عادل حمودة يكتب : رسالة خاصة من البابا شنودة: فى ذهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــنى وقلبى كلام كثير لأقوله..لكنى أفضل الصمت لـــكـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــى يتكلم الله!
■ الخطة التى نفذت للوقيعة بين الجيش والأقباط هى الخطة التى سبق أن نفذت فى واقعة مسرح البالون وألتراس الأهلى والسفارة الإسرائيلية
■ نواب فى الكونجرس يطالبون بتحويل المعونة العسكرية إلى معونة اقتصادية.. وسأل أحدهم: مادامت مصر فى سلام مع إسرائيل فما حاجتها إلى جيش قوى؟! ■ مشهد المدرعة التى دهست متظاهرين أمام ماسبيرو يهدد بقطع المعونة العسكرية الأمريكية لمصر
هل كان المجلس العسكرى سيلجأ إلى نفس الأسلوب لو كان المتظاهرون سلفيين أو إخواناً أو جهاديين؟!
■ السفارة الأمريكية بالقاهرة تبحث فى ملفات ضباط الجيش وأمن الدولة المرشحين للسفر فى بعثات تدريبية لتضمن خلو ملفاتهم من استخدام العنف ضد المواطنين ■ الجيش الذى رفض إطلاق النار على متظاهرى الثورة وجد من يورطه فى استخدام سلاحه ومدرعاته مع الأقباط
مثل سيارة إسعاف تصل بعد وفاة المصاب راح عصام شرف يتفقد ميدان معركة «الأحد الحزين» بعد أن سكتت طلقات النار.. وهدأت أنفاس المدرعات.. وانشغل الفريقان بإخلاء القتلى والجرحى، لم يجد رئيس الحكومة «البسكوتة» أمامه سوى إلقاء مسئولية ما حدث على قوى دنيئة خفية «تسعى للإجهاز على الدولة» دون أن يحددها أو يشير إليها أو يضع إصبعه فى عينيها.. مكتفيا بصيغة المبنى للمجهول التى اعتاد عليها. بل.. والأهم.. دون أن ينتبه إلى أن ضعفه وعجزه وقلة حيلته كانت أسبابا مباشرة لما حدث، أما المجلس العسكرى فلم نسمع له صوتا فى تلك الليلة.. فقد كان حزينا بالقطع على ما اصاب رجاله، ولساعات طويلة عانت الكنيسة من داء الخرس المزمن المعتادة عليه فى مثل هذه الأزمات، وخلال هذه الساعات التى مرت دهرا على المجمع المقدس بدا البابا شنودة مكتئبا.. رافضا التعليق على ما حدث.. مكتفيا بإنكار العنف عن رعاياه.. داعيا للصوم ثلاثة أيام.. وهو إجراء دينى لم تلجأ إليه الكنيسة منذ أكثر من ثلاثين سنة.. تعبر به عن لجوئها إلى السماء.. عندما تفشل فى التفاهم مع الواقع على الأرض. وبدأت تيارات قبطية مختلفة تتعامل مع زمانها وكأنها فى «عصر الاستشهاد».. حين كان الرومان يقتلون كل من ينطق باسم الرب.. ولايزال المسيحيون يحتفلون بشهدائهم الأوائل فى العيد الذى يسمى «النيروز».. فى الخريف.. وتوزع فيها الكنائس البلح الأحمر رمزا للدماء التى سالت فى ذلك العصر.
