا أحدا فقد مضى ذاك الزمن
فقال صاحبي حسن
يا سيدي
أين الرغيف واللبن؟
وأين تأمين السكن؟
وأين توفير المهن؟
وأين من
يوفر الدواء للفقير دونما ثمن؟
يا سيدي لم نر من ذلك شيئا أبدًا
قال الرئيس في حزن
أحرق ربي جسدي
أكلّ هذا حاصل في بلدي؟
شكرا على صدقك في تنبيهنا يا ولدي
سوف ترى الخير غدًا
...
وبعد عام زارنا
ومرة ثانية قال لنا
هاتوا شكاواكم بصدق في العلن
ولا تخافوا أحدا
فقد مضى ذاك الزمن
لم يشتك الناس
فقمت معلنا
أين الرغيف واللبن؟
وأين تأمين السكن؟
وأين توفير المهن؟
وأين من
يوفر الدواء للفقير دونما ثمن؟
معذرة يا سيدي..
وأين صاحبي حسن؟
أقول أن هذه الأيام قد مضت، فقد كفر المصريون بآلهة الكراسي الزائفة.. وكل شبر من مكاسب ثورية.. كل قطرة من الحرية؛ لن تصب في كؤوس الندماء، فدماء الشهداء.. أقوى من البطش.. أقوى من السيف والبندقية!
***
مايكل مسعد وسماسرة الموت
شيء في قلبي يحترق
إذ يمضي الوقت ... فنفترق
ونمدّ الأيدي
يجمعنا حبّ
و تفرّقها.. طرق.
"أمل دنقل"
"فيفيان مجدي" رغم فارق السن الصغير، إلا أنها ابنتي التي لم أنجبها.. عرفتها منذ سنوات ليست بقليلة.. جميلة، متألقة، يبرق الذكاء والحب في عينيها.. تملك قلبًا ثائرًا حائرًا.. يريد تغيير الواقع الذي لا يعجبه، ربما لا يعلم كيف.. لكن نبضاته كانت رافضة!
ثم عرفتني على حبيبها "مايكل مسعد"، كان النصف الآخر لها.. تشاركا الحلم والواقع، تعاهدا على الحب الأبدي الناصع.. تحديا كل الظروف حتى أسسا مركز "دعم الليبرالية والتنمية المجتمعية".. قلت لهما منذ أكثر من ثلاث سنوات أنهما يجيدا الكلام أكثر من العمل! فكان الرد العملي هو نجاح المركز، ونجاحهما في رسالتهما..
كان آخر عمل اشتركا فيه هو مسرحية بعنوان "سماسرة الموت" عن المواطنة والتسامح وقبول الآخر.. أرادا أن يتعلم الشباب هذه المفاهيم الليبرالية الأصيلة.. لكن في المقابل كان هناك "سماسرة الموت" من اختاروا مفاهيم التكفير والهدم والحرق لتكون مبدأهم.. وكان هناك "زبانية الموت" من اختاروا الأسود المظلم لون أفكارهم، والدم مذاق شرابهم.. هؤلاء حماة الوطن!
لا أعرف كيف أعزيها! ولا ما أقول.. فكلنا فقدنا "مايكل".. كنت أتمنى أن أكون بديلك الليلة يا صديقي.. أن أحمل كفني عوضًا عنك.. فسامحني.
لا تحزني أيتها الزهرة البرية، فحبيبك بمكانٍ أفضل.. حيث الحرية الحقيقية، حيث الحب المطلق.. حيث السلام الأبدي.. حيث المواطنة والتسامح وقبول الآخر.. أليس هذا حلمكما الليبرالي؟.. وثقي أن الله لا ينسى شهداءه.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com