ÇáÃÞÈÇØ ãÊÍÏæä
طباعة الصفحة

مأزق الديمقراطية..فى ظل الفكر السلفى

| 2012-03-30 21:07:38

جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الجماعات السلفية، ليست فقط جماعات من المتدينين المخلصين للإسلام، والراغبين فى تطبيق شرع الله وإحياء التراث الإسلامى، ولكنها إلى جانب ذلك أحزاب سياسية، خاصة بعد أن سمح لها، بعد ثورة 25 يناير 2012، بتكوين الأحزاب، شأنها شأن غيرها، والاشتراك فى الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وممارسة مختلف أنواع الرعاية والترويج لمبادئها.


هذه الأحزاب الإسلامية تتمتع فى نشاطها السياسى، وفى دعايتها الانتخابية، بميزة كبرى لا يتمتع بها غيرها من الأحزاب، وهى أنها تعمل فى بلد أهله يتسمون، منذ أقدم العصور،  بالتدين الشديد، ولديهم استعداد قوى للاستجابة لخطاب سياسى يعلن فى نفس الوقت أن مرجعيته إسلامية، وللتعاطف بشدة مع أصحاب هذا الخطاب لدرجة غض البصر عما يمكن أن يصدر عن هؤلاء من تجاوزات فى العمل السياسى أو الاجتماعى، طالما أنهم فى خطابهم يلتزمون بالاحترام الواجب للدين.


على العكس من ذلك، يعانى المنافسون السياسيون لهذه الجماعات السلفية (إذ إن جميعهم فى الحقيقة سلفيون رغم اختلاف الأسماء التى تطلق عليهم)، من خطر انصراف الناس عنهم، لخلوّ خطابهم مما يدل على المرجعية الإسلامية، ومن الاستشهاد المستمر بالنصوص الدينية، مهما كانت درجة النبل فى مواقفهم السياسية والاجتماعية، حتى ولو كانت هذه المواقف متفقة تماما مع الأهداف العليا للدين الإسلامى.


دخل الجميع حلبة المنافسة بمجرد أن فتحت لهم أبواب الانتخاب والترشح للمجلسين النيابيين، بل وحتى قبل ذلك بشهور عندما دُعى الناس للمشاركة فى استفتاء على تعديل بعض المواد الدستورية، فى مارس 2011، على الرغم من أن هذه المواد لم تكن تمس العقيدة أو المبادئ الدينية من قريب أو بعيد. كان يكفى الجماعات الإسلامية أن تعلن للناس بأن التصويت بالإيجاب على هذه المواد أقرب إلى ضمان رضا الله تعالى من التصويت بالنفى. كان هذا الزعم (ومن ثم نجاحهم فى تمرير التعديلات الدستورية) كافيا لتحقيق هذه الجماعات لبعض أهدافها السياسية البحتة التى لا علاقة لها بالدين (مثل إجراء الانتخابات قبل وضع دستور جديد)، ومن ثم زيادة فرصها فى الحصول على أغلبية برلمانية، وكل ما يترتب على ذلك من تغيرات سياسية تتفق مع أهدافها (بما فى ذلك فرصتها فى انتخاب رئيس للجمهورية يحظى بتأييدها).


