وصفت دراسة أمريكية ثورات الربيع العربى بـ«صورة سريالية للحظة تاريخية فريدة»، وليست ثورات حقيقية قامت بها الشعوب، بل أقليات دعمتها «الكاميرا» وساندتها قوى خارجية لاعتبارات مختلفة.
وذكرت الدراسة، التى أعدها حسين أغا، عضو كلية سانت أنطونى بجامعة أوكسفورد، وروبرت مالى، مستشار سابق للرئيس الأمريكى للشئون العربية الإسرائيلية، ونشرتها مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» أن ثورات الربيع العربى خلقت تناقضات غير مسبوقة وتحالفات شاذة تتحدى المنطق، فالأنظمة الدينية تدعم العلمانيين، والطغاة يروجون للديمقراطية، والولايات المتحدة تتحالف مع الإسلاميين، والإسلاميون يدعمون التدخل العسكرى الغربى فى المنطقة، و«الإخوان» التى كان اعتبرها الغرب جماعة خطرة ومتطرفة صارت عقلانية ومعتدلة، والسلفيون الذين كانوا يعانون حساسية من السياسة والسياسيين باتوا حريصين على المنافسة فى الانتخابات، وظهرت جماعات مسلحة وميليشيات غامضة وممولون مجهولون وعصابات وقطاع طرق ومختطفون ورهائن، وحسب الدراسة، فإن النظام الجديد الذى خلقه الربيع العربى، لا يمكن أن يستمر لأنه «غير طبيعى» ونهايته «لن تكون سعيدة».
بعد اندلاع ثورات الربيع العربى، شهدت المنطقة تحالفات مثيرة للدهشة، الليبراليون مع الإسلاميين الذين يشتبكون معهم الآن، ودعمت المملكة العربية السعودية العلمانيين ضد الإخوان، ودعمت السلفيين فى مواجهة العلمانيين، وتحالفت الولايات المتحدة مع العراق، المتحالفة مع إيران، التى تدعم النظام السورى، الذى تأمل الولايات المتحدة فى الإطاحة به، وتحالفت الولايات المتحدة مع قطر التى تدعم حماس التى تعادى إسرائيل، الحليف الأهم لأمريكا، فيما تتحالف الولايات المتحدة والسعودية التى تمول السلفيين الجهاديين الذين يقتلون الأمريكيين.
ورأى الباحثان أن تلك التحالفات الغريبة، تحدث فى أنظمة لا تحترم فى بلدانها الحقوق التى تدعمها فى بلدان جيرانها، وليس الغرض من مساعيها الديمقراطية، ولا بناء مجتمعات مفتوحة، وإنما النضال من أجل الهيمنة الإقليمية.
ورصدت الدراسة، دور «الكاميرا» فى الثورات العربية، التى أصبحت جزءا من الاضطرابات وعمليات التعبئة والدعاية والتحريض؛ وبدأت فى مصر ووصلت ذروتها فى سوريا، فكل جانب لا يظهر إلا أنصاره ويبالغ فى أعدادهم ويتجاهل الباقين، ويستثنى البحرين فمهما خرج من معارضة لا ترصدهم الكاميرات ويتجاهل الجميع حضورهم عن عمد.
حلم الإسلاميين بعودة الخلافة بعيد المنال
وفى ميدان التحرير حيث تجمعت حشود المحتجين، كانت الكاميرا تتركز عليهم دون غيرهم، وتجاهلت مشاعر ملايين المصريين الذين لزموا منازلهم، وتجاهلت شعورهم نحو الفوضى والاضطرابات الحالية والانهيار الاقتصادى وعدم الاستقرار السياسى، فى إشارة إلى أن انتخابات الرئاسة التى تلت الثورة 50% من المصريين لم يخرجوا للإدلاء بأصواتهم، ونصف الناخبين أعطوا أصواتهم لممثل النظام القديم.
وفى تونس، كان التحول سلميا إلى حد كبير، وحزب النهضة، الذى فاز فى الانتخابات، قدم وجها معتدلا للإسلام، لكن الثقة منعدمة بينه وبين العلمانيين والاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية تجنح للعنف أحيانا، فيما يتربص السلفيون بالجميع من مخابئهم جاهزين لاغتيال رموز وقيم المجتمع الحديث، وحرية التعبير والمساواة بين الجنسين.
