ÇáÃÞÈÇØ ãÊÍÏæä
طباعة الصفحة

من ألمانيا.. مع حبي

| 2012-03-25 12:48:07

في السفر سبع فوائد، ضاعت من ذاكرتي، ربما بفعل السن واعتلال الصحة والاكتئاب السياسي، وربما أيضا بسبب العجز عن رؤية الضوء في نهاية النفق. غير أنه من المؤكد أن كل سفرة يوجد فيها كشف أو اكتشاف.. ومستخدما مفردات السفر، أعلن لك اكتشافي الأخير؛ وهو أن كل أنواع الشعارات وزن زائد تدفع فيه مقابلا كبيرا، بل ربما كان هذا المقابل هو حياتك نفسها. أعرف عن ألمانيا القليل جدا، غير أنني أعرف أن هذا البلد قاده يوما ما في ثلاثينات القرن الماضي نصاب كبير.. قاده وقاد الدنيا معه إلى مذبحة الحرب العالمية الثانية التي انتهت بتدمير ألمانيا وتقسيمها إلى بلدين. حدث ذلك تحت شعارات متعددة وسخيفة لعل أكثرها سخفا كان «ألمانيا فوق الجميع». ومر نصف قرن تقريبا قبل أن تتمكن ألمانيا من إزالة السور بين شطريها واستعادة وحدتها ثم الانطلاق في طريق السلام والحرية والتنمية وحقوق الإنسان. حدث ذلك كله بغير شعارات، حتى ولا على سبيل تحلية البضاعة التي تلجأ إليها الحكومات عادة لكسب المزيد من الإعجاب أو الزبائن. انهمك الشعب الألماني كله في العمل فقط مكتفيا من قاموس اللغة بالأفعال فقط. استمعت جيدا إلى الإذاعات، وشاهدت عددا كبيرا من البرامج، وجلست مع عدد كبير من المثقفين؛ غير أنه لم يقل أحد إنه يعمل لأنه يحب ألمانيا، وهذا ما أدهشني بشدة.. كيف يعملون بهذا الجد بغير أن يعلنوا ليل نهار أنهم يحبون ألمانيا؟! عمار يا مصر. في ألمانيا، تذكرت بالخير تلك الابتسامات الجميلة للشبان والشابات في برامج التلفزيون وفي الإعلانات: «أنا حشتغل عشان أنا بحب مصر».

كانت مدة الزيارة ثلاثة أيام من دار النشر التي نشرت كتابي «رحلة إلى إسرائيل» باللغة الألمانية، وهو كتاب قديم صدر منذ ثمانية عشر عاما، كتبته بعد عقد اتفاقية أوسلو مباشرة، عندما كان السلام العربي - الإسرائيلي يغادر خانة الحلم المستحيل ليدخل دائرة الواقع، ذلك الواقع الذي لم يتحقق، بينما أنا ما زلت مصرا على أن تحققه ليس مستحيلا. في الطريق إلى «لايبزغ» حيث يقام معرض الكتب الشهير، لم أشاهد لافتة واحدة تحمل شعارا جذابا. هناك كتب، وهناك معرض يعرض هذه الكتب. ما أدهشني حقا هو أن كل من قرأت لهم من قبل من زوار هذا المعرض، تجاهلوا تماما ظاهرة البهجة في المعرض. هناك ظاهرة غريبة وجميلة، فوجئت بعدد من الشبان والشابات؛ معظمهم شابات يرتدين أزياء غريبة وكأنهن ذاهبات إلى حفلة تنكرية.. هذه الملابس تعطيهم الحق في دخول العرض مجانا. غير أن هذه الجزئية لا تفسر الظاهرة، إنها البهجة التي يبحث عنها الشباب والتي تضفي بدورها جوا من البهجة على المعرض ككل. كل الشخصيات التي شاهدتها في حياتك في الأفلام ستراها، حتى عزرائيل، تراه مرتديا عباءته السوداء وممسكا بمنجل كبير ليحصد أرواح البشر.. ولكن أرجوك لا تنسَ أنها فتاة لم تفلح ملابسها التنكرية في إخفاء فتنتها.. قراصنة.. مصاصو دماء.. كردينالات.. ملائكة.. قادة مغول.. فرسان يرتدون اللثام وكأنهم من قبيلة الطوارق.. جنرالات قدامي.. فرسان حروب صليبية.. إلخ.. إلخ. وفي نهاية المعرض تقام مسابقة لاختيار صاحب التنكر الأفضل أو الأجمل.