1
كان أول تليفون تلقيته بعد عودتى من رحلة أمريكية متأنية، من محامية تنتمى لما يسمى «اتحاد شباب ماسبيرو».. تدعونى للمشاركة فى وقفة قبطية احتجاجا على هدم كنيسة «إدفو».. وتحددت مطالبها بمحاسبة المحافظ.. وإعادة بناء كنيسة مارى نياب التى هدمها متطرفون بحجة متعصبة.. أن قبابها وصلبانها تؤذى مشاعرهم.. وتعويض الضحايا الأقباط الذين حرقت بيوتهم ونهب متاعهم بنفس القوى الغاشمة. كان المتفق عليه أن يقف الأقباط بعد عصر الأحد الماضى أمام مبنى التليفزيون ثلاث ساعات (من الخامسة إلى الثامنة مساء) وهم يرتدون الملابس السوداء ويحملون الشموع البيضاء.. فى مشهد يتفجر بالرومانسية السياسية.. ثم ينصرفوا.. دون عنف.. أو قطع طريق، ضمت المسيرة التى تصدرها الأب صليب متى راعى كنيسة الجيوشى فى شبرا والناشط الحقوقى نجيب جبرائيل أطفالاً ونساءً تأكيداً على سلميتها.. وظهرت فى مقدمة الصفوف سيدة حامل.. مما يعنى أن نية المواجهة لم تكن موجودة.. وكسبت المكتبات المسيحية ببيع كل ما لديها من صلبان وصور للسيد المسيح والسيدة العذراء. لكن.. ما أن وصلت المسيرة إلى أسفل كوبرى السبتية حتى بدأت ساعة الصفر الحامية.. فهناك كانت كميات هائلة من كسر الرخام -الذى سبق استخدامه فى موقعة الجمل- جاهزا كى يمكن لمن يشاء استخدامه.. لتتكرر مأساة لاتزال منظورة أمام القضاء. كانت المسيرة تضم نحو عشرة آلاف شخص.. انضم إليهم عند كوبرى السبتية نحو 500 شاب مجهولى الهوية.. يضعون خوذات على رءوسهم وقد تجردوا من النصف العلوى لملابسهم.. وكانوا يهتفون «سلمية سلمية».. لكن ما أن وجدوا قواتاً من الجيش أمامهم حتى سارعوا بالهجوم عليها بما يحملونه من شوم وحجارة وسنج وسيوف.. لتبدو الصورة وكأنها مواجهة بين الأقباط والجيش.. وهو فخ وقع فيه الإعلام الرسمى دون أن يسمى عليه أحدا.
2
لقد راح تليفزيون أسامة هيكل يدعو المصريين «الشرفاء» على حد قول مذيعيه إلى حماية الجيش من الأقباط.. ولم يتردد فى أن يظهر جريحا يسب الأقباط ويصفهم بما لا يجوز تكراره.. وهو ما شجع رموزاً من تيارات إسلامية للنزول إلى الساحة.. بمزيد من التحريض.. وبسب البابا شنودة.. ليصب مزيداً من البنزين على النيران الهائجة. لقد سبق أن طلب الجيش من الشعب فى بداية الثورة حماية نفسه من البلطجية.. ورغم غرابة الطلب فإن الناس استجابت وشكلت ما عرف باللجان الشعبية.. لكن.. أن يطلب التليفزيون الحكومى من «الشرفاء» حماية الجيش من الأقباط فى وقت يعيش فى سلام مع اليهود فهذا ما لم يفهمه أحد.. بل كانت دعوة فى غير صالح الجيش الذى صرح قائده العام قبل عدة أيام بأنه جاهز لكل الاحتمالات بما فى ذلك ما يجرى فى سيناء، واللافت للنظر أن وزير الإعلام حذر القنوات الخاصة من عدم الموضوعية التى لم يقدر هو شخصيا على احترامها.. ومن ثم فإن الرجل الذى تولى من قبل رئاسة تحرير صحيفة «الوفد» المعارضة، ليس أمامه سوى أن يستقيل فإن لم يفعل فعلى من جاء به أن يقيله.. ولا نقول محاكمته بتهمة التحريض الطائفى وتهديد الوحدة الوطنية، لكن.. الصورة المظلمة لم تخل من بقع ضوء مبهرة.. فقد رفض مذيعون ومذيعات من التليفزيون الحكومى سياسة وزيرهم.. وتركوا مستقبلهم وراءهم حرصا على أمانة الكلمة التى كانت أول ما خلق الله.
