ÇáÃÞÈÇØ ãÊÍÏæä
طباعة الصفحة

سيكولوجية الدم فى مصر الآن

د. خليل فاضل | 2011-10-13 00:00:00
بقلم :خليل فاضل
 
علمني طب النفس وعلاجه المحدد المركز على بؤرة المشكلة ولُبّ العقدة أن أحاول أن أفهم رغم مرارة الحلق ووجع القلب والخلاصة كما أراها هي (أهدت الثورة في 11 فبراير 2011 وردة إلى  الحكام الجدد فبددّوها وأساءوا وشوهوا وجه الثورة، وحاولوا إضاعة دماء شبابها وغسلها بدماء جديدة ليست مختلفة إلاّ باختلاف الأطراف زماناً فقط، لكن في الواقع هؤلاء الأقباط يمثلون الناس وهؤلاء الجنود يمثلون السلطة؛ فسدّد أحد الناس العادية مطواة إلى أحد الناس العادية في زي القوات المسلحة، أي سدّدّ مطواة إلى تسعة أشهر ـ حملته فيه وهناً ـ من إدارة فاشلة لأمور البلاد، فلا هم حققوا ولا حاكموا ولا حتى استطاعوا إسعاف المصابين بكافة إمكانيتهم، وعلى حسب قول مذيع (هاتولنا طيارة المخلوع اللي بيروح بيها المحكمة علّها تنقذ بعض الضحايا). 
زاد المسئولون الطينة بلّه بإعدام حمام الكموني في محاولة لدفع الدية، السؤال المهم الآن هو لماذا لم يعدم الكموني قبلاً إذا كان مذنباً والسؤال الأكبر والأزلي لماذا عصام شرف يشبه أحمد نظيف جداً، إن الذين شخصوا أمراض المجتمع قبل وبعد الثورة قد شخصوها غلط، لأنهم ببساطة لا يملكون أدوات التشخيص، ولا يعرفون شيئاً عن المريض، ولا يرون إلاّ بعض أعراضه التي فسروها غلط ومن ثمّ جاء العلاج غلط. 
 
