بقلم : أنطوني ولسن
يحتفل الشرقيون بعيد الأم في شهر مارس / آذار . ويحتفل به الغربيون في شهر مايو / أيار . والأم هي الأم في الشرق والغرب ، والإحتفال بها شيء مقدس . لأنها هي الحياة .
لولاكي يا أمي .. ما كان ميلادي .. و الأم مدرسة إذا أعددتها .. أعددت شعبا طيب الأعراق . هي واهبة الحياة بالميلاد ، وهي المدرسة التي تعلم ويخرج منها الشعب الطيب .
أتذكر أمي عند فجر أعياد المسلمين ، إن كان عيد الفطر أو الأضحى توقظنا نحن التسعة وتقول لي بالنسبة لأنني الكبير " جوم .. بالصعيدي .. تعني قم .. يا ولسن شوف إنت واخواتك الناس وهي بتصلي . الصلاة حلوة يا ولاد " .
أتذكرها عندما كان يحتد النقاش الديني بيني وبين أبي ، كانت تقول له " سيبه يا اسحاج .. تعني يا اسحاق .. ما تجادلش مع الواد ما تخليهوش يكفر " . ثم تلتفت إلي وتقول " يا ولدي حب الله وخافه ، وصلي في أي مكان ترتاح فيه وتسمع فيه كلمة الله " .
دق ذات يوم جرس الباب . فتحت أمي الباب ، وإذ بإمرأة واقفة تقول لها بحدة " إبعدي إبنك مكرم عن إبني سعيد .. أنا مش عارفه ليه دايما بيضربه .. ربي ولادك يا ست أم ولسن " .
إبتسمت أمي في وجهها وسألتها :
** حضرتك مين ؟!
تطلعن اليها المرأة وقالت لها :
** يا ست أم ولسن أنا جارتك أم سعيد .. داحنا جيران من حوالي عشرين سنة .
إبتسمت أمي في وجهها مرة أخرى وأمسكتها من يدها وقالت لها :
** خشي يا حبيبتي .. تعالي نشرب الشاي مع بعض ونتعرف أكتر على بعض . سيبك من الولاد ، يضربوا بعض وبعد شويه يرجعوا يلعبوا ويتحدتوا تاني مع بعض .. ما تخافيش عليهم .
تدخل جارتنا المسلمة الست أم سعيد ، وأقوم أنا بإعداد الشاي لهما بينما يتحدثان والمحبة تجمعهما ، ولم تنقطع زيارتهما لبعضهما البعض .
كانت في أعيادنا ونحن أطفال تقول لي :
** خد يا ولسن اخواتك وروح بيهم الكنيسة . ولما ترجعوا أكون حضرتلكم العشا . وإنت يا اسحاج .. إسحاق .. تعالى معاي تساعدني احضر لجمة .. لقمة .. للولاد .
فيرد عليها أبي :
** يا حكيمة سيبيني أنا جاي من المحل تعبان .
** وماله يا خوي .. كلنا تعبانين عشان خاطر الولاد .
لم أسمعها يوما تخبرني بأنني قبطي أختلف عن المسلم . تعلمت في المدرسة الإنجيلية بشبرا النزهة . في منتصف السنة الثالثة الإبتدائية ، تركت المدرسة على أثر خلاف بيني وبين مدرس اللغة الإنجليزية . والذي أصريت على طرده من المدرسة لأنه تطاول وسبني ومد يده علي وضربني بوحشية . وكان لي ما أردت . ومع ذلك تركت المدرسة وإلتحقت بمدرسة الملائكة الكاثوليكية بشبرا أيضا .
أتذكرها عندما دخلت عليها أبكي من شدة ضرب المدرس . فما كان منها إلا أن تتركني وتهرول صاعدة الدرج " السلم " إلى الدور الثاني حيث يقيم المرحوم القس الدكتور إسكندر أبسخرون وعائلته وهو راعي الكنيسة الإنجيلية بشبرا النزهة ومدير المدرسة . وفي غضب شديد لم أتوقعه منها ، ولم تتوقعه أيضا السيدة الجليلة زوجة القس اسكندر الجارة والصديقة . رأيت أمي توجه لها الحديث في حدة وغضب عارم :
** إحنا بنبعتو ولادنا المدرسة عشان يتعلموا مش عشان يتهانوا ويضربوا .. ع ندفعو مصاريف غالية عشان الواد من دول ياخد شهادة ويتعلم يا ست أم فيكتور ...
