كتب- أحمد صبح
مصر هي البلد الجامع لما يتعاون عليه من أمور الدنيا، الذي يجمع المطالب كلها، والتي قال عنها نبي الله "موسى": "اهبطوا مصر فإن لكم ما سألتم (لأن ما دون الأمصار لا يكون فيها إلا بعضها، ومن هنا سميت مصر لجماع أمر الدنيا فيها، وغرامة سقياها، وبالجملة فيها إجابة السائل وكفاية الطالب، وهي البلد الوحيد في العالم الذي علق الله فيه الأمر على المشيئة، فقال: "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين". وإن كانت "السعودية" تفخر بأن بها المسجد الحرام الذي قيل فيه "لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين"، فإن "مصر" كلها حرم آمن، لأن الأمن فيها معلق على المشيئة لا على الدخول كالمسجد الحرام، سواء بسواء.
"مصر" البلد صاحب التاريخ الممتد، ومهد الحضارة، يجب أن تُعامل بأفضل من هذا من شقيقتها "السعودية"، وإن كنت أتحفظ على اسم الدولة، حيث لا يجب أن تتبنى أسرة حاكمة بلدًا بأكمله ليصير سكانه رعايا لهذه الأسرة، والإسلام لا يقول بالبتبني، وإلا فلتعد "السعودية" إلا أصلها أرض الجزيرة أو الحجاز، وإذا كانت "السعودية"- تجاوزًا- تستمد قداستها أمام نفسها وأتباعها من سكناها مقدسات المسلمين، فنصبوا أنفسهم الناطق الرسمي باسم الإله وهم خلفاء الرسول في حكمه، وبالتالي فنرى هذه النبرة الاستعلائية والحكم الوثوقي، وهو حكم حدي لا يعرف المهادنة، لذلك فالخارج عليه كافر أو مشرك أو مبتدع أو ضال، وحيث أن "السعودية" لم تطلق طلقة واحدة في وجه "إسرائيل" أو لم تتقدم بمشروع أدانة واحد للأمم المتحدة طوال فترة الاحتلال منذ عام 1948 م إلى الآن، فقد وضعوا أنفسهم في قفص الاتهام أمام كل المسلمين، خاصة مع ثبوت أدلة اتهامهم لحكام ومقاومين متبايني العقائد والمذاهب، فقد تولوا "شاه إيران" الشعبي لما كان فاجرًا أو مستبدًا، وعادوا الرئيس "جمال الناصر" السني لمواقفة القومية الوطنية، ثم قامت الثورة الإسلامية الإيرانية فنابذوها العداء، ولما قامت الثورة المصرية ضد نظام "مبارك" الفاسد زرعوا في طريقها الألغام، وناصبوا الثوار العداء في "اليمن"، وسندوا نظام "صالح" الديكتاتور، وعزموا "البحرين" لوأد الثورة الشعبية هناك بما يُسمى بدرع الجزيرة، ومن قبل تعاونوا مع "صدام حسين" في حربه ضد "إيران"، مع أنه كان فاجرًا وبادئًا بالعدوان، وأججها من ثورة الشعب الإيراني ضد الظلم والفساد، فلما استفحل في قوته وغزا "الكويت" أصبح "صدام" شيطانًا رجيمًا، واستعانوا بالقوات الأجنبية لضربه، وافقوا بذلك، كما أفتى علماء "السعودية" بتكفير حزب الله الشيعي لما ضرب "إسرائيل" بالصواريخ عام 2006 م.
أنا لا أريد أن أخوض في وثائق تقويض الوحدة الوطنية في "مصر"، والتي خرجت على شكل فتاوى، علمًا بأن "السعودية" لا يوجد بها مسيحي سعودي واحد، وبالتالي فلا يجوز أن نستورد هذه الفتاوى؛ لأن الإسلام فقه واقع، وفي المقابل تصدر الفتاوى التي تبيح الاستعانة بالمسيحيين الغربيين في القتال، وكذلك نجد اللقاءات الودية بين حكام الخليج ورؤساء الغرب، مثل الرقص بالسيوف مع الرئيس الأمريكي السابق "جورج بوش"، بل الأدهى من ذلك أن وزير خارجية "أمريكا" في عيد ميلادها يكتب على تورتة ضخمة "عيد ميلاد سعيد يا كوندي"، ولا نجد أحدًا من علماء "السعودية" أصحاب الفضيلة يصدر فتوى في ذلك، وفي نفس الوقت تصدر الفتاوى من هيئة كبار العلماء في المملكة بأنه لا يجوز مشاركة الأقباط في أعيادهم، ولا نرد عليهم إذا هنئونا بأعيادهم، ومن فعل ذلك فهو آثم سواء فعل ذلك توددًا أو حياءً أو لغير ذلك من الأسباب (فتوى منشورة على موقع ان العثيمين الرسمي بتاريخ 25/5/1411 هـ)، وكذلك من فتاوى "ابن باز" (المسلم لا يبدأ الكافر بالسلام) من فتاوى "نور على الدرب" (على شبكة سحاب الإسلامية بتاريخ 21/9/2005 م).