ياما اعتصامات ومظاهرات ولم يحدث مثل هذا العنف قليلاً، إذن فما هو السبب الحقيقي هذه المرّة، هو ذلك الغِلّ والضيق والحنق واليأس لدى الطرفين: الناس والأمن، الناس يقولون (اللي فينا مكفينا، كفاية بقى، مش ناقصينكم ،كرهنا وجودكم حولنا وأمامنا وبيننا، كمركبات صمّاء وجنود صامتون).
إن الأمن بشقيه البوليسي الذي يمتلك رصيداً لا بأس به من الغباء والحقد والكره لكل من يعترض، والعسكري برصيده من تبادل زجاجات المياه والورود والصور التذكارية فوق الدبابات، لا يعرفون إلا مهمات محددة، وعلى الرغم أنهم من الناس إلاّ أنهم جدد ومستغربون وقوفهم هكذا في الشوارع وأمام البنايات المهمة وغير المهمة، ومن ثم فهم يعتقدون ـ خطأ ـ هانحن لم نطلق النار عليكم إبان الثورة ويؤكدها رئيسهم طنطاوي متناقضاً مع نفسه (لم يطلب منا أحد إطلاق النار) ، نحن مصريون ونعيش في مصر والجيش المصري مصري، والناس مصريون (لا ينفع ولا يجوز ولاحدّ يقدر يعادي أهله، ولا حتى يفكر ولا يقدر عليهم، ولو نوى الشر وخانه ضميره وفقد صوابه، سيجد أن في ضرب الناس بالنار انتحاره ونهايته ونهاية الوطن) .
 الشعوب لا تُقهر مهما كان بطش الآلة البوليسية أو العسكرية أو تفكير ديكتاتورييها، الناس بكل نفاذ الصبر من التباطؤ والتواطؤ والتمثيل والمحاكمات المسرحية والرئيس المخلوع المتمارض الذليل تعبوا وملّوا، عندئذِ يكون الموت أهون على الحرّ من حياة تجرعها غصص ذل وهوان، ورد الفعل دائماً غير محسوب وقبيح.
 في المذبحة فوجئ الأمن بشقيه بالهجوم عليه ـ ربما ـ كانت هناك بعض القلة والأجانب والخونة والأشرار، كما كانوا في كل مذبحة وكل ثورة وكل انتفاضة وكل موقعة.
هناك لفّت المدرعة ـ في ماسبيرو في مشهد تكرر أثناء الثورة ـ دارت مترنحة كالذي فقد وعيه وأكله الغيظ من المباغتة، وتعب من صمته ومن وقفته الدائمة في الشارع، من تغير مكانه في جبهات القتال إلى شوارع الناس وداخل أحياءهم، فوجد لذة في اقتحام استوديوهات التليفزيونات وكأنها تجربة  حرب جديدة. 
أما عن رد فعل المجلس الوزاري العسكري (إعدام حمام الكموني، قانون دور العبادة الموحد بعد أسبوعين ـ هل يحتاج إلى كل هذه الجثث وكل هذا الدم ليصدر، ولماذا لم يصدر بعد صول وأطفيح وإمبابة)، مصطفى باشا السيد محافظ أسوان حبيب مبارك، هو الذي أشعل فتيل الفتنة، ويجب الآن وفوراً أن يقدم إلى المحاكمة لأنه غبي ومُدان. كنيسة إدفو (حجة) فجرت العقل الجمعي للناس على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم. 
لنا أن نعيد السؤال لماذا هنا (في ماسبيرو، رمز للإعلام المتهاوي الذريع الفشل، داخل العاصمة) ..على بعد خطوات من ميدان التحرير؟ ولماذا الآن؟ لأن هناك من تجاهل الناس، واستهزأ بهم احتقرهم وتركهم ينبحون على كيفهم بالضبط مثلما فعل سابقوا شرف والمجلس لا ... كفاية. 
أما آن الأوان للقوى الفاعلة الحاكمة والمستبدة بعقول الناس وبتفكيرهم القوى المؤثرة (لاحظوا أنا لا أتكلم عن الفلول أو البلطجية)، لكن أتحدث عن تلك الأجهزة الخطيرة التي تتحرك في الخلفية (علناً وخفاءاً)، إعلاماً حقيراً مبتذلاً بقوة وسحر الكلمة في الشارع وفي المواصلات. 
إن الجندي في الدبابة ما هو إلا رمز للمجلس العسكري، وحامل الصليب ما هو إلا رمز له واجهة قبطية للناس، لكنه بني آدم مصري يحمل هم وكبْت السنوات والسياسات، يلوك المجلس الكلمات ويجيد التسويف، لكن انقلب السحر على الساحر، فلا المسلمون (المتعصبون) تركوا أماكنهم ليهاجموا إخوانهم الأقباط، وإلا أكات المحرقة الإثنين، لتبقى ظلال مبارك المشوهة، ولا نجح أحد في إيجاد المبرر الكافي ليحكم القبضة على البلد والناس، بل تعرّى من آخر ورقة توت فانكشفت حيلة الساحر وعجزه. 
 
إن حقائق (القتل الجديد والذبح والدهس والبلطجة في الشارع والإعلام) فى مصر الآن، سواء بدافع الفوضى أو انتقام الفلول أو لعدم قدرة العسكر على إدارة الدولة المدنية، أو لفقدان بوصلة الإتجاه واختلال التوازن فجأة، نتيجة إزالة الورم الكبير الذي استشرى لـ 30 عاماً، فكان تصريحه الأوقع (أنا أو الفوضى) محققاً، ليس لضعف الثورة السمية فحسب لكن لإدراكه التام بنوعية رفاقه في السلاح ومدى تفكيرهم وحدود خيالهم، فما أصبح إلا واقعاً نسخة طبق الأصل من ردود فعل حسني مبارك للأزمات وسوء إدارته لها، إن حقائق معظم تلك الأمور إن لم يكن كلها، أطول عمراً وأشد وقعاً من حيثيات مذبحة ماسبيروملابساتها.
تنبئ المسألة عن تحول خطير فى نفسية الإنسان المصرى، اندفاعاته، قناعاته، قدراته. وخارج سلطة القانون والدين والأخلاق انفصلت قوانين الذبح الجديد عن قوانين الواقع وما اعتاده المجتمع، عن آلياته فى التحكم والتوجيه، القاتل ليس مدنياً أو عسكرياً، وليس مسلماً أو مسيحياً، إنه ذلك الغامض النتن الذي يوسوس في صدور الناس ويحرمهم من إغماض الجفن واستطعام اللقمة والفرحة بالوليد.
إن دوافع أزمة الحكم الذي يحاول أن يلبس لباس الطائفية، وشلالها الطاغى تظهر من ملامح غير ثابتة الحدود والمعالم، تمتد فى كل الاتجاهات، وتتسلل إلى كل مناطق الوجود البشرى، فالمجرم هنا فى مجتمع مرتبك، يغلى، متحايل.. ملىء بالعقد والمتناقضات.
المجرم هنا (فقدان الحكمة والقبضة، القدرة على التخطيط والتوجيه،هنا يعير صورته لكل ظواهر الانتماء العشوائى الاجتماعى فى مصر الآن، إلى فقدان الرعاية والعدالة الاجتماعية كما يجب أن تكون، قبل نعتها بالفئوية.
 
