بقلم يوسف سيدهم
للمرة الثانية أسجل أن تأييدي للمرسوم الصادر عن المجلس الأعلي للقوات المسلحة بشأن تفعيل حالة الطوارئ كان اقتناعا بضرورة إعطاء السلطات المسئولة سلطات استثنائية للحد من الفوضي والانفلات الإجرامي وتهديد وترويع المواطنين العزل بالإضافة إلي القضاء علي ظواهر إجرامية تفشت مثل قطع الطرق علي الآمنين وتعطيل المرافق العامة والمنشآت...إلي آخر ذلك من ملامح البلطجة التي انتشرت في الفترة التالية علي ثورة يناير حيث استباح المجرمون والغوغاء أعراض وأملاك المواطنين اعتمادا علي أخطر انسحاب أمني عرفته مصر منذ تأسيس الدولة الحديثة.
وكتبت أوضح بجلاء أن تفعيل حالة الطوارئ لايمكن أن يمتد إلي قمع الحريات أو تكميم الأفواه أو كسر الأقلام-وهي الأمور التي عاني المصريون منها سابقا في ظل فرض الطوارئ- أي أن السلطات يجب أن تستهدف من فرضها حالة الطوارئ تأمين المواطن المصري والحفاظ علي كرامته وعرضه بدلا من استهداف المواطن نفسه والتنكيل به بسبب معتقداته وانتماءاته وممارسته لحريته في التعبير.
انطلاقا من هذا المفهوم أعرض اليوم بكثير من مشاعر القلق والاستنكار تقريرا خطيرا صدر في أغسطس الماضي عنالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية بعنوان شهداء خلف القضبان-قتل وتعذيب السجناء بعد اندلاع ثورة 25 يناير...مضمون التقرير مروع لأنه يثبت أن الأدوات البشعة التي كانت تستخدمها السلطة الأمنية قبل 25يناير وكانت تتحدث عنها تقارير منظمات حقوق الإنسان المصرية والعالمية, ماتزال هي نفسها الأدوات التي تستخدمها تلك السلطة بعد 25يناير...وهنا يجب أن نقف وقفة لنوضح أن هناك فرقا شاسعا بين تفعيل حالة الطوارئ في إطار الاعتقال للاشتباه أو القبض الاحتياطي علي البلطجية والمجرمين دون أمر النيابة أو المحاكمات الخاصة لمتهمي جرائم المخدرات والاغتصاب والبلطجة, وبين انتهاك آدمية هؤلاء المجرمين وتعذيبهم أو الانتقاص بأي قدر من حقوقهم القانونية أو إهدار كرامتهم أو تعريض حياتهم للخطر.
التقرير المذكور خطير ومؤسف ويتطلب تحقيقات سريعة جادة من جانب المجلس القومي لحقوق الإنسان, واللجنة القومية لتقصي الحقائق المشكلة بقرار رئيس الوزراء رقم2011/294 لأن التكتم علي المعلومات التي أوردها التقرير أو السكوت عنها يحمل مدلولات سلبية جدا للرأي العام ويعكس مدلولات أسوأ عن استمرار شهية السلطة في إرهاب المواطن المصري والتنكيل به وانتهاك كرامته وآدميته, وهو الأمر الذي كنا نعتقد أنه ذهب وولي بغير رجعة...تعالوا معي في جولة سريعة بين جنبات التقرير....
*من المعروف أن عددا من السجون المصرية شهد حالة من الفوضي إبان جريمة الانسحاب الأمني التي أعقبت اندلاع ثورة 25يناير أدت إلي شيوع الاضطرابات والهروب الجماعي للسجناء, وعلي رأس تلك السجون: أبو زعبل, والمرج, والفيوم, ووادي النطرون, وقنا...لكن التقرير لا يتناول حالات هذه السجون إنما تنصب الدراسة علي سجون أخري لم تشهد اضطرابات ولاتعرضت لهروب أي من سجنائها مثل سجون طرة, والاستئناف في القاهرة, وسجن القطا في الجيزة, وسجن شبين الكوم في المنوفية, وسجن الأبعادية في دمنهور.
*السجون الخمسة التي تناولتها الدراسة شهدت مظاهر خطيرة للاستخدام المفرط وغير القانوني للأسلحة النارية بواسطة ضباط السجن ضد سجناء غير مسلحين أدي إلي مقتل نحو مائة سجين وإصابة المئات, وتشير الدلائل إلي أن إطلاق النار عليهم كان متعمدا ولم يكن مرتبطا بمحاولات هروب أو في إطار التصدي لحالات تمرد أو عصيان...كما أن معاينة جثث القتلي أثبتت أن الرصاص المستخدم في إطلاق النار لم يكن موجها للأرجل والسيقان للسيطرة علي حركة السجين أو منعه من الهرب, أنما تركزت آثار الطلقات علي الجزء الأعلي من الجسم في الرأس والرقبة والصدر والبطن والظهر, مما يصم تلك الحالات بالقتل العمد.