وأضافت الدراسة، أن الوضع فى سوريا، يجسد معنى «الربيع العربى»، فيوما بعد يوم، تتخذ الحرب الأهلية فى سوريا شكلا أكثر قبحاً وطائفية، وتتحول البلاد لساحة حرب، والمعارضة خليط من الإخوان المسلمين والسلفيين، والمتظاهرين السلميين، وأكراد وجنود انشقوا، وعناصر قبلية، ومقاتلين أجانب، وليس هناك ما يمكن أن يتورع النظام أو المعارضة عن عمله لتحقيق الانتصار.
وتوقع الباحثان فى دراستهما أن نفوذ إيران وحزب الله، خلاف ما يعتقده البعض، سيزداد قوة بعد سقوط نظام بشار، فبعد هذا الصراع الطويل والعنيف من المرجح أن تشهد سوريا فوضى وصراعا على السلطة، وليس حكومة مركزية قوية ومستقرة، والقوى السياسية المهزومة والمستبعدة ستطلب مساعدة أى طرف حتى لو كان أجنبيا.
وحسب الدراسة، فإن أهم خصائص ثورات الربيع، كان عدم وجود زعماء؛ ولم يكن هناك سوى قيادات هزيلة، فى شكل لجان، دائما ما تتشكل فى ظروف غامضة لتولى سلطة لم يمنحهم أحد إياها، ويكتسبون شرعيتهم من الخارج أى من الغرب، الذى يعطيهم الاحترام، والخليج الذى يمنحهم التمويل والمنظمات الدولية التى تقدم لهم العون والمشروعية، لذا فإن القادة الجدد غالبا ما يفتقرون للقوة التى تأتى من الولاء الواضح من مواطنيهم.
وقال الباحثان، إنه خلافا لما مضى، هرول الزعماء الإسلاميون لاسترضاء الغرب، كما كان يفعل حكامهم الذين أسقطوهم، وأضافا أن أحد أسباب سقوط مبارك كان اتهامه بأنه تابع للغرب، إلا أن الإسلاميين الذين خلفوه يقدمون للغرب ما لم يقدمه هذا المبارك ونظراؤه الذين سقطوا، فالإسلاميون دعوا لتدخل حلف الناتو عسكريا فى ليبيا، بالأمس، وفى سوريا، اليوم، على أمل أن يصعدوا للسلطة غدا؛ لذا ليس من المستغرب إقناع كثيرين فى المنطقة أن أمريكا متواطئة فى صعود الإسلاميين، وأنها شريك لهم فيما ما حدث ويحدث.
الوصول للسلطة يهدد مستقبل جماعة «الإخوان».. وخطابها المعتدل يضعها فى مأزق
ومن اللافت للنظر، أن الإخوان استنسخوا بعض أساليب مبارك، فالحاكم السابق استخدم الإسلاميين كفزاعة لإبقاء الغرب إلى جانبه، والإخوان الآن يثيرون مخاوف الغرب بالسلفيين الذين يمكن أن يصعدوا للحكم إذا فشلوا الآن، والسلفيون اليوم يلعبون نفس الدور الذى كان يلعبه الإخوان قبل سقوط مبارك، والإخوان يلعبون الدور الذى كان الحزب الوطنى يحتكره.
وتابعت الدراسة رصدها لما أسمتها «حيرة الإسلاميين»، بين الضرب على الحديد ساخنا وفرض رؤيتهم وحلمهم سريعا على مجتمعاتهم، وبين الرغبة فى طمأنة الجميع وتحقيق أهدافهم بهدوء، وتوقع الباحثان أنهم سيفضلون تجنب الإكراه والتحول المتدرج نحو أسلمة المجتمعات، خوفا من اعتراض الولايات المتحدة وأوروبا، الذى يمكن أن يتحول إلى سخط، لكنهم سوف يعتادون عليه كما اعتادوا من قبل على الأصولية المتشددة فى المملكة العربية السعودية.
