ÇáÃÞÈÇØ ãÊÍÏæä
طباعة الصفحة

رحلتي من السلفية الجهادية إلى العلمانية -2-

أسامه عثمان | 2012-10-24 13:45:47

بقلم / أسامة عثمان 

ذكرت قبل ذلك أن دعوة الجماعة الإسلامية انتشرت في ربوع مصر خاصة في الصعيد والقاهرة ، وكان أهم منطقتين في القاهرة لتواجد الجماعة الإسلامية هما : منطقة إمبابة ، ومنطقة عين شمس الشرقية ، ومنطقة عين شمس الشرقية يفصل بينها وبين منطقة المطرية التي أسكنها مترو الأنفاق . نشأت دعوة الجماعة الإسلامية في منطقة عين شمس الشرقية تقريبا في عام 1986 بعد خروج من حكم عليهم بثلاث سنوات وخمس سنوات في قضية اغتيال السادات ، وفي خلال عامين فقط كانت الجماعة الإسلامية منتشرة بطريقة كبيرة في المنطقة ، فقد كان كثير من الناس يرون فيها الصوت الجريء في معارضة النظام ، وشعبنا بطبيعته يمجد من يقف في وجه الظالم حتى ولو كان خارجا على القانون ، كما مجد الحس الشعبي من شخصية أدهم الشرقاوي مع أنه قاطع طريق وقاتل ، وذلك لأنه كان يثأر لهم من السلطة الغاشمة .

هذا ما روج كثيرا للجماعة في هجومها القاسي ضد النظام الفاسد ، وبما كانت تقوم به من محاربة البلطجية في المنطقة ورد حقوق الناس ، وذلك بسبب غياب دور الدولة في الحفاظ على أرواح الناس ، فأصبحوا هم الدولة الحقيقية على الأرض مما كان سبب في توجيه النظام ضربة لهم خاصة بعدما توحشت الجماعة وأحست بقوتها وتعرض كثير من أفرادها للناس يتحكمون فيهم ويطبقون ما تعلموه من تغيير المنكر بالقوة ،فحدث تعدي على أفراح كثير من الناس واضطهاد للفرق الموسيقية .

كانت الضربة الأمنية في عام 1988 ، تم فيها اقتحام مسجد ( آدم ) وسقط قتلى في هذه الاشتباكات من أفراد الجماعة ، وأصبحت هذه الأحداث أحد وسائل حشد أفراد الجماعة على الثأر من النظام ، وألفت الأشعار في هذه الأحداث وتم إنشادها وتسجيلها على شرائط الكاسيت وكنا نتداولها فيما بيننا ويتم شحننا عاطفيا للثأر بهذه الشرائط .
 

بعد هذه الضربة الأمنية أصبحت دعوة الجماعة الإسلامية سرية بعدما كانت علنية ، وعندما انضممت للجماعة كان هذا هو الوضع ، ولكن كانت الجماعة تحرص على أداء صلاة العيد بصورة علنية غيظا لقوات الأمن ولإثبات الوجود ، وكنا نرفض أدائها في الساحات الشعبية مع الناس بل يجب أن يكون لنا صلاتنا الخاصة باسمنا من باب التمايز والظهور.

في منتصف عام 1991 تقريبا وكان قد مر على بداية التزامي مع الجماعة الإسلامية حوالي ستة أشهر أقامت الجماعة صلاة عيد الأضحى في منطقة عين شمس متحدية بذلك رفض الأمن وشاركت في هذه الصلاة ، وتم اقتحامها من قوات الأمن وحدثت اشتباكات بين قوات الأمن وبين أفراد الجماعة أظهر فيها بعض أفراد الجماعة شجاعة منقطعة النظير، فقد تصدى أحد أفراد الجماعة للأمن بالسلاح الأبيض مانعا القوات من دخول المسجد ، ولم يرضخ لتهديد القوات بضربه بالنار .
 

