أثمرت مشروعات بناء الدولة المدنية الحديثة في مصر التي أسسها محمد علي باشا عام 1805، في صياغة نموذج متقدم للتكامل بين المصريين (مسلمين وأقباط)، مما أدي إلي تولي اثنين من الأقباط منصب رئيس وزراء مصر سنة ١٩٠٨ وسنة ١٩١٩، وتولي قبطي رئاسة مجلس النواب، فضلا عن العديد من الوزراء الأقباط في الحكومات المتعاقبة .ومثلت ثورة 1919 ذروة الوحدة الوطنية بين (شركاء الجنس والأرض والدم والنضال)، وبرز "عقد اجتماعي جديد" تأسس علي فكرة (الأخوة في الوطن) أو قل (المواطنة) التي قضت عمليا علي أهم أفكار الخلافة الاسلامية وهي (الأخوة في "الدين")، إلي درجة أن الأقباط رفضوا "التمثيل النسبي" بإعتبارهم "أقلية" عددية ودينية في دستور عام 1923، نتيجة إحساسهم بالإطمئنان والأمان والحرية التي تمكنهم من التنافس المتكافئ في أي أنتخابات بصرف النظر عن ديانة المرشح.
الدرس القاسي الذي استوعبه الاحتلال الأنجليز من ثورة 1919 التي رفعت شعار "يحيا الهلال مع الصليب" و"الدين لله والوطن للجميع"، هو أنه علي أرض مصر يعيش "شعب واحد" يتكون من أغلبية تدين بالإسلام وأقلية مسيحية، وهذه الأقلية ليست عرقية أو سلالية (اثنية) أو لغوية، وهنا تذكر الإنجليز ما قاله السير "فلاندرز بيري" عالم المصريات الشهير: " أن مصر لم تكن مقبرة الغزاة بالمعنى السياسى فحسب. بل المعنى الجنسى أيضاً.. فكل الغزوات كانت تذوب فى جسم مصر الكبير، ولم تكن هذه الغزوات تغييراً فى مصرية مصر بقدر ما كانت تغييراً فى الحكام فقط.
وأمام هذا المد الشعبي والوطني الكاسح الذي ألتف حول الزعيم سعد زغلول، وطالب بطرد الانجليز، تفتق ذهن المستعمر الإنجليزي عن سياسة "فرق تسد" وسعي حثيثا إلي "تفتيت" مصر علي أسس دينية وطائفية، ووجد ضالته في الشيخ حسن البنا عام 1928 وتمثلت مهمته في شق الصف الوطني ونجح في ذلك، ومنذ ذلك التاريخ أصبح الإخوان المسلمون رمزا لتدمير أي "وطن" .. لماذا؟.
مفهوم الوطن عند الإخوان المسلمين يختلف تماما عن مفهوم الوطن في كل لغات العالم وأدبيات السياسة، فإلاسلام "وطن" لأن الوطن ليس مساحة جغرافية وحدود معترف بها من الدول الأخري، كما أنه لا يقوم علي رابطة "الدم" وإنما هو يتأسس علي "العقيدة" فقد كان الشيخ حسن البنا مؤسس الجماعة ومن قبله الشيخ عبدالعزيز جاويش ينادون بهذه الفكرة، وهي التي دفعتهم دفعا الي الانفصال عن المجتمع ككل والنسيج الوطني الواحد، فالمسلم لا يوجد في مصر لأنها وطن وهو لا يدافع عنها كوطن وإنما بإعتبارها أرض الإسلام، والعدو الذي يهاجم مصر هو كافر بالضرورة، وإذا جاء جيش اسلامي من خارج مصر ليحمي المسلمين في الداخل يصبح فتحا من الله ونصرا قريبا.
والحديث الذي أدلي به المرشد العام السابق للإخوان المسلمين "مهدي عاكف"، ونشر في جريدة روز اليوسف عام 2006، الذي قال فيه "طز في مصر واللي في مصر واللي جابو مصر" أكبر دليل علي ذلك، حينما سأله الأستاذ سعيد شعيب: هل ترضي لمصر بحاكم مسلم غير مصري أم مسيحي مصري؟ قال: انه يقبل بحاكم مسلم لمصر ولو كان "ماليزيا". وهو في الواقع كان يعبر بصدق عن حقيقة فكر الإخوان المسلمين لأنها جماعة عابرة للأوطان وتعتبر نفسها دعوة عابرة للقارات موجهة للمسلمين في جميع بقاع الأرض، لأن "الإسلام وطن" و"قومية" بل ان فكرة "القومية" و"الوطنية" تعتبر نوع من "الوثنية" ومن ثم هاجموا فكرة القومية العربية عند جمال عبدالناصر، ناهيك عن ان الكثير من منظري الإخوان المسلمين اعتبروا الزعيم أحمد عرابي و سعد زغلول وعبدالناصر نفسه عملاء للصليبية العالمية وأن دعوتهم للوطنية والقومية سواء كانت مصرية أو عربية، تستهدف أساسا "تفتيت" الخلافة الإسلامية التي كانت قائمة في تركيا في ذلك الحين وكانت كل الدول العربية تتبع لها وبالتالي فهم مخربون وكانوا يسمونهم (صبيان الصليبية العالمية) الذين تربوا في دهاليز السفارات الأجنبية!
المفارقة هنا أنه في الوقت الذي سقطت فيه الخلافة الإسلامية عام 1924 علي أيدي مصطفي كمال أتاتورك، وبدأت تتوزع ممتلكاتها من الدول بموجب معاهدة "سايكس بيكو" 1916 علي المعسكرات الغربية (انجلترا وفرنسا)، كانت مصر تنسج أروع علاقة للمواطنة الحديثة بين المسلمين والأقباط علي أنغام مقارمة الاحتلال الأنجليزي، في نفس الوقت الذي كان يفكر فيه الشيخ حسن البنا في انشاء "جماعة الإخوان المسلمين" عام 1928، علي أساس اقامة دولة اسلامية هي دولة الخلافة، وفي الوقت الذي رفع فيه المصريون شعار "مدنية مدنية" في ثورة 25 يناير 2011 ، نجح "محمد مرسي" مرشح حزب الحرية والعدالة الجناح السياسي للإخوان المسلمين في أول انتخابات رئاسية عام 2012، وكأن القدر بالمرصاد للدولة المدنية في مصر، و" المواطنة " والمساواة في الحقوق والواجبات بين المصريين جميعا!
dressamabdalla@yahoo.com
نقلا عن إيلاف
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com