3
والحقيقة أن الخطة التى نفذت فى الوقيعة بين الجيش والأقباط، هى الخطة التى سبق أن نفذت من قبل فى أحداث تكريم أمهات الشهداء عند مسرح البالون.. وسبق أن تكررت مع الألتراس فى استاد القاهرة.. وسبق أن شاهدناها أمام السفارتين الإسرائيلية والسعودية ومديرية أمن الجيزة يوم جمعة الغضب.. إن هناك قوى جاهزة لكتابة المشهد الأخير من كل حركة احتجاجية سلمية بطريقة همجية. سيناريو قديم سبق تجريبه بنجاح لإحداث الفوضى.. بالتنقيط.. أو بالتقسيط.. يستغل التحركات السلمية بدس بلطجية لتصبح مواجهات تخريبية.. تلتصق تهمتها فيمن خرج للتعبير عن نفسه بطريقة مشروعة.. لكن.. رغم تكرار السيناريو فإن أجهزة الأمن الخفية والمعلنة فشلت فى كشف أبعاده وأسراره.. أو ربما لا تريد أن تفصح عما تعرف. إن من السهل معرفة من وراء ذلك بمشاهدة التسجيلات التى صورتها القنوات الإخبارية التى صورت الأحداث.. ومعرفة الأشخاص الذين خرجوا على القانون.. والقبض عليهم والتحقيق معهم ومعرفة من يمولهم.. فالبلطجية ليسوا مناضلين أو أصحاب قضية.. فهم عبيد لمن يدفع أكثر.. وربما كان المحرضون من أنصار النظام السابق أو من أنصار جماعات تحلم بنظام قادم. ولو كان المجلس العسكرى قد كلف الحكومة بتشكيل لجنة لتقصى الحقائق، فإن الخوف أن تنتهى هذه اللجنة إلى نفس الطريق المسدود الذى انتهت إليه كل ما سبقها من لجان مشابهة.. وإن كان من الصعب الكذب والتلفيق هذه المرة.. فقد كانت هناك قنوات إخبارية مثل «العربية» و«البى بى سى» تبث لقطات حية تكشف وتفضح وتضع يدها على الحقيقة.. وفى الوقت نفسه شكل الاعتداء على قناة 25 يناير -الذى جرى إرسالها على الهواء- دليل إدانة على ضعف الموقف الرسمي.
4
ولو كان من الصعب تحديد المسئولين عن سيناريو الفوضى الذى سبق أن توقعته بوضوح منذ أسبوعين، فإنه من السهل تحديد أهدافه والمستفيدين منه، لقد قال مبارك قبل تنحيه: «إما أنا أو الفوضى».. وفى ظل نظامه الذى أفرز مليارديرات كون أغلبهم ثرواتهم من الفساد المالى والخلقى فإن رصد واحد فى المائة من أموالهم لتحقيق نبوءته ليس صعباً.. وربما كان نوعاً من رد الدين للنظام السابق الذى هو فى الحقيقة ولى نعمتهم، ولو كنت من جمال مبارك وشعرت بفقدان هيروين السلطة بعد إدمانه لدفعت كل ما أملك مقابل جرعة منه، وفى الوقت نفسه هناك قوى خارجية وداخلية تحلم بالسيطرة على مصر بإضعافها وتقسيمها وتمزيقها.. وليس أسهل من افتعال الفتن الطائفية.. فالشحن متوهج.. والتشدد متربص.. والسحل يمكن أن يكون على الهوية.. وهو ما تحقق يوم الأحد الماضى.. فقد كان هناك من يسأل المارة فى منطقة الأحداث عن ديانته.. أو يفتش فى ذراعه عن وشم صليب.. ليكون السحل مصيره. ويصر السيناريو المتكرر على إضعاف الأمن.. والصدام مع الجيش.. وهدم الدولة.. وتحطيم أعمدتها القوية.. لتبنى من جديد على مزاج من يخطط ويمول ويحرك.