*من أخطر الشهادات التي حصل عليها معدو التقرير ما جاء من سجن الاستئناف حيث تشير الدلائل المرتبطة بمقتل أربعة عشر سجينا يومي 30, 31 يناير 2011 أن ضباط السجن استدعوهم من زنزاناتهم إلي الخارج حيث ربطوهم بالحبال واعتدوا عليهم بالضرب المفرط قبل أن يطلقوا عليهم الرصاص من مسافة قريبة, ويصف التقرير هذه الجريمة النكراء بأنها أشبه بحالات الإعدام الجماعي خارج نطاق القانون وضد شتي مواثيق حقوق الإنسان.
*في ظل حالات أخري لإطلاق النار عشوائيا علي السجناء داخل العنابر سقط قتلي ومصابون وسط زملائهم من نزلاء العنابر, وتم ترك جثث القتلي لأيام حيث سقطوا صرعي لتتعفن مع ترك المصابين دون أية إسعافات أو رعاية طبية, بل أيضا تم قطع المياه والكهرباء عن العنابر ومنع الطعام عن الأحياء الباقين من السجناء بالإضافة إلي استمرار إطلاق النار علي من تسول له نفسه منهم الخروج من العنبر...واستمر ذلك الوضع الرهيب حتي تدخل الجيش في وقت لاحق من شهر فبراير حيث تم نقل المصابين إلي وحدات علاجية لكنها غير مجهزة ومزدحمة للغاية ولا تصلح لعلاج الإصابات الجسيمة.
*بالرغم من العدد الكبير من الشكاوي المرفوعة لكل من المجلس الأعلي للقوات المسلحة ووزارة الداخلية ومصلحة السجون لمناشدة كل منهم التدخل الفوري لوقف عمليات القتل العشوائي والانتهاكات الخطيرة, إلا أن هذه السلطات لم تتدخل بشكل فعال, بل أن وزارة الداخلية استمرت في استخدام القوة المفرطة ضد السجناء وفي الوقت نفسه قامت بالتعتيم علي الانتهاكات الجارية بإصدار معلومات غير صادقة أو دقيقة لأهالي السجناء ولوسائل الإعلام.
*قامت اللجنة القومية لتقصي الحقائق بالتحقيق في الانتهاكات التي حدثت, وكان ذلك في ثلاثة سجون شهدت حالات هروب جماعي (وادي النطرون وأبو زعبل والمرج) بينما اكتفت بالتحقيق في سجنين فقط من السجون التي لم تشهد اضطرابات أو هروبا جماعيا(طرة والقطا) ونشرت السلطات ملخصا لتقرير اللجنة دون نشر التقرير كاملا...والملخص لم يحدد المسئولية بشأن قتل وإصابة السجناء أو بشأن الاستخدام غير القانوني والمفرط للقوة أو بشأن المعاملة غير الإنسانية للسجناء.
*يطالب تقرير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية السلطات المصرية بتشكيل لجنة تقصي حقائق مستقلة لإعادة فتح هذا الملف الشائن لكشف سائر الانتهاكات التي حدثت في السجون المصرية وتحديد المسئولين عنها, وأن تقدم تقريرا وافيا عن ذلك إلي النائب العام ونشر التقرير علي الرأي العام...هذا مع التعويض الملائم لأسر القتلي والمصابين. كما تطالب المبادرة المصرية بإحالة كافة الضباط والمسئولين الذين تثبت في حقهم أية انتهاكات إلي المحاكم الجنائية المختصة ووقفهم عن العمل حتي الانتهاء من التحقيقات والمحاكمات...مع اتخاذ كافة القرارات والإجراءات التي تضمن التزام جميع السجون بالقوانين المصرية والمعايير الدولية المتصلة برعاية المسجونين وصيانة آدميتهم والحفاظ علي حقوقهم.
***ختاما أقول إن تقريرشهداء خلف القضبان يمثل علامة سوداء علي جبين ثورة 25يناير لن تمحي إلا بتفعيل التوصيات التي طالب بها التقرير, وليكن معلوما لأي عاقل ولكل مسئول أن تفعيل حالة الطوارئ للأسباب التي أعلنت لايمكن بحال من الأحوال أن يفسر علي أنه ضوء أخضر لممارسة الجرائم المشينة التي فضحها التقرير.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com