وقال الباحثان إن الإسلاميين جاهزون بصفقة يرونها مرضية للغرب: المساعدات الاقتصادية والدعم السياسى من الغرب، فى مقابل أنهم لن يهددوا ما يعتقدون أنها مصالح غربية أساسية، مثل الاستقرار الإقليمى، والحفاظ على السلام مع إسرائيل، ومكافحة الإرهاب، وتدفق الطاقة، وعدم شن أى حروب تجارية، والمواجهة مع الدولة اليهودية يمكن أن تنتظر.
وأشارت الدراسة إلى أن السعى لإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة لم يكن أبدا فى قلب المشروع الإسلامى، فالقضية الفلسطينية كانت حكرا على الحركة الوطنية الفلسطينية واعتبارا من أواخر الثمانينات، أصبح هدف «منظمة التحرير» المعلن دولة ذات سيادة فى الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، فيما كانت خطط الإسلاميين أكثر طموحا.
وقالت الدراسة إن فلسطين بالنسبة للإسلاميين، دولة ضئيلة ومبتورة تطوقها إسرائيل من كل جانب لا تستحق القتال من أجلها، لكنهم مستعدون لقبول كثير من الترتيبات المؤقتة، اتفاق مؤقت؛ هدنة طويلة الأمد، كونفيدرالية تجمع الضفة الغربية مع الأردن، أو ضم قطاع غزة لمصر، كل هذا مقبول لأنه يسمح لحماس بالتركيز على أجندتها الثقافية والاجتماعية، والدينية وشئون الدعوة الحقيقية، وتتيح للحركة الحفاظ على صراعها مع إسرائيل مفتوحا حتى يحين الوقت المناسب، وواقع الأمر أن حماس -مثل كل التيارات الإسلامية الأخرى- تفكر فى مشروع أعظم، فحواه أن الدولة اليهودية غير شرعية وجميع أرض فلسطين التاريخية هى بطبيعتها إسلامية، إذا كان ميزان القوى الحالى ليس فى صالحك، فانتظر واصبر وناور حتى تأتى اللحظة المناسبة.
ألغاز الثورات العربية: «السعودية» تدعم السلفيين ضد العلمانيين الذين يواجهون الإخوان.. وأمريكا تحالفت مع العراق
وترى الدراسة، أن إسرائيل لا تخشى الصحوة الإسلامية، لكن المتضرر الحقيقى هو الحركة الوطنية الفلسطينية ومشروع الاستقلال الذى لن يجد طاقة تكفى من الأطراف المتنازعة للخروج للوجود، فمشروع الاستقلال على كل حال مرتبط بقادة «فتح»، وفتح ومنظمة التحرير الفلسطينية لا مكان لهما فى العالم الجديد، والحل القائم على دولتين لم يعد أولوية لأى طرف وقد يموت هذا الخيار ليس بسبب العنف، والمستوطنات، أو ضغوط أمريكا بل لانصراف أصحاب الشأن عنه.
** حلم الإخوان الأعظم:
وذكرت الدراسة أن ثورات الربيع العربى أدت لصعود الإسلاميين والإخوان، على وجه الخصوص، فهم يتسيدون المشهد فى مصر وتونس، ويسيطرون على غزة وحققوا مكاسب فى المغرب، وهم البديل الجاهز فى حال سقوط نظامى سوريا والأردن، وصعود الإسلاميين يعنى اقترابهم من حلمهم وهو دولة الخلافة. وحسب الدراسة؛ فإن الحرب العالمية الأولى، وما تلاها من صعود النفوذ الأوربى على حساب الأتراك، أوقفت 4 قرون من الحكم العثمانى الإسلامى، وتلا ذلك قرن للقومية العربية، التى اعتبرها الإسلاميون أمرا غير طبيعى وزائفا و«بضاعة غربية» وانحرافا يجب تصحيحه بالعودة لدولة الخلافة.