هربت أنا وأخي من الاشتباكات واختبأنا على سطح أحد المنازل ، ومكثنا فيه فترة حتى اكتشف وجودنا أهل البيت وكانوا من المسيحيين ، فخافوا منا جدا ولكننا طمئناهم ، واعتذرنا لهم ونزلنا وكانت الاشتباكات هدأت وانسحب أفراد الجماعة من المكان .

أحسست بالخوف في هذه الأحداث ، ولكن الغريب أنني لم أفكر لحظة بترك الجماعة ، أو حتى التقليل من نشاطي معها .

كان من أبرز الشخصيات في الجماعة في المطرية وقتها أميرها عماد زكي وأخيه نبيل زكي ، وهما من أفضل الشخصيات التي قابلتها من ناحية الصفات الشخصية وليس فكرا ، فهم أصحاب قوة في الحق ، وإخلاص لما يؤمنون به ، وكانا يكملان بعضهما البعض فعماد هو العقل والاتزان النفسي وحسن الإدارة ، ونبيل هو القوة والاندفاع الذي يصل لحد التهور.

لم يمكث معنا نبيل كثيرا فقد اعتقل سريعا في منتصف عام 1991 ولم يخرج إلا في عام 2007 ، وكان ذلك من فضل الله عليه وإلا فهو كان مرشحا جيدا للجناح العسكري وغالبا كان سيتورط في أحداث العنف التي تورطت فيها الجماعة ، فقد كان عاشقا للجهاد وللشهادة في سبيل الله ، ولكن فترة الستة أشهر التي تعرفت عليه فيها تركت مشاعر طيبة تجاهه ظللت أتذكره بها وكنت أشتاق لرؤيته كثيرا حتى قابلته في المعتقل عام 2001 أي بعد 10 سنوات من اعتقاله ، فقد كان هو وأخيه عماد رموز لي ولجميع أخوة الجماعة في المطرية .

أما عماد فقد أثر في كثيرا بأدبه الجم وإخلاصه لما يعتقده ، وتفانيه فيما يعتقد أنه حق وتضحيته بوقته ودراسته في سبيل الدعوة للجماعة .

وكان مما تعلمته منه عدم الارتباط بالأشخاص بل الارتباط يكون بالحق فقط مما سهل علي فيما بعد نقد الجماعة وقياداتها ، بل نقد الفكر السلفي نفسه فيما بعد ، ومع أنه المؤسس لفكر الجماعة في المطرية ، وأحد أهم أسباب ثباتي في الجماعة والاستمرار بها إلا أنني الآن لا أحمل له أي ضغينة لما عرفته عنه أنه كان صادق فيما يعتقد ولم يكن يسعى إلى مصلحة شخصية سواء منصب أو شهرة فأنا أعتبره كان مغفلا مثلي و مثل الكثير ، ولم يكن ينوي الشر بأحد .

كانت نشاطاتنا في هذه المرحلة أشبه بنشاطات جماعة الإخوان المسلمين ، فقد كنا نقوم بعمل يوم رياضي كل يوم جمعة ندعو إليه الأفراد الجدد كوسيلة لربطهم بنا من خلال عمل ترفيهي رياضي وبه بعض النشاطات الدينية الخفيفة كالأذكار والمسابقات الدينية .

وكذلك القيام بالرحلات الترفيهية وأتذكر أننا قمنا برحلة جميلة إلى أحد شواطئ مدينة السويس كان لها أثر بالغ في ارتباطنا ببعض كأفراد وكجماعة .

هذا غير النشاطات الدينية البحتة من دروس لتعلم قواعد تجويد القرآن ، ومن دروس في السيرة النبوية ، والتي كان الغرض منها كما ذكرت الربط الذهني في عقولنا بين العصبة المؤمنة الأولى التي تعرضت للاضطهاد والتعذيب حتى مكن لها الله في الأرض ، وبين العصبة المؤمنة الحديثة وهي جماعتنا والتي سوف تبتلى كذلك بالشدائد حتى تتساقط العناصر الضعيفة ، وتبقى العناصر القوية التي سوف يأتي على يديها النصر والتمكين .