5
والغريب أن قيادات فى المجلس العسكرى تعرف ذلك وتخشاه وتحذر منه.. وكانت تتوقع أن تنفذ المؤامرة بحصار وحداته ومعسكراته مما يضطر للضرب فى المليان.. وهو ما لم يحدث.. وإن كان ما حدث لا يقل سوءاً.. فقد تورط الجيش فى اشتباكات مع الشعب.. وحقق بنفسه ما كان يتوقعه من غيره. ويمكن القول إن حسابات المجلس العسكرى فى التعامل بعنف مع الأقباط، لم تكن مناسبة هذه المرة.. فقد تصور أن تعب الناس من تعطيل الحياة بسبب المظاهرات سيعطيه مبررا لما فعل.. لكن.. السؤال: هل كان سيلجأ إلى نفس الأسلوب لو كان أمامه سلفيون أو إخوان أو جهاديون؟. والسؤال الأهم: من الذى دفع الجيش إلى الصدام مع الأقباط بالذات، ليكون بين الطرفين دم لن يستفيد منه سوى من يكره الأقباط ويريد ترحيلهم، ومن يسعى لتشويه سمعة الجيش الذى حمى الثورة كى يكون بديلا له فى السلطة؟.. إن الإجابة عن السؤالين بصراحة وجرأة ستحدد لنا المستفيد قبل الجانى، ولعل الخاسر الأكبر فيما جرى هو الجيش نفسه.. وربما كانت أكثر التيارات قربا منه هى أكثرها تضليلا له.. فليس كل ما يقال يصدق.. بما فى ذلك الكلام المعسول الذى يغازل به الإخوان الأقباط، ولو إلى حين تنتهى الانتخابات.. ولو كان الإخوان وغيرهم ممن يقفون فى خندقهم، جادين فيما يقولون عن مساواة المواطنة بين المسلمين والمسيحيين، فعليهم إثبات ذلك عمليا، بأن يذهب مرشد الإخوان ورموز الأحزاب السلفية إلى «إدفو» للمشاركة فى وضع أساس الكنيسة التى هدمت هناك.. «المية تكدب الغطاس».
6
فى الثلاثين سنة الماضية شهدت مصر 166 حادثاً طائفياً.. منها 11 حادثاً وقعت بعد ثورة يناير التى كانت فى حد ذاتها دليلاً صافياً على نقاء النسيج الوطنى من البقع والعقد. بدأت الفتن الأخيرة بكنيسة أطفيح وقرية صول ثم امتدت إلى المقطم، ثم وصلت إلى إمبابة ثم مرت على عين شمس، ثم استقرت مؤقتا فى أسوان لحين تحديد مكان الجريمة القادمة.. ورغم الحرائق التى اشتعلت والأقباط الذين قتلوا فإن العدالة لم تضع يدها على متهم واحد.. وهو أمر مثير للدهشة.. خاصة أن المحرضين والمنفذين معروفون بالصوت والصورة فى سيديهات لم تفحصها النيابة العامة حتى الآن. وفى هذه السيديهات.. هناك من قال: «إنهم لن يكونوا رجالا إذا لم يحرقوا الكنائس فى إمبابة».. وهناك شيخان قادا الأهالى فى إدفو لهدم كنيسة مارى نياب.. وحرق بيوت الأقباط.. وهناك بلاغات من محامين أقباط ضد قيادات متعصبة دعت من فوق منابر مساجد معروفة، إلى عدم مصافحة المسيحيين وعدم قبول المشى خلفهم، وإزالة الصلبان وقباب الكنائس وحرمانهم من الجهر بشعائرهم، وفى خلفية المشهد جماعات سلفية خرجت من تحت جناح جهاز أمن الدولة، بعد أن استغلها ضد الإخوان والأقباط لتبدو كأنها تحررت من ظلم مزمن دون أن يجرؤ بعضها على الدفاع عن نفسه، فى تهمة تلقى ملايين من الخارج.. وهى تهمة لم تنكرها.. ولم تحاسب عليها. وفى نفس الخلفية قتلى من عينة عبود الزمر وعاصم عبدالماجد أصبحوا نجوما للمانشيتات