قد لا يرى البعض أى غضاضة فى هذا كله (ومن المؤكد أن الجماعات الإسلامية لا تجد فيه أى غضاضة) ولكننى أقر بأننى أرى فيه مأزقا حقيقيا للديمقراطية. الجماعات الإسلامية تقول دع الناس يقررون ما يشاءون ويختارون من يشاءون من النواب، ومن يرونه صالحا لعضوية اللجنة التى يعهد إليها بوضع الدستور، بينما ترى الأحزاب الأخرى أن فى هذا نوعا من الظلم لهم، بل وخروجا على جوهر الديمقراطية، الجماعات الإسلامية (أو السلفية) يتعجبون من موقف الأحزاب الأخرى، ويضربون كفا بكف قائلين: «ما هى الديمقراطية إذا لم تكن الرضوخ لرأى الأغلبية؟ وإذا كانت الأغلبية قد اختارت ممثلى هذه الجماعات، فلماذا لا تحترمون رأيها؟ أأنتم (أيها الليبراليون أو العلمانيون) تظلون تنادون بالديمقراطية حتى تأتى الديمقراطية بنواب لا يعجبونكم، فتنقلبون ضد الديمقراطية؟ وما الذى لا يعجبكم بالضبط فى أن يقوم أعضاء البرلمان أيضا باختيار اللجنة التأسيسية التى ستقوم بوضع الدستور؟ أليس أعضاء البرلمان هم الذين اختارهم الشعب؟ فما الخطأ فى أن يقوم نواب الشعب باختيار آخرين، من داخل مجلس الشعب أو من خارجه، باختيار من سيضع الدستور؟ فإذا سمحنا بأن يكون من بين أعضاء هذه اللجنة التأسيسية 60٪ أو 50٪ أشخاص يأتون من خارج مجلس الشعب، فلماذا لا تقبلون هذا منا شاكرين؟ ألا تعطينا مبادئ الديمقراطية الحق فى أن نضع الدستور وحدنا؟ أو أن نختار وحدنا من سيقوم بوضع الدستور؟».

 

عندما قرأت اعتراضات الليبراليين (والعلمانيين) على هذا القول، تعاطفت مع هذه الاعتراضات، ولكننى لم أجد معظم ما قدموه من حجج مقنعا تماما. يقول المعترضون «إن هناك عناصر مهمة من الشعب لا يمكن تجاهلها، ويجب أن تكون ممثلة فى لجنة وضع الدستور، ولكنها غير ممثلة تمثيلا كافيا على الإطلاق فى مجلس الشعب، ومن ثم فلا يمكن أن نتوقع أن يختار مجلس الشعب عددا كافيا يمثلون هذه العناصر فى لجنة وضع الدستور. من أهم هذه العناصر، المرأة، والأقباط والشباب الذين قاموا بالثورة».

 

لم تفلح هذه الحجة فى إقناع الجماعات الإسلامية، ولم أجد هذا غريبا. فإذا كانت هذه العناصر (المرأة والأقباط وشباب الثورة) مهمة حقا وقوية، فلماذا لم تحصل على نصيب أكبر فى مجلس الشعب؟ بعبارة أخرى، يمكن أن ترد هذه الجماعات بالقول «إذا كان الناس لم ينتخبوا إلا عددا قليلا من النساء أو من الأقباط أو من شباب الثورة، فما الذى لا يعجبكم فى هذا؟ ألا يدل هذا على أن الشعب المصرى يفضل أن يمثله الرجال على أن يمثله النساء، وكذلك فيما يتعلق بالأقباط أو شباب الثورة. تقولون إن نسبة النساء فى الشعب المصرى، وكذلك نسبة الأقباط ونسبة الشباب، أكبر بكثير من نسب تمثيلهم فى مجلس الشعب، فما هو الخطأ فى هذا، هل تريدون أن تكون نسبة النساء فى مجلس الشعب وكذلك الأقباط والشباب) مساوية بالضبط لنسبهم فى الشعب المصرى؟


إن المطلوب من المجلس المنتخب ليس أكثر من التعبير عن اختيارات الناس وليس أن يكون صورة فوتوغرافية مصغرة للشعب بكل أنواعه وطوائفه. أنتم تعترفون بعدم وقوع تزوير وتلاعب، فما الذى تريدون أكثر من ذلك؟».