قبل الثورة كان المجتمع المصرى (وسطاً مضبوطاً مرضياً ـ بحسب القول المغلوط مسروقين لكن مستقرين)، أصبح الموقف الآن من خلال تحليل نوعية الأحداث وآثارها، أداة لقياس كل ما هو غير عادى ومألوف «فهل هذا جنون»؟ ليس بمعنى (المختل أو المندس أو حامل الأجندة أو أو) تلك التعابيرالحكومية التى تطلق فى وجه كل ما لا يستقيم داخل البؤرة المجتمعية والخطاب الثقافى الإنسانى السياسى الحالى.
إنها إفرازات ترهل الحكم ورخاوة الدولة وبلادة بعض الناس وتعودهم على العبودية، إفرازات النصب وثقافة الثراء السريع، ثقافة البغضاء. 
تُرى أين هو الخيط الرفيع الباهت بين العقل وذهابه، بين المخلوق المطيع الطيب الصبور المطمئن الذى اتبع الصراط المستقيم، وبين هؤلاء التائهين فى المدن الكبرى؟ هذا الخيط الذى امتد وازدادت سماكته وشحب لونه أو زادت قتامته فى سعار البحث عن لقمة العيش وتسديد الديون.
لقد اختفت الطمأنينة ولابد أن نبحث عن (الناظم القيمى) في ظل الثورة، المصل المضاد (للفساد القيمى) بعد الثورة، وهو ليس بالضرورة أن يكون حازماً حاسماً دينياً أخلاقياً إنسانياً. إن مصر تعيش الآن حالة من عدم التناغم وفقدان الانسجام، حالة غضب مجتمعي شديد يغلي كالمرجل.
لقد فقد المجتمع المصرى توازنه وتشوشت كل الأمور والتبست، وقد يصيح صائح: كلنا قتلة غير مباشرين، عبر كل ممارساتنا الفجة والفظة، القميئة والرديئة والواطية (واسطة ورشوة وحرمان من فرص عمل، وضع اليد على الأرض والعرض، الرداء البهلواني المرتق الممزق الفاضح لممارسات لاعبى الثلاث ورقات). 
 
وطن مستباح غرق فيه البعض من المحاصرين فى لجة الانتقام قتلاً، وأسلم الآخرون قيادهم لنفس فكت كل قيودها، فانفرطت، وانغمست فى حالة هذيان لا حدود لها ولا رابط. لقد خرج "الثوريون" الإعلاميون الجدد (وهم ُكثر) عن طاعة النموذج الذى صاغته رؤى المثقفين والمصلحين (وهم أيضاً كُثر) سلوكيات هزت كيان الوطن وبددته تبديداً. وفرضت نمطاً همجياً كله باطل.
المجرمون المجروحون، المحرومون يعيشون بين ظهرانينا، لا يملكون من حصاد أيامهم سوى سكين، يطعنون بها ولا يفزعون لمرأى الدم ولا يخافون الإعدام. ليس لنا حل سوى الخروج من هذا التعويم والذوبان.. نحن فى مرحلة انكفاء الذهن على نفسه، فلا رأى ولا رؤية ولا حكمة، قتل وسفك بسرعة للتخلص من البؤس الذى أحاط بنا جميعاً.
إنها أزمة ثقة اجتماعية وأمنية كبرى، وأصبح الأمن والأمان من أولويات المصرى، قبل تحصنه من أعدائه التقليديين
لكن من هو المسؤول الحقيقى عن حرق عصب الاطمئنان، لقد حدث شرخ هائل وصدع خطير من شلال الدم الذى أغرقنا فى لجته حتى صرنا نجاهد لكى نتنفس. الخوف كل الخوف أن نعمم. أن يخاف كلنا من كلنا، أو أن يقتل بعضنا البعض، ونموت حسرة من الحالة نفسها، فلا ثورة إلا بين قوسين، ونظام أسقطه الشعب لأنه يريد.
 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع

جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com