الصحفية والفضائيات التى جعلت منهم أبطالاً.. وجعلوا من أنفسهم سياسيين تائبين يسعون للحكم بصندوق الانتخاب، بعد أن عجزوا عن الوصول إليه بالسلاح. وفى مكر لا يصعب إدراكه يحرك الإخوان الأمور فى اتجاه واحد.. مصلحتهم وحدهم.. إنهم يشعرون أنهم أمام فرصتهم الأخيرة للفوز بالسلطة بعد أن بدت قطوفها دانية، إن الجماعة لا تزال محظورة.. ليست لها شرعية قانونية.. وترفض الاكتفاء بالحزب الذى شكلته وأعلنته من قياداتها الدينية.. كى لا تجد نفسها خاضعة لحساب الأجهزة الرقابية التى ستسألها عن الملايين التى تنفقها.. من أين أتت؟.. وإلى أين ذهبت؟، ورغم كل الأحزاب السلفية والجهادية التى خرجت إلى النور لا يزال هناك من يقول إن القانون يمنع قيام أحزاب على أسس دينية، وفى اليوم التالى لموقعة ماسبيرو أصدر القضاء الإدارى حكما بإعلان حزب الجماعة الإسلامية.. ومن اسم الحزب يصعب إنكار أنه حزب دينى، فى هذا المناخ السياسى والإعلامى والدينى المتشدد والمتشنج كان من السهل أن يحدث ما حدث.. بل.. فى ظل المناخ نفسه فإن ما هو قادم أخطر وأسوأ وأشد. وربما أذيع سرا لو قلت إن السلفيين كانوا وراء فرض حظر التجول فى منطقة الأحداث فى نفس ليلة وقوعها.. لقد تجمع نحو خمسة آلاف سلفى فى ميدان مصطفى محمود كى يتحركوا فى اتجاه تجمع الأقباط لمواجهتهم.. فسعت أجهزة الأمن لوساطة من سلفيين عقلاء كى لا تصبح لترات الدم التى سالت بحورا تفيض.. وكان حظر التجول -كما تحدد زمانه ومكانه- هو الحل.
7
كانت لقطات معركة ماسبيرو محزنة.. مقبضة.. فهناك سيارات عسكرية محترقة.. جثث ضحايا ملقاة فى الشوارع ومداخل العمارات وطرقات المستشفى القبطى.. جرحى عاجزون عن النطق.. قوات أمن منهكة.. ساحات مغطاة بالطوب والحجارة الملوثة بالدماء.. لكن.. الأكثر ألماً هو أن القتال الشرس كان بين مصريين ومصريين.. بين أبناء وطن واحد.. فى سابقة مؤلمة لن يتركها التاريخ تمر بسهولة. إن الجيش الذى رفض إطلاق النار على متظاهرى الثورة وجد من يورطه فى استخدام مدرعاته فى مواجهة متظاهرى يوم السواد والشموع.. ويحتاج عقل أشد الناس غلظة وقتاً طويلاً ليستوعب كيف هاجمت سيارة مصفحة بشرا لا يغطى لحمهم شيئا.. لتعيد إلى الذاكرة الوطنية مشهد سيارة الأمن الشهيرة التى سبق أن فعلت الشيء نفسه فى الأيام الأولى للثورة.. ولتعيد للذاكرة الخارجية مشهد المدرعات الصينية وهى تسحل معارضى الحكم الديكتاتورى هناك. ولست قادراً حتى الآن على استيعاب أن سيارة عسكرية دهست رأس مواطن مصرى لا يهمنى معرفة ديانته أو مهنته أو عائلته.. يهمنى فقط مخه الذى اختلط بأسفلت الطريق.. وعظامه التى تحولت إلى بودرة تلك.. وحياته التى انتهت بآخر وسيلة قتل يتخيلها.. ونتوقعها. مشهد صعب قبوله أو تصديقه أو تخيله.. سيكون شهادة قاسية ضد المؤسسة العسكرية التى تعانى متاعب يفرضها عليها الكونجرس الأمريكي، كى لا تحصل على المعونة التى تتلقاها سنويا للتسليح والتحديث والتدريب وقطع الغيار.
