بقلم- حنان بديع ساويرس
رحل قداسة البابا "شنودة الثالث" ولم يستطع العقل استيعاب تلك الحقيقة المُرة المؤلمة، ولم يُدرك القلب كيف سيعيش الأيام بل السنون الباقية له نابضًا بدون أن يشعر بالفرحة العارمة التي كانت تنتابه وتجعله يدق حينما يرى الوجه المُشرق لقداسة البابا يوم الأربعاء من كل أسبوع وهو يبتسم في وجه أولاده المُتألمين مُحاولاً بذلك تخفيف بعضًا من آلامهم، رغم أنه من داخله يتمزَّق حزنًا وألمًا من أجلهم كما أكد ذلك د. "رفعت السعيد"- رئيس حزب "التجمع"- عندما قال: "أريد أن أقول لكم شيئًا لابد أن تعرفونه عن قداسة البابا شنودة، فهو كان يبتسم عن عَمدٍ ليُهدئ من حوله، فيكون حزينًا لكن يشعر أن واجبه كأب أن يبتسم، مثل الأب الذي يجد أولاده مرضى أو مُتألمين وليس بمقدرته أن يفعل لهم شيئًا فيبتسم أمامهم ليبدوا كأنه راضيًا حتى لا يضيف همه إلى همومهم ويُخفف عنهم".
رحل الأب العطوف الحنون، فكان أبًا للملايين بدون إنجاب، فأتأمل كيف كان هذا العملاق يشعر بالأبوة ويغدق على الجميع بالحب والعطف والحنان الأبوي الذي ربما لا يستطع أن يُعطيه أب لأبنائه الذين يُنجبهم من صُلبه.. أتأمل كيف استطاع هذا الرجل أن يجعل ملايين النفوس ليس من الأقباط فقط فحسب بل من المُسلمين أيضًا أن يشعروا بأبوته، ولا يختلف في ذلك اثنان، بغض النظر عن بعض المُتعصبين كلا بل بعض المُتطرفين. فمثلاً قد قال د. "السعيد" مُسترسلاً مُتحدثًا عن أبوة وحنان قداسة البابا معه شخصيًا مما جعله يبكي أثناء أحد لقاءاته بقداسته، فيروي قائلاً إنه قال لقداسة البابا مُداعبًا بعد هيمنة الإسلاميين على البرلمان "خلاص كده اتحلت يا قداسة البابا أنتم- أي الأقباط- ستدفعون الجزية لكن أنا ماذا سيفعلون بي؟" فصمت قداسته بُرهة ثم قال له: "على أية حال لا تخف، سأفتح قلبي وأخبئك فيه". فبكى د. "السعيد" من فرط محبة وحنان قداسة البابا. واستطرد قائلاً: إنه لن ينسى طوال حياته هذه الجملة.
فهكذا كانت أبوته للمُسلم كما للمسيحي، للكبير في القامة والسن كما لصغير السن والبسطاء. كما لم يُفرِّق في محبته وعطفه بين رجل وامرأة، ولم يُحابي للرجال على حساب النساء والفتيات، بل كان مُحايدًا، فلم أنس ما حييت رده الثابت على السؤال الذي تردَّد على مسامع قداسته مرارًا وتكرارًا ألا وهو عندما كان يقوم بعض الشباب بانتقاد ملابس الفتيات ويُريدون تعليق قداسته على هذا الأمر، كان يقول دائمًا نفس الإجابة موجهًا حديثه للسائل قائلاً له: لماذا تنظر أنت للبنات والنساء؟ ولما تركز معهم ومع ملابسهم؟ اجعل عينيك بسيطة، وأنا أرى أن ملابسهم مُحتشمة. كما قال في أحد المرات وكان حينها الوقت شتاءًا: "نحن في فصل الشتاء وأرى جميعهن يرتدين ملابس شتوية، فأين هذه الملابس غير المُحتشمة. واستطرد قداسته مُكملاً: إن هناك بعض الشباب لا يوجد لديهم شيئًا سوى انتقاد النساء والفتيات، فبدلاً من التركيز في ملابسهن لا تنظر لهن "وخليك في نفسك"..
هذا هو البابا الذي يربح النفوس، فكان يتعامل بحنو مع بناته أيضًا ولا يُميّز بينهن وبين الرجال. فيراودني سؤال رغم أنني أعلم إجابته مُقدمًا لكنه نوع من التأمل في سيرة هذا القديس، ألا وهو: لماذا بكى الأقباط بُحرقة وألم وانفطرت قلوبهم لفراق هذا الأب؟ ولماذا شعروا باليُتم سواء من كان والده على قيد الحياة أو من انتقل والده؟؟!!