أتذكر لها أيضا رحمها الله .. إستيقظنا بعد منتصف الليل على دقات شديدة وسريعة على الباب . إستيقظنا جميعا وفتح أبي رحمه الله الباب وإذ بنا نفاجأ بمخبرين وشرطة يلقون القبض على أبي .. إندفعت أمي كوحش كاسر يدافع عن عرينه وأمسكت بيد المخبر القابض على أبي وطلبت منه بكل شجاعة أن يترك يد أبي . تقدم منها ضابط مرتديا ملابس مدنية ونظر إليها متحدثا :
** يا مدام جوزك متهم بالإعتداء بالضرب على أحد منافسي أبو دومه في روض الفرج .
بكل تهكم ردت على الضابط :
** إنتم شرطة وبوليس !! دا شكل واحد كان سهران بره وضرب حد .. مش شايف إنه لسه صاحي من النوم .. ضباط إيه وعسكر إيه ..
تطلع الضابط على أبي بعد أن أمر المخبر بتركه . وجه حديثه إلى أمي معتزرا ومتأسفا .. هكذا تكون الأم تدافع عن عرينها وزوجها وأولادها مضحية دون خوف .
رحمها الله كانت دائما تدافع عن أولادها وعن الحق ولم ترهب أحدا .
عندما قررت هجرة العائلة . وبعدما إتفقنا على كل شيء . وجاء وقت الفراق قالت لنا :
** يا ولاد ما تنسوش مصر بلدكم ، وإنتم منها ، إفتكروها وما تخلوش الغربة تنسيكم مصر يا ولاد .
كتبت قصيدة عن ضرب لبنان والجزء الأخير منها يخص أم هذا الزمان :
مُوْ.. وْ .. وْ .. تْ .. يا لبنان
لم أَعدْ أشبعْ ..
لم أَعدْ أجوعْ ..
ولم يبق لي قلبٌ ..
بين الضلوعْ ..
أَحَيٌ أنا ..
بين الأموات !!..
أَمْ مَيتٌ ..
أمشي في كفني ..
خارج قبري ..
ولا حياة ..
للآدميين !!..
- 2 -
لبنان الحزين ..
يُضْربْ ..
بعناقيد الغضبْ ..
يُضْربْ ..
ولا جيشٌ ..
ولا معينْ ..
- 3 -
الطفل يموتْ ..
والام تموتْ ..
والجدة تبكي ..
والاب مكبَل اليدين ..
وبندقية أخيه ..
مصوبةُ فوق رأسه ..
المسكينْ ..
- 4 -
موت .. يا لبنان ..
فقد مات الإنسانْ ..
في دولٍ ..
قالت عن نفسها ..
انها مهد الحضارةِ ..
و الأديانْ ..
وبلادُ الشجاعةِ ..
والفرسانْ ..
موت ..
موت يا لبنان ..
فقد مات كلُ حرٍ ..
في هذه الأوطاْنْ ..
- 5 -
ويلُكِ ..
ويلُكِ يا أمُ .. اليومَ ..
ويلُكِ ..
ويلُكِ .. من جلاد الزمانْ ..
لأنك ..
إلتهيتِ بالحضارةِ ..
بالتلفزيونِ .. والسيارةِ ..
بالأصباغِ .. والسيجارةِ ..
ونسيتي ..
نسيتي إرضاع إبنكِ ..
حبَ الوطنْ ..
فداءَ الوطنْ ..
الموتَ ..
ليحيا الوطنْ ..
والحبَ كلَ الحبْ..
لأخٍ ..
يعيش مع أخٍ ..
رضع من ثدي أمهِ ..
حبَ الوطنِ .. والإنسانْ ..
كانت أمي ملهمتي .. كانت معلمتي .. كانت أمي ومازالت هي النور الذي اهتدي به في ظلمات الحياة .. وفي أيام الغربة القاسية . اننا جيل قضي عليه ان يعيش غريبا في وطنه وبين أهله وعشيرته ، وغريبا عن وطنه وأهله وعشيرته .
ليس في عيدك أتذكرك يا أمي .. لا .. فأنت معنا من هم في أستراليا ، ومن هم في أميركا ومن لحق بك وأبي في السماء مع المسيح ذاك أفضل جدا .
يا ليت أمهات اليوم يتعلمن من أمهات الأمس . فلو تعلمن ، لعادت إلينا كرامتنا ، وعادت إلينا محبتنا ، وعادت إلينا بلادنا حرة أبية .
كل عام وجميع الأمهات بخير وصحة وسعادة روحية وسعادة زمنية .
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com