هذا الربط في أذهانا بين العصبة المؤمنة الأولى وبيننا وأننا امتداد لها هو الذي جعلنا لا نقبل أي نقد للجماعة سواء من أفرادها في الداخل أو من خارجها من التيارات الإسلامية الأخرى ، وكنا نعتبر أن أي هجوم علينا أو نقد يعتبر هجوم على الدين نفسه ، وإن لم نصف الناقد بالكفر الصريح فمن المؤكد أنه من المنافقين .
 

كنا نتهم الناقدين لنا بهذه الأوصاف مع أنهم من المنتمين للتيار الديني المخالف لنا في الفكر ، أما المنتمين للتيار العلماني والليبرالي فهم واقعين في الكفر بلا شك لأنهم يحاربون الإسلام ، إلا أننا كنا نتوقف في تكفير الفرد المعين منهم بحجة أنه قد يكون جاهلا أو مغرر بهم .

ومن العلوم التي كنا نحرص على تعلمها وكان يقام لنا الدروس الدينية لتعلمها علم العقيدة ، وكان المنهج المطبق علينا فيها هو كتب العقيدة الوهابية النجدية مثل : كتاب ( معارج القبول ) لحافظ بن أحمد الحكمي ، وكتاب العقيدة الطحاوية ، وكتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب ، وكتب هيئة كبار العلماء في السعودية بصفة عامة كانت تلقى القبول لدينا .
 

ومن الأنشطة المهمة التي كنا نقوم بها ( زيارة القبور ) ، فكانت هناك مقابر بجوار منطقة المسلة كنا نزورها على فترات ، وكان يقال لنا أن هذه الزيارات مهمة جدا لأنها تجعل الإنسان متذكرا دائما للآخرة ، وتساعده على ترك المعاصي ، و على خشية الله في السر والعلن ، وتصغر وتهون من شأن الدنيا في أعيننا ، فلا نتصارع عليها ونزهد فيها لأن الأصل في خلقنا هو للآخرة وليس للدنيا لذلك الآية تقول في سورة ( الملك ) : (( هو الذي خلق الموت والحياة ... )) فقدم الموت على الحياة ، وكنت أقرأ كيف أن عثمان بن عفان كان لا يبكي عندما تذكر أمامه النار والآخرة ، وكان يبكي بحرقة عندما يذكر أمامه عذاب القبر ، مما رسخ في نفسي الخوف الشديد من عذاب القبر ، وأصبح يشكل لي ولنا جميعا أحد أسباب الهموم في الحياة ، فالخوف من عذاب القبر ملك علي إحساسي ، وبات يشغلني في نومي ، وفي يقظتي ، حتى أصبح عبءا نفسيا ضاغطا على أعصابي .

هذا ما كان يقال لنا عن أهمية هذه الزيارات في وقتها وهذا ما صدقته ، ولكن للحقيقة مستويات عدة من التفسير ، وهذا هو المستوى الظاهر لتفسير هذا الاهتمام بزيارة القبور ، ولكن المستوى الأعمق لتفسير هذا الاهتمام ، وهو ما اكتشفته بعد ذلك بحوالي 15 عاما عندما تعمقت في دراسة ظاهرة الإسلام السياسي ، أن الإلحاح على عذاب القبر لم يكن إلا وسيلة للدفع بنا إلى الجهاد بشراسة والحرص على الموت لأننا تعلمنا من أحاديث الجهاد أن الشهيد له مزايا : منها أنه يأمن من عذاب القبر ، والتزوج ب 70 من الحور العين ، إذن وجدت الحل في التخلص من هذا العبء النفسي والخوف الدائم من عذاب القبر ، وهذا الحل هو الاستشهاد في سبيل الله ، وفوق ذلك الفوز بالنساء الجميلات من الحوريات العذراوات ، واللاتي يعتبرن خير جزاء عن حرماننا من نساء الدنيا بسبب الظروف الاقتصادية الطاحنة للمجتمع التي تحد من الزواج ، ومنع الجنس خارج هذا الإطار لأنه من الكبائر . إذن بالاستشهاد في سبيل الله تم حل مشكلتين كبيرتين : عذاب القبر ، و الحرمان من الجنس . 
 

