دأب "عم مجدي" -والد الشهيد مينا اسكندر- على الجلوس في ميدان التحرير يوميًا منذ اندلاع الثورة الثانية، ليمارس مهام ثلاث: "كتابة الزجل، والمطالبة بإقالة المشير، وتأمل المكان الذي صعدت فيه روح نجله".
وبحسب التليفزيون الألمانى -دويتشه فيله- يتوسط "أبو مينا" ميدان التحرير بالقاهرة، جالسًا القرفصاء أمام عشرات اللوحات المتناثرة أمامه على الأرض، مسلحا بعدته التي تتكون من أقلام ملونة، وبعض الورق المقوى، وعلب سجائر.. يمر الناس أمامه، فلا يتوقف منهم إلا القليلون، للوهلة الأولى تتصور أنه يبيع تلك اللوحات، شأنه شأن الكثيرين في الميدان ممن لا تعجزهم حيلة للاسترزاق إلا وابتكروها.
لكن مجدي اسكندر لا يسعى إلى الاسترزاق من الثورة كغيره.. ولا إلى التكسب بدم ابنه الشهيد، فهو يأتي إلى الميدان فقط ليجلس على الأرض مواجها لذات البقعة التي سقط فيها "مينا مجدي اسكندر" يوم "جمعة الغضب" 28 يناير يبث أحزانه في كلمات منظومة تجد طريقها بغزارة وتدفق إلى الورق.
خطت الثورة قسمات وجهه الأسمر وخط الشيب شعره ولحيته البيضاوين، لتبدو ملامحه أكبر بـ30 عاما مما يشي به جسده الهزيل وقميصه الصيفي الأبيض، وبنطاله الشبابي المتهالك.. لم يكتف مجدي بالكتابة على الورق، فسجل على صدر قميصه "متعوّلش الهم ومتخافش ربنا موجود"، وعلى ظهره كتب "ابني مينا شهيد وأنا كمان شهيد تحت طلب اليسوع المسيح، ومستعد للموت متى أراد لتكن إرادته".
بهذا الإيمان والصبر والجلد تحدث مجدي قائلاً: إنه كان قبل الثورة يعمل في تصليح أجهزة التلفزيون وتركيب أطباق "الدش" وهو يكتب الزجل منذ عام 1981، ودونما مناسبة أو سؤال ينطلق مجدي باسترسال، قائلاً: "أحب مصر منذ زمن. وما الذي يعنيه موت ابني، إذا كان ذلك لكي تعيش بلدنا. مبارك اعتقد بأن الشعب مخدر. لكنه للأسف مازال إلى الآن يدير البلد، ويعاقبنا من خلال المشير طنطاوي"، الذي يرأس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الحاكم الفعلي لمصر ما بعد مبارك.
وأشار مجدي بيده أمامه على بعد مترين إلى السور القصير المحيط بالحديقة التي تتوسط الميدان، التي يستخدمها الثوار لأخذ فترات متقطعة من الراحة بين كل جولة وأخرى مع قوات الأمن، مضيفا "ابني مينا كان يجلس بجانبي هنا في جمعة الغضب يوم 28 يناير. كنا جالسين أمام هذا المبنى القذر التابع للحزب الوطني المنحل نراه يحترق أمام أعيننا وفجأة سقط ابني على كتفي شهيدا".
ومضى "أبو مينا" يسرد ذكريات اللحظة الأخيرة من حياة ابنه: "كانت الساعة حوالي العاشرة والنصف ليلاً. كان مينا يكتب خواطره من الميدان، بينما كان شارع المتحف المصري مشتعلاً بالاشتباكات. لم ألتفت إلا لحظة واحدة خلفي، ثم نظرت إليه لأفاجأ بنقطة ليزر خضراء مسلطة على جسده، وفي لحظة كان القناصة قد نالوا منه، ليرتمي على كتفي غارقا في دمائه. كل ذلك في أقل من ثانية".
وأضاف مجدي "قمت أهذي وأبكي وأصرخ، وأسأل الناس عما جرى، لم أصدق أن مينا ذهب بهذه البساطة في لحظة دون أي ذنب ارتكبه".. بعد ساعات من موت مينا كان المتطوعون ينقلون عشرات الشهداء، إلا أن مجدي أصر على أخذه إلى مستشفى "كيتشنر" لاستصدار تقرير طبي بالسبب الحقيقي للوفاة، وقد كان، بحسب ما يشرح: "بخلاف عشرات الضحايا الآخرين الذي قُضوا في هذا اليوم على يد القناصة، كتب لي الأطباء هناك تقريرا صحيحا".
ورغم كل ذلك، لا يبدو أن لمجدي مطالب شخصية، مضيفا أنه لا يريد "القصاص لمينا، بل أريد القصاص لمصر، أجيء إلى هنا كل يوم لأسجل مشاعري وأترجم أحاسيسي على الورق، أشعر بالناس وأكتب لهم، لا أبيع هذه اللوحات، بل أعرضها ليقرأ الناس معاناتهم".
وبسؤاله متى سيفض اعتصامه في الميدان، أشار إلى البطانية التي يجلس عليها قائلاً: "سأبقى هنا إلى أن يرحل طنطاوي، هذا هو مطلبي بالإضافة إلى إتمام محاكمة مبارك وأبنائه، فضلاً عن محاكمات أحمد عز وقصص بورتو طرة، كل هذه سيناريوهات سخيفة لا تعنيني، لأنها من تأليف زكريا عزمي وحسين سالم وعمر سليمان وأحمد شفيق".
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com