يقول المعترضون إن أموالا كثيرة أنفقت من جانب الجماعات السلفية، جاءت معظمها من خارج البلاد. ولكن هذه الجماعات يمكن أن ترد على ذلك بالقول «ألم تنفق الأحزاب الليبرالية أيضا أموالا كثيرة؟ وهل هناك دولة فى العالم تمنع الإنفاق على الدعاية الانتخابية؟ أما أن الأموال تأتى من الخارج فهل هذا بالضرورة ودائما يفسد العملية الانتخابية؟ إذا كان فى الأمر رشوة أو شراء صريح للأصوات فلتحاولوا إثبات ذلك. أما أن توزع بعض المواد الغذائية على الناخبين لضمان الحصول على أصواتهم فكيف تستطيعون القطع بأن من فاز بأصوات بعض الناخبين بعد حصوله على هذه السلع الغذائية، ليس هو من كان سيفوز بأصواتهم لو لم يحصلوا على هذه السلع؟».


مع كل هذا مازلت أجد نفسى متعاطفا مع المعترضين على انفراد مجلس الشعب المنتخب بسلطة وضع الدستور، أو بحق اختيار اللجنة التى تقوم بوضعه، أو اختيار معظم أعضاء هذه اللجنة. وعندما سألت نفسى عن سبب موقفى هذا رأيت أننا لا يمكن أن نحل هذا الخلاف حلا حاسما إلا إذا كنا على استعداد للاعتراف بشىء خطير. وهو أن مبدأ الرضوخ دائما لرأى الأغلبية، هو نفسه محل نظر. إننى أصف هذا الاعتراف «بالخطير» لأن هذا المبدأ الذى أراه محل نظر، شاع قبوله منذ زمن طويل، حتى استقر فى وعى معظم الناس إنه لا يمكن أن يكون خاطئا أو قاصرا، أو أن من الواجب إدخال بعض التحفظات عليه. وهذا هو بالضبط ما أريد مناقشته الآن.

 

إن اتباع رأى الأغلبية وجمع الأصوات وطرحها، ليس دائما أفضل الطرق للوصول إلى «الحقيقة»، ولا حتى دائما أفضل الطرق لتحقيق الصالح العام. هل يجوز مثلا أن نعتبر نظام التصويت واتباع رأى الأغلبية فى القضايا العلمية أو قضايا المنطق البحت، فنطلب رأى الناس فيما إذا كانت 2+2 تساوى أربعة أم خمسة؟ هل علينا احترام رأى الأغلبية فيما إذا كان علينا أن ندرس للتلاميذ فى المدارس ما إذا كانت الأرض كروية أم مسطحة؟ أظن أن هذا غير جائز فى الحالتين، بل هو أقرب إلى السخف منه إلى الجد. نعم من الممكن (بل وربما من الواجب) أن نستطلع رأى الناس وأن نتبع رأى الأغلبية فيما إذا كان على الإذاعة مثلا، أن تخصص وقتا لأغانى محمد عبدالوهاب أطول أو أقصر مما تخصصه لأغانى عبدالغنى السيد أو محمد عبدالمطلب، ولكننى لا أظن أن رأى الأغلبية واجب الاتباع فى اتخاذ قرار بما إذا كان صوت الميكروفونات فى الشوارع يجوز أو لا يجوز أن يتجاوز حدا معينا من الارتفاع.

 

فى بعض الأمور إذن لا يجوز الاستسلام لرأى يتعارض مع أبسط قواعد المنطق أو العلم، بحجة أنه الرأى الذى تفضله الأغلبية، بل وأريد أن أضم إلى ذلك أيضا بعض المبادئ الأخلاقية التى قد يختلف الناس عليها حقا ولكنها أصبحت، مع مرور الزمن، جزءا من مكونات الضمير الإنسانى التى لا يجوز التشكيك فيها. من ذلك مثلا أن من الواجب احترام عقل المرأة وليس فقط صيانة جسدها، وأن صاحب العقيدة الدينية المختلفة عن العقيدة التى تدين بها الأغلبية، له حق الاحترام من جانب أصحاب العقائد الأخرى، وله حق ممارسة شعائر دينه ما دام لا يجور على حقوق الآخرين فى ممارسة شعائر دينهم، سواء كان الآخرون أغلبية أو أقلية. التعلل بمبدأ الأغلبية لتبرير الخروج على هذه القواعد التى تنتسب إلى العلم أو المنطق البحث والحقوق الطبيعية للإنسان، هو موقف ظالم فى رأيى ويجب رفضه.