من الأشياء المهمة التي تم تلقيننا إياها مفهوم ( الولاء والبراء ) وهو ما يعني أننا يجب أن نوالي بمعنى نحب وننصر المؤمنين فقط ، ونتبرأ من الكافرين بمعنى بغضهم ، ومحاربتهم .

هذا المفهوم يعتبر في فكر جماعات الإسلام السياسي من أصول الدين وأحد أركان الإيمان ، ومن يتهاون به ولا يطبقه يعتبر كافر بالإسلام . 

أنا من طبعي الجدية والالتزام بما أقتنع به ، ورثت هذا الالتزام عن والدي ، فهو شخصية منظمة جدا ، يعشق الحفاظ على مواعيده والتزاماته . فكان من شأني عندما تعلمت مفهوم ( الولاء والبراء ) أن سعيت إلى تطبيقه ، وكانت الفئة المرشحة لتطبيق هذا المفهوم عليها هي المسيحيين . والمسيحيون أو النصارى كما كنا نسميهم كانوا يحتلون مساحة كبيرة من فكرنا ، فكانت الجماعة دائمة الشحن ضدهم ، وأنهم أعداء لنا ، وأننا لا يجب أن ننخدع بمظهرهم الطيب المتسامح لأنهم خبثاء لو تمكنوا منا لقتلونا جميعا ، وجاءت أحداث البوسنة والهرسك ، وما فعله الصرب الأرثوذوكس بالمسلمين هناك من قتل واغتصاب ، فتم استغلال هذه الأحداث أسوء استغلال في الشحن ضد المسيحيين لأنهم أرثوذوكس مثل الصرب ، وهذه هي عقيدتهم ، ولكننا لم نكن نتعرض لهم بالإيذاء ليس لأن هذا حراما ، ولكن لأن هذا ليس وقتهم ، فنحن مشغولون بمحاربة الحاكم الكافر ، ولما نفرغ منه سوف نقوم بتربية النصارى الملاعين ونعرفهم مقامهم .
 

حتى أننا لم نكن نعتبرهم أهل ذمة لأنهم لا يدفعون الجزية ، فبالتالي لا يوجد لهم عهد عندنا ، وبالتالي فهم حلال الدم والمال والعرض .

بدأت في تطبيق مبدأ ( الولاء والبراء ) على المسيحيين وكان ذلك في مدرستي الثانوية ( ابن خلدون ) وقد كانت آنذاك مرتعا للنشاط الدعوي للجماعة الإسلامية ، والإخوان المسلمين ، و سلفيي أسامة عبد العظيم ، كنت أقوم أنا وأصدقائي من الجماعة باضطهاد الطلبة المسيحيين كلما سنحت لنا الفرصة عند أول خطأ يقعون فيه بحكم العادة بين أي شباب في سن المراهقة يجتمعون في مكان واحد لعدة ساعات ، وأتذكر واقعة حدثت في الصف الثاني الثانوي ، فقد كنت أتشاجر أنا وأحد أصدقائي مع أحد الطلبة المسيحيين ، فجاء أحد الطلبة ليدافع عنه ويخلصه من أيدينا فضربته على أساس أنه مسيحي مثله جاء ليساعده علينا ، واكتشفت أنه مسلم فآلمني ذلك شديدا فكيف أضرب مسلما ، وما آلمني أكثر أنني عندما اعتذرت له تقبل اعتذاري بنفس راضية وسامحني ، وطبعا لم أتألم لضرب المسيحي ، فلا يجوز الإحساس تجاههم بالرأفة والرحمة لأنهم أعداء للإسلام .