8
لا يستمر الخريف فى واشنطن طويلا.. فسرعان ما يفرض عليه الشتاء برده القارس ليخفف من سخونة الأحداث السياسية التى تعيشها دائما العاصمة الأمريكية. وأنا هناك عرفت أن وفدا من غرفة التجارة المصرية الأمريكية برئاسة جمال محرم ويضم سبعة أعضاء غيره وصلوا واشنطن يوم السبت الماضي.. يوم أن غادرت الولايات المتحدة عائداً إلى مصر - ولولا ارتباطات هنا لكنت قد بقيت لمتابعة مهمتهم هناك، كانت زيارة الوفد هى الزيارة الثالثة بعد الثورة.. كانت الزيارة الأولى فى مارس.. والزيارة الثانية فى يونيه.. وهذه هى الزيارة التى عرفت أنها جاءت تلبية لرغبة المجلس العسكرى وبتنسيق مع شركات اللوبى الأمريكية التى تعمل لصالح الحكومة المصرية للضغط على الكونجرس والبيت الأبيض كى تصل إلى ما تريد، وفهمت من مسئولين تنفيذيين فى هذه الشركات أن الوفد المصرى له مهمتان.. الأولى: هى مواجهة رفض أعضاء فى الكونجرس استمرار المعونة العسكرية (1300 مليون دولار) وتحويلها إلى معونة اقتصادية.. فما دامت مصر على حد قولهم فى سلام مع إسرائيل فما حاجتها إلى جيش قوى؟، ويتصدر القائمة النائب اليهودى «انتونى وينر» الذى وصل بتطرفه إلى حد المطالبة بحظر المساعدات العسكرية لمصر تماما.. بينما اكتفى زميله «ديفيد أوباى» بخصم 200 مليون دولار من المعونة إذا لم يحدث إصلاح ديمقراطى حقيقى فى مصر.. وطالب فريق ثالث بأن يذهب الجزء المقتطع من المعونة العسكرية للإنفاق على دوريات حماية الحدود بين مصر وإسرائيل. وحسب قانون سابق جرى إقراره فإنه لا يجوز منح معونة عسكرية للدولة تستخدمها ضد شعبها.. وكانت السفارة الأمريكية فى القاهرة تفحص ملفات ضباط الجيش وضباط أمن الدولة المرشحين للسفر فى بعثات تدريبية لتطمئن إلى أن لا أحد منهم استخدم القوة ضد مواطن مصرى، ويحاول اللوبى اليهودى تمرير قانون يحمل رقم 696 وباسم قانون الإصلاح السياسى ومكافحة الإرهاب فى مصر وينص مشروعه الذى لم يجر التصويت عليه بعد «على حظر تقديم مساعدات عسكرية فى السنة المالية 2010 والسنوات التالية لها»، وستتولى شركات اللوبى التى تعمل مع مصر ترتيب لقاءات مع وفد الغرفة المصرية الأمريكية مع أعضاء الكونجرس، ليس فقط من أجل مواصلة تدفق المعونة العسكرية وإنما ايضا بحثاً عن فرص مناسبة للاقتراض.. ففى مصر أزمة سيولة يمكن وصفها بأنها حادة.. لا نجاة منها سوى بالاقتراض.. ولأن فائدة الاقتراض على الدولار أقل من ربع الفائدة على الاقتراض بالجنيه، فإن الحل يمكن أن يكون فى الخارج، وكان المجلس العسكرى قد رفض شروط البنك الدولى للاقتراض وقدم مليار جنيه قرضا بلا فائدة من مدخراته.. وفى الوقت نفسه هناك -على ما يبدو- شروط أفضل يمكن الحصول عليها من صندوق النقد الدولى أو من مؤسسات مالية أخرى.. وهذا ما يجرى البحث عنه فى واشنطن الآن.
