أخر ما توقعته هو أن يشارك ميسي لاعب كرة القدم الأشهر في العالم في المونديال السوري ، فبعد أن أدلتا كل من عارضة الأزياء نعومي كامبل و الممثلة العالمية انجيلينا جولي بدلوهما فاجأنا ميسي بتبرعه بمبالغ مالية لمعالجة الجرحى السوريين !!!! . و لكن هل يدرك هؤلاء المشاهير حجم المفارقة التي عبروا عنها بمواقفهم هذه ؟؟
أنا كمواطن سوري أؤمن بأن أخي في الوطن هو انسان مميز و ذو قيمة فريدة و لكنني و من باب تقديس كل حياة لا أستطيع أن أثمن ستة أو ثمانية آلاف قتيل سوري بأغلى من مليون ضحية عراقية أو من سبعمائة ألف في رواندا أو من مائة و ثلاثين ألفاً في ليبيا ، فكيف كان لمشاهير مترفين لا ناقة لهم و لا جمل في كل مشاكل الشرق الأوسط أن يتحمسوا للمشاركة في النهائي السوري بينما فاتهم مجرد الترحم على قتلى الأخرين ؟؟
الجواب على هذه المفارقة بسيط للغاية و لكنه مهم لأنه يختزل الجزء الأكثر تأثيراً و المخفي في الحدث السوري و هو "الاعلام" الذي أثبت مرة جديدة انه أقوى من كل جيوش العالم مجتمعة لأنه صانع الحكايات و بالتالي هو صانع للوجدان .
من مفارقات البشر ان عميد المثالية الانسانية "أفلاطون" قد نبهنا مرة منذ أكثر من ألفي عام بأن من يروي القصص يملك التاريخ إلا أنه فاتنا أن نحصن أنفسنا في مقابل هذا العملاق الهلامي المخادع الذي استطاع على سبيل المثال أن يحرك مشاعر لاعبنا الأكثر انشغالاً ليترك مبارياته و منافساته هناك و يجري إلى المونديال السوري ليحجز له موطئ قدم في هذا الحدث الأبرز عالمياً.
لم يخطئ فريق السلطة في سوريا في تشخيص طبيعة ما ينتظره ، فأيقن باكراً ، حتى قبل بدء الأحداث ، بأن معركته الكبرى تكون عبر التلفزيون و الانترنت و تالية لها تأتي المعركة الخشنة بالأجهزة الأمنية و الجيش ، لذلك قامت السلطات السورية وقتها بحشد وقائي و بقدر المستطاع لجيش اعلامي و الكتروني في محاولة منها لصد هجوم كثيف متوقع تشنه أقوى الهيئات الاعلامية العالمية كالجزيرة و الس ان ان و البي بي س و غيرها العشرات من القنوات الفضائية هذا ناهيك عن شبكة الانترنت . و كانت تكتيكات السلطة لمواجهة هذه المعركة الغير متكافئة تقوم على السير باتجاهين متوازيين بنفس الوقت .
أولاً بناء نهج اعلامي دفاعي و ذلك بالعمل على استغلال المبالغات و التلفيقات و الأخطاء الاعلامية عند الفريق الأخر لتكذيب كل شيء يصدر عنه بما فيها الوقائع حتى ، مما يخلق حالة معممة من الشك و الاثارة عند المشاهد ضد كل ما يصدر عن اللاعبين المقابلين ، و هذا تبدى بعدة أمور سريعة مرت على الحدث السوري منها الشعبية المميزة لبرنامج التضليل الاعلامي و قيام العالم الغربي المشهود له بحرية الاعلام بحجب تعسفي لقناة الدنيا التي تبث هذا البرنامج ، و كذلك الافراط و المبالغة عند الفريق المعارض لتصوير و بث كل ما يقع تحت كاميراتهم في محاولة محمومة لكسر تكذيبات السلطة لكل ما يصدر عنهم .