واقعة أخرى وهي أن والدة أحد الطلبة المسيحيين الذين كنت أضطهدهم جاءت إلى المدرسة لتستعطفني أن أكف عن إيذائه ، فاستدعوني عند وكيل المدرسة لأقابلها ، لما دخلت عليها مدت يدها لتصافحني ، فرفضت بحجة أن ذلك حرام ، وقلت لها بتعالي المؤمن على الكافر أنا لا أصافح النساء ، فأحرجت ولكنها قالت لي اجلس يا ابني لماذا تضرب ابني وتفتعل معه المشاكل ، قلت لها : لأنني كنت أضرب أحد الأشخاص ( وقد كان مسيحيا ) فجاء وتدخل ليدافع عنه ويحجز بيننا ، فقالت يا ابني ما هو مثل أخيك وخايف عليكم وبيحجزكم عن بعض يعني لم يعتدي عليك ، فقلت لها : مجرد تدخله في الشجار يعتبر غلط بالنسبة لي ويستاهل العقاب ، ظلت المرأة تحاورني رجاءا أن أطمئنها أنني لن أتعرض لابنها مرة أخرى دون جدوى حتى فقدت أعصابها وظلت تصيح حرام عليك ، وأنا لا أعير لخوفها على ولدها بالا .
 

كانت تظن المسكينة أن الموضوع صغير جدا وسوف يتم حله بسهولة فالأمر لا يتعدى مجرد مشاجرة عادية تحدث كل يوم في مجتمع المدرسة ، ولكنها لم تكن تدري أن الأمر بالنسبة لي لم يكن كذلك بل كان أمر حرب بيننا وبين الكفار ولا يجوز أن نعطي لهم الفرصة كي يتساووا بنا فنحن الأعلون ويجب أن يكون المسيحيين أذلة . 

في أحد أيام الدراسة في الصف الثاني الثانوي في عام 1991 سمعنا أنه سوف تعقد مناظرة مع المرحوم فرج فودة في معرض الكتاب ، فتركنا اليوم الدراسي وذهبنا هناك لحضور المناظرة ، وكان يناظره فيها الغزالي ومحمد عمارة ومأمون الهضيبي ، وكانت بعنوان ( مصر بين الدولة الدينية والدولة الدينية ) ، وكان ساعتها الإخوان يحشدون أتباعهم لهذه المناظرة وكان حضورهم كثيفا ، لم أستطع وقتها دخول قاعة المحاضرة من شدة الزحام ، وحتى كان الصوت بالخارج ضعيفا ، ولكني علمت بعدها أنه تم تكفير المرحوم فرج فودة بحجة أنه يرفض تطبيق الشريعة الإسلامية ، وعرفت مؤخرا أن الذي قام بتكفيره جبهة علماء الأزهر التي يسيطر عليها الإخوان المسلمون ، مما أدى بالنهاية المؤلمة للمرحوم فرج فودة على يد أحد أتباع الجماعة الإسلامية في منتصف عام 1992 ، وهنا المفارقة يكفره الإخوان ويجيشون المشاعر ضده ، وتقتله الجماعة الإسلامية ، فهذه عادة الإخوان المسلمون يهيجون الآخرين ويقفون خلف المشهد يتابعون ما يحدث ، وهذا الموضوع سوف أناقشه بالتفصيل في موضع لاحق .
 

أمضيت عامي الأول عام 1991 مع الجماعة منخرطا في كل نشاطاتها قارئا لكل ما يحضرونه لي من الكتب ، ومشتريا للكتب التي يرشحونها لنا بالقراءة ، حتى أخذ بلبي انتمائي للجماعة وأصبحت لي بمثابة العائلة ، وأخذت كل وقتي ومشاعري وتفكيري مما أثر بالسلب على مستواي الدراسي ، فأنا وإخوتي من المتفوقين دراسيا ، ونتميز بذكاء أكاديمي عالي ، ففي الشهادة الابتدائية حصلت على مجموع 286/300 ، وفي الشهادة الإعدادية حصلت على 243/280 ، وبدأ انحدار المستوى التعليمي منذ أن التحقت بالجماعة الإسلامية في الصف الدراسي الثاني الثانوي ، فقد مررت من العام الدراسي بصعوبة ، وبعدها في الشهادة الثانوية حصلت على مجموع 54 % ، وكان هذا بمثابة صدمة لوالدتي ، فكل أملها في الحياة هي ووالدي أن نحصل على شهادات عالية ، وما غربة أبي إلا لهذا السبب ، وأعدت الصف الثالث الثانوي مرة أخرى لتحسين المجموع ، فحصلت على مجموع 64 % بالعافية مما أهلني لدخول كلية الآداب قسم اللغة العربية في جامعة عين شمس وكان ذلك في العام الدراسي 1993/1994 .
 