فهذه بعض الوثائق التي تقوض الوحدة الوطنية في "مصر"، أذكرها لكل من يهمة أمن مصر القومي، وخصوصًا مسؤولي الأزهر والأوقاف والتضامن الاجتماعي، الذين أعطوا جماعة أنصار السنة المحمدية وغيرها الرخصة القانونية لنشر هذا الفكر الذي يمزق أوصال مصر السمحة، أو ليس هذا خيانة للمسؤولية والأمانة الملقاة على عاتقهم؟! أليس من شروط إقامة الجمعيات الأهلية عدم نشر الفكر الطائفي واحتقار مواطنين مصريين؟! وهل تخريج الدعاة أصبح من وظيفة الجمعيات الخيرية وخريجو الأزهر بالآلاف لا يجدون عملاً؟ أم هذا هو الباب الخلفي لتخريج دعاة الوهابية في "مصر"؟! وأين إشراف الأزهر على هذه المناهج التي تُدرس في هذه المعاهد؟ أم هو إشراف اسمي فقط؟ وأين مفتشو الأوقاف؟ وكيف أعطوا لهؤلاء الأشخاص ترخيصًا بالخطابة على المنابر؟ وأنا اعتبر كلامي هذا بلاغًا للنائب العام لحل هذه الجمعيات لمخالفة دورها، وهو كفالة اليتيم والأرامل، فهل من مجيب؟!
ألا لعنه الله على أمن الدولة التي قتلت الكفاءات، وأرادت سعودة المجتمع بالمال السعودي.. أقول ذلك وأنا خريج الأزهر والأوقاف، ولكن أمن الدولة حرم المجتمع من الكفاءات، ليتم تمزيق المجتمع، بل والشقاق داخل الديانة الواحدة، فشكرًا لثوار 25 يناير المباركين الذين أخرجونا إلى النور. إننا في القرن الواحد والعشرين، والذي لا يمكن أن نعيش فيه داخل هذا المدار المغلق من التفكير الذي ينفي كل من يخرج عنه، ولا يقبل في داخله إلا كل من مضى مساره المحتوم، أي كل من وقف ويقف عند الفتاوى القديمة، والتي لا شروطها في الزمان، وتحديدها في المكان، وحركتها فى التاريخ، وبالتالى فلا يجب العمل بها، والتي تكشف عن واقع منكسر، وحاضر مهين متلاحق الهزائم والكوارث، الأمر الذي يجعلنا نحن من أكثر أمانًا، وما مزدهر غالب بديل عن الواقع المهزوم، والنتيجة هي النفور من الجديد والتغيير. ولا سبيل للملكة السعودية والجامعات الدينية في "مصر" إلا أن تتغير أمام هذه الأنساق التي ثبتت فجمدت، والتي أدت إلى إقصاء كل من يخالفها أو يختلف عنها، واستئصال كل ما يخرج عليها ويهدد حضورها الجامد، واستقرارها الساكن، وبالتالي فلابد من مسايرة الواقع، ومراعاة خصوصيات الحاضر؛ لأن الإنسان ابن وقته ومكانه!! لأن مصر بالذات بلد متجانس في تركيبه، مثالي في موقعه، وفى صيف العام الماضي 2011 م كان يتم توزيع سيديهات في مطار "جدة" تحرض على الفتنة الطائفية في "مصر"، ويتم إرسالها مع المعتمرين المصريين، وفحواها التحريض على مهاجمة الكنائس والأديرة، واستنقاذ الأسيرات المسلمات الجدد في سجون الكنائس المصرية. وتتضمن السيديهات كلمات لعدد كبيرة من علماء السلفية في "مصر" يحرضون في اتجاه الفتنة، وقد قام السيد "محمد الدريني"- الأمين العام لمجلس آل البيت- وبعض الوطنيين في "مصر" بتقديم بلاغ للنائب العام المصري لقطع دابر هذه الفتنة التي تحقر رموز الدين المسيحي والإسلامي الأزهري على السواء، إضافة إلى التحريض على دور العبادة المسيحية. وقد قمنا بجهد كبير في كشف تلك المؤامرة على الثورة المصرية، ولا ندري ماذا فعلت الحكومة المصرية؟ ولم نر سحبًا للسفير المصري بـ"الرياض"، وفي الوقت ذاته تعاملنا "الرياض" بمنتهى الاستعلاء، وتسحب سفيرها في "مصر" إحتجاجًا على جلب مواطن مصري أقراص مخدرة إلى مواطن سعودي، وكان ذلك أثناء سفره إلى العمرة، علمًا بأن "أحمد الجيزاوي"- المتهم المصري- بريء حتى تثبت إدانته كأصل عام، ولكن "السعودية" عاملتنا بكل عنجهية، وسحبت سفيرها، فكيف نفسر هذا التناقض؟
فما هو الأخطر إغراق "مصر" بالسيديهات التي توقع الفتنة، أم جلب أقراص إلى "السعودية" من شركة دواء في "مصر"؟ والأخطر من ذلك، أن "السعودية" في كل مرة تعلق قرارها على شماعة "إيران" لمنع عودة علاقاتها مع "مصر"، وهذا بيت القصيد، فهناك مؤامرة لاغتيال الغير السعودي في "واشنطن"، وأخرى في "مصر"، وتتورط فيها "إيران"، مع أن الشواهد تقول بغير ذلك.
أنا أناشد المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم في "مصر" أن يصدر قرارًا شجاعًا بعودة العلاقات مع "إيران" فورًا، فلا داعي للقطيعة إلى الآن، ساعتها سوف لا تلوح "السعودية" بقطع العلاقة أو سحب السفير، فنحن لنا قرارنا الحضاري مع "إيران" الحضارة، والتي بها سفارتها في "الرياض" وسفارة سماحة المرشد "علي خامئني" في "جدة"، ولتتذكر "السعودية" ما تصدره لمصر من مطار "جدة". فيا حكام السعودية، اتقوا الله، واقسطوا إن الله يحب المقسطين، وارعوا مصر في مواطنيها.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com