وحسب الدراسة؛ ظل حلم الإسلاميين قائما، ومع اندلاع ثورات الربيع العربى ساعد الإسلاميون فى إسقاط «بن على» ومبارك النسختين الباهتتين من القادة القوميين الكبار، والواقع أن الإسلاميين كانوا يضربون نظامى مبارك و«زين العابدين»، بينما كان هدفهما ضرب جمال عبدالناصر والحبيب بورقيبة، «الأبوين المؤسسيين للدولة القومية فى مصر والجزائر»، وكأنهم كانوا يحاولون تصحيح «غلطة» التاريخ بالإجهاز على الدولة القومية والعودة لحلم الدولة الإسلامية الكبرى التى تتجاوز حدود الدول القومية القائمة.
وحول مدى نجاح الإسلاميين فى تحقيق دولة الخلافة، يرى الباحثان أنه احتمال ما زال بعيدا جدا، فقد ازدهر الإخوان فى المعارضة لأنهم كانوا جماعة سرية، تمتعت بالصبر والسمع والطاعة من أعضائها، وبنت نفوذها عبر سنوات طويلة من العمل والكفاح الهادئ، لكن ما إن بدأت الجماعة فى الصراع على السلطة، حتى فقدت كثيرا من أصولها ومزاياها؛ والإخوان فى مصر -تماما مثل النهضة فى تونس- يواجهون هجوما من العلمانيين لإقحامهم الدين أكثر مما ينبغى فى الحياة العامة، ويهاجمهم السلفيون لعدم إقحامهم الدين بما يكفى. وانقسم أعضاء الجماعة بين راغبين فى الانضمام لتيارات أكثر اعتدالا وآخرين ينشدون تيارات أكثر تشددا، فضلا عن أن تركيز الإخوان على اقتصاد السوق الحرة والطبقة الوسطى لا يصب فى مصلحة المهمشين.
مواجهة إسرائيل وإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة لم تكن أبداً فى المشروع الإسلامى
ورصد الباحثان أن اللغة المعتدلة التى يستخدمها الإخوان مشكلة أخرى، فهم يتحدثون عن الحرية والديمقراطية والانتخابات وحقوق الإنسان، ويمكن أن تجد الجماعة صعوبة فى التراجع عنها، ويمكن أن تفرض تغيرات سياسية على أرض الواقع، وإذا تجاهلت الجماعة شعاراتها، ووعودها بمجتمع ديمقراطى مدنى حديث، وبقيت على ما كانت عليه، عند إذن ماذا يبقى من طبيعتها البرجماتية؟ تاريخيا كان للإخوان صوت واحد يعبر عنهم، أما الآن نسمع من داخلها فى كل بلد أصواتا كثيرة وأولويات مختلفة ومتضاربة.
ويواجه الإخوان أيضاً معضلة على صعيد السياسة الخارجية، فإصرارهم على اتباع دبلوماسية أكثر استقلالا، يضعهم فى خلاف مع الغرب، وقرارهم بعدم معاداة الغرب وإسرائيل يمكن أن يكلفهم جمهورهم؛ وكثير من المصريين يتمنون ما هو أكثر من «مبارك جديد يتلو عليهم آيات قرآنية»، حسب قول الباحثين، اللذين أرجعا ازدهار الإسلاميين فى المعارضة؛ إلى أنهم كانوا يلقون باللوم على الآخرين، لكنهم قد يعانون اليوم وهم فى السلطة؛ لأن الآخرين سيلقون باللوم عليهم، وإذا لم يوضحوا أجندتهم الداخلية والخارجية، فسيفقدون الجماهير المؤيدة لهم فى الداخل، وإذا أصروا عليها فهم يعلنون العداء لغير الإسلاميين والغرب، ولو قرروا تأجيل حربهم ضد إسرائيل، فخطابهم وكلامهم سيبدو منفصلا عن أفعالهم، وإذا شنوا الحرب عليها سيصبحون خطرا على حلفائهم فى الغرب، وإذا قالوا إن اعتدالهم تكتيكى، فسيفضحون أنفسهم؛ وإذا التزموا الصمت، فسيربكون مؤيديهم، ويرى الباحثان أن نفوذ الإسلام السياسى الحقيقى الذى ينبع من عدم تفعيله ووصول قادته للسلطة، يمكن أن يكون بداية انحسارهم.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com