في عام 1991 و عام 1992 كانت الصراعات الفكرية بيننا وبين الجماعات الأخرى في التيار الإسلامي على أشدها ، فكانت لنا صراعات مع مجموعات القطبيين حول قضية ( العذر بالجهل ) والتي كانت ناقشتها الجماعة الإسلامية في أحد أبحاثها كما ذكرت من قبل ، وكنا نشدد النكير عليهم في هذا الموضوع ونتهمهم أنهم بذلك يتشابهون مع الخوارج والمعتزلة .

وكانت هناك صراعات أخرى مع جماعة الإخوان المسلمين حول كثير من القضايا ، أهمها قضية ( حرمة دخول المجالس النيابية ) فقد كان الإخوان لا يرون بأسا من دخول مجلس الشعب وأنه أحد الوسائل في الدعوة في حين أننا كنا نرى ذلك من الكفر لأن هذه المجالس تشرع القوانين من دون الله ، ولأن الديمقراطية كفر لأنها تقوم على مبدأ السيادة للشعب في حين أن السيادة لا بد وأن تكون لله مصداقا للآية (( إن الحكم إلا لله )) ، لذلك أصدرت الجماعة بحثا يناقش هذه القضية اسمه ( أإله مع الله ؟ ) تثبت فيه حرمة دخول هذه المجالس وأنها قائمة على الشرك بالله في التشريع . 

ومن الصراعات الفكرية التي كانت على أشدها بين الجماعة الإسلامية من جهة ، وبين الجماعات الأخرى على اختلافها هي قضية ( تغيير المنكر بالقوة ) فقد كانت الجماعة الإسلامية ترى جواز تغيير المنكر باليد لأي شخص طالما امتلك القوة وأصدر أحد قياداتها العلمية اسمه عبد الآخر حماد بحثا اسمه ( جواز تغيير المنكر باليد لآحاد الرعية ) يثبت فيه صحة هذا الرأي ، وكنا نستنكر على الجماعات الإسلامية تركهم لهذه الفريضة ، وأنهم جبناء اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة .
 

كنا في الجماعة الإسلامية نتفاخر على الجماعات الأخرى بأننا جماعة أخذت الدين بشموله ، فنحن جماعة تهتم بالعلم على منهج أهل السنة والجماعة ، وتهتم بالدعوة ، وتهتم بتغيير المنكرات في المجتمع ، وتهتم بالإعداد للجهاد ، في حين أن الجماعات الأخرى لم تأخذ الدين بهذا الشمول ، فمنهم من اهتم بالدعوة فقط ، ومنهم من اهتم بالعلم الشرعي فقط ، ومنهم من اهتم بالعمل السياسي فقط ، وكنا نعيرهم بالآية (( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض )) .

وهنا شيء لابد من توضيحه حول هذه الصراعات الفكرية ، فكما ذكرت من قبل أن للحقيقة مستويات عدة من التفسير ، فهناك مستوى أول ظاهر على السطح ، وقد يكون هناك مستويات أخر عدة أعمق لا تتعرف عليها إلا بالغوص في النفسيات ، وتظهر في فلتات اللسان ، وتتضح أكثر بالاقتراب من الشخصيات ، وهل هناك أفضل من المعتقل للاقتراب من الشخصيات .

المستوى الأول ، والذي كنت مقتنع به وقتها أن الجماعة تريد أن تنتصر للدين ،وأنها تريد إقامة الدين بشموله في الوقت الذي تخاذل فيه الآخرون عن نصرة الدين بشموله ،فقاموا بتبعيضه والاهتمام بجزء منه فقط .
 