انتهت الأيام الثلاثة.. قراءة بالعربية والألمانية بواسطة المترجم في المعرض، ثم النقاش باللغة الإنجليزية، بالإضافة لمحاضرتين أخريين في مؤسستين مهتمتين بالديمقراطية وحقوق الإنسان. بعدها اصطحبني صديقي هشام، وهو مثقف مصري يعمل مهندسا في ألمانيا منذ نحو أربعين عاما؛ اصطحبني هشام إلى القرية التي يقيم فيها في مقاطعة شمال الراين وفستفاليا. ألمانيا مكونة من ست عشرة مقاطعة؛ لكل منها حكومة ووزراء ورئيس وزراء. عند دخولنا القرية، أحسست بالصدمة عندما رأيت غازات كثيفة تندفع إلى السماء خارجة من مداخن مصنع كبير، قال لي صاحبي: ما تراه من دخان نسبة التلوث فيه صفر، غير مسموح بالتلوث هنا حتى ولا واحد في المائة.. العلم قادر على صنع مرشحات قادرة على تنقية مخلفات المصانع مائة في المائة.

قرر صاحبي أن نقوم بجولة في طائرته الخاصة الصغيرة فوق نهر الراين.. الطيارة مقعدان فقط، لذلك «استأجر» طائرة أخرى بثلاثة مقاعد؛ فقد كان معنا صديق آخر قريب هو الناقد السينمائي المصري مصطفى درويش. ربما تفزعك كلمة «استأجر».. الواقع أن الإيجار في الساعة لا يكلفك أكثر من ثمن وجبة عشاء في مطعم مصري، أما مصاريف إيواء طائرته وصيانتها، فهي تكلفه أقل مما أدفعه لسيارتي في ميت عقبة. فوق نهر الراين، قال هشام: كان هذا النهر من أشد الأنهار تلوثا، والآن هو أكثرها نظافة. المصانع تحصل منه على المياه اللازمة لها لتبريد ماكيناتها، ثم تقوم بتنقيتها تماما وتعيد صرفها فيه.. والآن ظهرت فيه أنواع من الأسماك كانت قد اندثرت منذ ثلاثين عاما.. أنواع عديدة من الطيور كانت قد غادرت هذه المنطقة، عادت الآن إلى الظهور.. أنواع عديدة من الزهور كانت قد انقرضت، عادت إلى الظهور في الحقول مرة أخرى. ولكي تعرف قوة حركة التصنيع هنا، أقول لك إن كمية المياه التي تستخدمها هذه المصانع ثم تعيدها إلى النهر، حجمها سبع عشرة مرة حجم المياه الموجودة في النهر كله. أي أنهم ضاعفوا حجم النهر 17 مرة.

وتذكرت نهر النيل، وشعرت بالأسى وربما بما هو أكثر.. الحفاظ على البيئة من التلوث هي أكثر مهام البشر قداسة.. اتفضل، احصل على حريتك.. أنت حر، وتعيش في مجتمع ديمقراطي، اتفضل حضرتك سر إلى الأمام في هذه الدنيا بين تلال الزبالة، واشرب مياها ملوثة، وكل طعاما ملوثا، واستمع إلى أفكار ملوثة، واستمع إلى ألحان ملوثة.. ولكن كل ذلك لا أهمية له ما دمت حضرتك مستمتعا بالحرية والديمقراطية. فعلى الأقل سيقولون فى حفل تأبينك: لقد مات حرا.. كان ضد أميركا وضد السلام مع إسرائيل.. وصارع صراع الأبطال لكي لا يرغمه أحد على تعلم اللغة الإنجليزية، فظلت لغته العربية نقية وعقله نقيا لم تغزه فكرة واحدة أجنبية أو حتى محلية، غير أن مياه الشرب وحدها التى كان يشربها ــ رحمه الله ــ لم تكن نقية.. أرجو أن تتمكن حكوماتنا في المائة عام القادمة من تنقيتها

نقلان عن الشرق الاوسط

 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع

جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com