9
فى مجلة «بوليتكو «الأمريكية تناول المحلل الاستراتيجى «جين ديماجيو» ما وصفه بالمستقبل الغامض لمبيعات الأسلحة الأمريكية لمصر.. خاصة إذا جاءت حكومة فى مصر ليست على هوى الولايات المتحدة، والمقصود بحكومة ليست على الهوى الأمريكى، حكومة متطرفة دينيا.. بجانب شرط آخر هو حماية الأقليات.. وهو ما يجعل الأحداث الأخيرة تلقى بظلالها على قضية المعونة العسكرية.. ومن ثم فإن مشهد السيارة العسكرية التى راحت تفرق المتظاهرين الأقباط سيكون مشهداً مغرياً لخصوم مصر فى الكونجرس من النواب اليهود، ويتوقع «جين ديماجيو» أن تؤثر الاضطرابات التى تحدث فى مصر على عقود بمليارات الدولارات بين الحكومة المصرية وشركات السلاح الأمريكية.. فالسياسة هنا أهم من البيزنس. لكن.. مساعد وزير الدفاع الأسبق «أريك ايدلمان» يرى أن كل شىء سيبقى على حاله «فليس هناك سبب يدعو للعكس». وأغلب الظن أن المباحثات التى عقدت مؤخرا بين قادة الجيش المصرى ووزير الدفاع الأمريكى «روبرت جيتس» ورئيس الأركان «مايكل مولن» كانت بهدف طمأنة الجانب المصرى ببقاء الأمر على ما هو عليه.. وإن كانت هذه الطمأنة سابقة على الأحداث الأخيرة.. وهو ما يعنى أن مصر فى حاجة لممارسة مزيد من الضغوط بأكثر من وفد مصرى كى تصل إلى ما تريد، وطبقا لتقرير مركز بحوث الكونجرس فإن مصر اشترت من الولايات المتحدة بضائع بما يزيد على 12 مليار دولار، بما فيها الأسلحة التى ضمت صواريخ هيلفاير وبلاك هوك وهيلكوبتر أباتشى وغيرها. وليست المشكلة فى المعونة نفسها فالقوات المسلحة المصرية لديها مدخرات مالية بقيمة عشر سنوات من المعونة لكن المشكلة أن توافق الحكومة على بيع الأسلحة وقطع الغيار ولو نقدا.. فهم -على حد قولهم- لا يبيعون لنا الطائرات فقط، لكن يبيعون لنا أجزاء من الطائرة.. بجانب التحديث الدورى لها.. والتدريب عليها.. ومن ثم لا تتردد الولايات المتحدة فى استخدام نبرة التهديد، بقطع المعونة عن مصر لو تزايد عداء الحكومة لها، لكن من الصعب فى الوقت نفسه - إنكار حاجة الولايات المتحدة لمصر.. فعلى حد تعبير «جريم بانرمان» -الخبير فى معهد الشرق الأوسط ومؤسس شركة استشارات بانرمان- فإن مصر ساعدت الولايات المتحدة فى كل شىء تقريباً.. بداية من تبادل المعلومات والتعاون المخابراتى، مرورا بمناورات النجم الساطع التى ساعدت الجيش الأمريكى على تدريبه فى المناخ الصحراوى للحرب قبل حرب الخليج الأولي.. كما أن الولايات المتحدة تتمتع بميزة الإبلاغ المتأخر عن مرور سفنها فى قناة السويس.. فالسفن العسكرية لا تحتاج سوى يوم واحد للإبلاغ.. بينما السفن العسكرية للدول الأخرى تحتاج إلى أشهر، ويضيف بانرمان: إن الأمريكيين ينظرون إلى الجيش المصرى على أنه القوى الوحيدة التى تضمن انتقال السلطة فى المرحلة القادمة.. وأنه المؤسسة الوحيدة القادرة على العمل بكفاءة وسط الفوضى القائمة.. فهو جزء من الحل وليس جزءاً من المشكلة.. وإن كانت الحكومة الأمريكية تتصرف بحذر خشية أن تبدو وكأنها معارضة لإرادة الشعب.
10
طلبت حوارا مع البابا شنودة يعبر به عن مشاعره بعد ما حدث فى ماسبيرو.. لكنه رد برسالة بليغة من كلمات معدودة لخص بها ما كان من الصعب على ساعات طويلة أن تقوله. قال: «فى ذهنى كلام كثير لأقوله.. وفى قلبى كلاما أكثر من هذا.. لكنى أفضل أن أصمت.. لكى يتكلم الله».
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com