أما المستوى الآخر من التفسير فترجع جذوره إلى بدايات نشأة الجماعة في أواخر السبعينيات ، وما بعدها في منتصف الثمانينيات ، ففي هذه الفترة كانت توجد كثير من الجماعات الإسلامية على ساحة الإسلام السياسي ، وقيادات الجماعة كانت تتسم بالطموح العالي والسعي إلى لعب دور قيادي في العمل للإسلام السياسي ، فلم تكن تقبل الانضواء تحت هذه الكيانات الموجودة فعليا ، بل سعت لإنشاء كيان خاص بها يحقق طموحاتها في القيادة والظهور ، فكان لابد من إيجاد المبرر الشرعي لاستحداث كيان جديد على الساحة الإسلامية دون أن يتهموا بحب الرئاسة ، أو بالإسهام في زيادة الفرقة بين التيارات الإسلامية في حين الأمر الشرعي واضح بوجوب التوحد (( أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه )) .

كان موجودا وقتها الجماعة الأشهر إعلاميا وقتها ( التكفير والهجرة ) التي اغتالت شيخ الأزهر وقتها ( الذهبي ) ، وكان الإعلام يشن حملة رهيبة عليها أفقدها التعاطف الشعبي ، فكان لزاما على الجماعة الإسلامية وقتها وهي تسعى للتمايز ككيان مستقل أن تنشر فكر محاربة التكفير ، وأنه لا يمكن أن تنضم لهذه الجماعة لأنها تختلف معها فكريا ، وليس لأنها تريد البدء ككيان مستقل ! ، وكذلك لأن الجماعة تسعى لكسب تأييد الجماهير ، وجماعة ( التكفير والهجرة ) أصبحت مشوهة إعلاميا ، مما مهد لاحقا لإصدار بحث ( العذر بالجهل ) .

وكان موجودا جماعة الإخوان المسلمين ، فلكي يجدوا المبرر لعدم الانضمام لهم ، وتوحيد الصفوف كان المبرر الشرعي قضية ( حرمة دخول المجالس النيابية ) ، فكان بحث ( أإله مع الله ؟ ) ، وقضية تكفير الحاكم المستبدل لشرع الله فكان بحث ( كلمة حق ) لعمر عبد الرحمن ، وبحث آخر لأحد قيادات الجماعة يناقش قضية الحاكم المستبدل لشرع الله كما ذكرت من قبل .
 

والمبرر الشرعي الجاهز لتبرير عدم الانضمام لأي من الجماعات الإسلامية الموجودة وقتها هو أنها تجزئ الدين ، ونحن نأخذ الدين بشموله .

تلك كانت المبررات الحقيقية وراء إنشاء الجماعة الإسلامية ككيان مستقل ، وعدم الانضمام لأي من الكيانات الموجودة فعليا ، وهذا ما يفسر العنف الفكري الذي كنا نمارسه مع الجماعات الأخرى ، والحط من شأنهم في النقاشات معهم ، وتضخيم حجم الخلافات بيننا حتى يظل المبرر الشرعي قائما ، فكنا ينطبق علينا الآية (( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا )) .

فقضية مثل ( العذر بالجهل ) هي في الأساس خلاف فقهي ، ولتضخيمها من جانبنا جعلناها خلافا عقديا يوجب الافتراق لأن الذي لا يعذر بالجهل أصبح سليل الخوارج والمعتزلة ، فلا يجوز الاجتماع معه في كيان واحد .

وقضية عدم الحكم بما أنزل الله هي كذلك أحد القضايا الفقهية الخلافية والتي اختلف فيها العلماء كثيرا ، فهي لذلك غير قطعية ، ومع ذلك نجعلها من أصول الدين لنجد الذريعة الشرعية لعدم الانضمام إلى الإخوان المسلمين أو السلفيين ، وهكذا .

 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع

جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com