فقد قالت إحدى السيدات هاتفيًا لأحد البرامج وهي باكية "إن والدي انتقل يوم 22 فبراير لكن لم أشعر باليُتم إلا يوم 17 مارس يوم انتقال قداسة البابا". فعجيب هذا الحب الذي زرعه الله في قلوب الملايين نحو قداسته حتى الكثيرين ممن اختلفوا معه في آرائه، بل من كانوا ينتقدونه خرجوا مُعتذرين ونادمين ومُتأثرين لانتقاله. فهل كان اختلافهم معه هو مُجرد اختلاف أبناء مُشاكسين أرادوا أن يقولوا لأبيهم "نحن هنا" ولنا رأي مُستقل أي "إثبات وجود"؟ وبعد انتقاله ندموا على ذلك أم أنها كانت حروب يستخدمها الشيطان ضده كنوع من التجارب التي لحقت به كالمرض وإهانة بعض المُتطرفين له، فقد ذابت اختلافاتهم معه في لوعة الفراق وحبه الذي طغى على القلوب والعقول، فرأينا كيف خرجت المليونيات لتوديع هذا العملاق، والجميع خرج على قلب رجل واحد. فلم أر من قبل أن يجتمع الملايين على محبة رجل واحد. هل هذا الرجل خُلق من تركيبة مُختلفة عما خُلق منها باقى البشر؟ بالطبع لا، لكنه حفظ وصايا الله عن المحبة والسلام والحنان والعطاء فكان إنجيلاً مُعاشًا، لذلك حزن عليه حتى من اعترضوا على بعض آرائه، لأنه من السهل أن ننصح الآخرين بالكلمات وربما ينصت لنا من ننصحه ويسمعنا بأذنه فقط، لكن من الصعب بل أحيانًا يكون مُستحيلاً أن يُنفذ نصيحتنا له على غير اقتناع، لكن جميعنا كان ينفذ ما يقوله لنا قداسته حتى لو اختلفنا معه في الرأي لأنه كان قدوة ومثال. وكما قالت المُستشارة "تهاني الجبالي" في هذا الصدد أن البابا كان قائدًا يُطاع حتى ممن اختلفوا معه لما له من مصداقية.
كان كل من يُصلي له البابا ويضع يديه الطاهرة على رأسه يشعر بالارتياح، وهذا شئ عادي بالنسبة لأبنائه وبناته الأقباط، لكن ما هالني واستوقفني هو ما قالته الفنانة "إلهام شاهين" بإنها كانت تشعر بارتياح شديد عندما كان يضع يديه المُباركة على رأسها مُصليًا لها. كما قالت إنها كانت تطلب منه المشورة في بعض الأمور فكان يُطمئنها ويُعطيها الأمل والرجاء.
ولا أستطيع أن أنهي مقالي هذا قبل أن ألقي الضوء على الحج "عدلي حسن الزناتي" "المُسلم" كما جاء بجريدة "الوفد"، والذي كان يُريد أن يتبرع بإحدى كليتيه لقداسة البابا مُنذ سنوات، وأعلن عن ذلك وقتئذ بجريدة "اليوم السابع" عندما علم أن قداسته مريض بالكلى، فيقول عم "حسن": أنا كنت أريد التبرع بإحدى كليتاي للبابا شنودة لأنال البركة. ويتحدث عن زيارة قداسة البابا له في رؤية فجر اليوم الذي تنيَّح فيه قداسته، وقال له قداسة البابا في الرؤية كلماته الرقيقة المعهودة ألا وهي "أشكر محبتك، وأشكر إعلانك بالجرائد عني، أنا جاي أسلم عليك عشان أنا ماشي. فرد عليه قائلاً له: ماشي رايح فين؟ فأجابه قداسته قائلاً له: بعدين تعرف. وقال الرجل إنه جاء خصيصًا من الصعيد إلى "القاهرة" وتوجَّه للكاتدرائية المُرقسية بـ"العباسية" مُصطحبًا معه صُحبة من الورود لزيارة قداسته، وبالفعل زاره قبل نياحته بساعات معدودات وعلم وهو عائد بخبر انتقال قداسته، وردَّد الرجل باكيًا: أنا أحب قداسة البابا شنودة، أحب هذا الرجل العظيم لأنه لم يُفرق يومًا بين مسيحي ومُسلم، وكان يحب مصر. كما قال أيضًا: كنت أتمنى أن أقبِّل يديه، وأن تُلتقط لي صورة معه لتكون ذكرى لي ولأولادي. فما سمعته من هذا الرجل تقشعر له الأبدان. ورغم فداحة الحدث إلا وقد أثلج قلبي هذا الكلام من مُحب لقداسته، فشعرت معه أن "مصر" مازالت بخير وكأن البابا أراد أن يترك لنا رسالة محبة وسلام، كما أراد أيضًا قداسته أن يشكر هذا الرجل على مشاعره الجياشة نحو قداسته فلم يُريد أن يترك عالمنا قبل أن يُسدد دينه لهذا الرجل وكأنه كان يشعر أنه مدين له بالشكر والعرفان بالجميل، وأراد أن يعرف هذا الرجل أنه يعلم بمحبته له ومشاعره الرقيقة نحوه فظهر له سائحًا ليشكره ويخبره بالرحيل، وهذا إن دل على شئ أيضًا فيدل على محبة البابا للجميع، لذلك أحبه الجميع من كل قلوبهم وجوارحهم، بل بكوا عليه بكاءًا شديدًا مُرًا، فكان يعول أسر مُسلمة بلجنة البر كما كان يفعل مع الأسر المسيحية الفقيرة، وأكَّد ذلك الكثيرون، فلم يَرُد سائلاً أيًا كانت ديانته، فلا ننسى أنه أعطى أسرة الجندي الذي توفى بالخطأ مع شهداء "نجع حمادي" مبلغًا من المال كما أعطى لأسر الشهداء..
لذا كانت جنازته مهيبة، فخرج من أجلها الملايين، وسيشهد التاريخ بذلك. فهي حقًا كما قيل عنها "جنازة القرن". فتوقفت حركة الشوارع في "مصر" خلال الثلاثة أيام الأولى، فقد قام آلاف الأقباط بالجري وراء السيارة التي نقلت جُثمان قداسته إلى المطار ولم يعبأون بطول الطريق، ولم يشغلهم التعب الذي سيُصيبهم جراء جريهم كل هذه المسافة، وهذا من أجل حبهم لقداسة البابا.
قد رأينا قداسة البابا بعد نياحته يملأ كُرسيه وكأنه لم تفارقه الروح، فقد رأيته كما لو كان يجلس على كرسيه في أحد الأعياد يرأس الصلاة ويُغمض عيناه مُحدثًا الرب عنا. فلم أشعر بأنني لن أراه حقًا مرة آخرى إلا عندما رأيتهم يُدخلون جسده بالتابوت المُعِد له ليتوارى فيه عنا للأبد داخل مزاره بدير الأنبا "بيشوي"، وحينها تصوّرت كيف سيأتي يوم الأربعاء بدون البابا؟ هل سيكون يوم الأربعاء هو نفسه كما عاهدناه طوال سنوات عُمرنا؟ فمُنذ ولادتي ويوم الأربعاء لدى مُرتبط بالبابا "شنودة"، فأتخيَّل أن يوم الأربعاء سيسقط من أيام الأسبوع مُحاولاً أن يخفي نفسه عنا حتى يُخفف عنا ما لا نحتمله بعدم رؤية قداسته كعادته بالاجتماع الأسبوعي. فكيف يكون مذاق العيد القادم الذي اقترب على الأبواب بدون أن يُصلي قداسته قداس العيد؟ كلا بل كيف ستمر علينا الأعياد بعد ذلك؟ فالعيد عندي كان يكتمل بأن أرى قداسته يرأس صلاته.
وأخيرًا أقول إن كان جُثمانه قد توارى عن أعيُننا فلن تتوارى أبدًا تعاليمه وأبوته ومحبته وحنانه، وهم الميراث الذي تركه لنا، والذي من المُستحيل أن ننساه أو نستغني عنه، فقداسته زرعه بنا، فهو أب لأبناء وبنات في جميع المراحل العُمرية، فمنهم الشيوخ ومنهم الشباب والأطفال. فقد قام البابا بتربية أبناء لأجيال قادمة وهذه الأجيال ستُربي أبنائها على نهجه وتتبع مسيرته. وأتمنى من جميع المصريين تنفيذ رسالته غير المُباشرة التي أوصانا بها من أجل "مصر" وأن نتعامل أقباط ومُسلمين بلا فُرقة كما تعامل هو مع الجميع، فلن ننساك إلى أن نلقاك.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com