ثانيا ركز الخطاب الاعلامي الرسمي و نشطاء الانترنت التابعين له بشكل أساسي على الشريحة الموالية أصلاً للنطام و بالتدريج على الفئة المتوخفة و على المحايدة و أهملوا تلك التابعة للفريق الأخر أو التي من الممكن أن تكون . و ذلك بناءً على تكتيك يقوم على رص الموالين بكتلة واحدة متماسكة نشطة قوية لا شائبة و لا تشكيك فيها ، و تقويتها معنوياً و جعلها مسؤولة وجدانياً في المشاركة مع الاعلاميين و قوات الشرطة و الجيش للدفاع عن وضع سياسي غيابه يعني فنائها بشكل أو بأخر . و الغريب في الأمر أن هذا التكتيك قد أصاب أهدافه كاملة في الملعب و بشكل مذهل ، فتكونت في المجتمع السوري و لأول مرة شريحة كبيرة و منظمة بهذا القدر، مع بناء داخلي شبيه بالشبيبة الألمانية بتماهي أفرادها بشكل مترقي بعضهم ببعض و بالسلطة ، فالتزمت هذه الفئة في المساهمة (حسب رؤيتها) في صنع الواقع السياسي و الأمني للوطن جنباً إلى جنب مع السلطات يدفعها شعور "جديد" بالوطنية السورية بني على الاحساس بالخطر و تعزز من ترديد يومي لمفردات مثل سوريا ، سوري ، السوري غير العالم، السوري قهر أسياد المؤامرة.....الخ مترافقة بكم كبير من الأغاني الوطنية عن" سوريا" بعدما كانت هذه الكلمة شبه ممنوعة لعقود طويلة لمصلحة تكريس مصطلح أعم و هو" الأمة العربية" حيث استطاع هذا الأخير أن يذيب في جوفه الخصوصية السورية و يعطل بالتالي المحرك الوطني للمجتمع . و عليه رأينا الحماس الشديد لعدد كبير من السوريين للنزول إلى الشارع مراراً و تكراراً دون تذمر للمساهمة في المسيرات المليونية المؤيدة البعيدة عن الشكل النمطي و البائس للمسيرات السورية السابقة . كما و لم يحاول الجيش الالكتروني السوري أن يخفي نشوته بنجاحاته في حشد أعداد كبيرة من المشتركين و التبجح بقدرته على التأثير على الكثير من التصويتات التي تتناول الوضع السوري و التغني بتماسك العسكر و اصطفافهم حول الرئيس لتأتي جملنة الختامية "سوريا بخير" كايعاز معنوي من الرأس لمن يعنيه الأمر و لتكرس كأيقونة ثابتة للفريق الموالي .
لكلا الفريقين نقاط ضعفه و قوته ، فالفريق المعارض يملك المشجعين و التمويل و الصوت الأعلى عالمياً لكنه بلا رأس و لا يلعب بانسجام ، و الفريق الموالي يملك الأرض والمبادرة لكنه فقير بالمشجعين و يميل للكلاسيكية بلعبه . ولكن.... مباريات ما بعد الألفين كالعراق و افغانستان قد علمتنا أن سر القوة و العامل المؤسس للفوز يكمن دائماً في التفاصيل الصغيرة الغير منظورة للكبار ، و من أهم هذه التفاصيل في الملعب السوري هو الرابط الوجداني الذي يربط لاعبي الفريق بعضهم ببعض ، فالمعارضين يربطهم رابط "الفرصة" و الموالين مربوطين برابط "الخطر" و السؤال الأكبر هو : أي الرابطين هو الأقوى سيما و نحن نلعب في الوقت الأضافي؟؟؟؟
في مونديال 2010 أبهر ميسي العالم في فدراته و اصراره على الاحتفاظ بالكرة و استمر فريقه بالتقدم في مواجهة تحديات غير جدية و لكن عندما تقابل مع الماكينة الألمانية كانت النتيجة كارثية بعدة أصابات لألمانيا مقابل لا شيء لميسي و فريقه . لكن و لسخرية القدر فأن اللعب في ملعب الأوطان يخضع لمعادلة أخرى صارمة وعادلة و هي...... أنه لا يوجد رابح في نهاية المباراة إذا لم يربح الجميع .
نقلا عن الحوار المتمدن
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com