 

لابد من الاعتراف أيضا بأن الأغلبية (شأنها شأن الأقلية) يمكن أن تترك لعواطفها العنان لدرجة تجعلها تحيد عن الصواب، سواء كان هذا الصواب هو ما تفضى إليه قواعد المنطق البحت، أو العلم الثابت، أو حقوق الإنسان الطبيعية. بل إن احتمال هذا الانحراف عن الصواب أكبر فى حالة الأغلبية منه فى حالة الأقلية، لأن الأعداد الغفيرة من الناس يشجع بعضها بعضا، ومن ثم فهى أقرب للوقوع تحت طغيان العاطفة من الأعداد الأقل. والعواطف تخضع لتأثير العديد من العوامل، منها التحيز لعائلة أو قبيلة أو أمة، أو التحيز لجنس ضد آخر، أو لثقافة دون أخرى، أو لدين دون غيره.

 

كما أن العواطف تتأثر بحملات الإعلان الناجحة، إما بسبب ما تستخدمه من أساليب متقدمة فى اللعب بعواطف الناس، وما تنفقه من أموال، أو بسبب مجرد الإلحاح المستمر للترويج لشخص أو حزب أو سلعة. كل هذه المؤثرات كثيرا ما تدفع الأغلبية فى اتجاه معين دون آخر، دون أن يكون هذا الاتجاه المعين بالضرورة أقرب إلى الحقيقة أو إلى تحقيق الصالح العام. إن مثل هذه الاعتبارات هو الذى جعل مفكرا فرنسيا كبيرا يكتب منذ ما يقرب من قرنين من الزمان (أليكس دى توكفيل) كتابه الشهير (الديمقراطية فى أمريكا) والذى مازال يعاد طبعه ويقرأ ويقتطف بلا انقطاع حتى الآن، ويحذر فيه من طغيان وظلم الأغلبية لمن عداهم. ومثل هذا هو أيضا الذى جعل مفكرا أمريكيا معاصرا يصف الديمقراطية الأمريكية ساخرا بأنها «أفضل نظام سياسى يمكن شراؤه بالنقود». إنه لم يتهم الديمقراطية الأمريكية باستخدام التزوير أو الرشوة، بل كان يقصد ما يمكن للنقود أن تفعله فى تشكيل عواطف الأغلبية سواء بالحق أو بالباطل.

 

ـــ أظن أن هذا هو السبب الحقيقى للخلاف الدائر الآن فى مصر حول طريقة اختيار أعضاء اللجنة التأسيسية التى ستضع الدستور. فريق يرى أن من حق الأغلبية أن تفعل أى شىء، وفريق يشكك فى ذلك. وغرضى من هذا المقال هو دعم الفريق الذى يشكك فى ذلك. ولكننى أرى أيضا إلى أبعد من ذلك.

 

فنحن مقبلون، حتى بعد الانتهاء من وضع الدستور، على مواجهة مشكلات كثيرة يكمن وراءها نفس هذا المأزق.
ما هو نظام التعليم الأنسب؟ وما هى طريقة التعامل مع الأقليات الدينية فى المدارس والمقررات الدراسية؟
وكيف يمكن التعامل معها أيضا فى وسائل الإعلام؟


وما موقفنا من حرية الإبداع والفنون.. إلخ؟ هل سنتبع رأى الأغلبية فى كل هذا مهما كان شططه؟ هل نجمع الأصوات ونطرحها من أجل تحديد ما إذا كان سيجرى تدريس نظرية علمية للتلاميذ أم سيجرى حذفها؟ وما إذا كنا سنسمح بتدريس فن النحت فى كلية الفنون الجميلة أو نمنعه... إلخ؟ هل سنتبع فى هذا كله رأى الأغلبية؟ إذا كان الأمر كذلك فإننا نكون مقبلين على كارثة محققة

 

جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com