بقلم: مهندس عزمي إبراهيـم
كتب الأستاذ الدكتور أحمد الخميسي مقالا بالأمس نشر بالأقباط متحدون عن الشاعر نجيب سرور بعنوان (نجيب سرور "ذكرى الرحيل") ختمها بقوله "وكان نجيب نموذج الشاعر الفارس المرير اليائس، الجميل قلبا وشكلا، نموذجا جديدا في الحياة الثقافية فأصبح شعارا للكثيرمن الشباب الذين لم يصادفوا أملا في الواقع. يحضرني نجيب سرور في ذكرى رحيله فأتذكره مع كل من عرفه بحب وإعزاز من دون أن تفارقني فكرة أن الاستسلام للمخاوف أحيانا يكون أسهل من مواجهتها. في كل الأحوال بقيت لنا كلماته وقصائده."
قليل من قراء هذا العصر يعرف ويقدر نجيب سرور (1932-1978م) الشاعر المصري المبدع. وكثيرون لا يعرفون شيئاً عنه: لم يقرأوا له ولم يقرأوا عنه. وقليل من يعرف عنه صورة سطحية مشوهة، صورة غير حقيقية، مرتكزة على ملحمة من رباعيات شعرية رغم أنها زاخرة بنقد ثوري واقعي ساخر صارخ على أوضاع ومواقف سيئة كانت تغمر الوطن العربي في عصره إلا أنه - لسوء حظه أو سوء اختياره - اختار لها عنواناً فجاً بذيئاً، كما وأنه ختم بذاك العنوان كل من رباعيات الملحمة. هذا ما أعتبره سقطة فارس أو كبوة فرس. فقد ارتفع نشاذ رنين تلك الملحمة وشاعت شهرتها فغطت على نغمات ابداعاته العديدة. ورغم أن تلك الملحمة، على جودتها (بغض النظر عن عنوانها) ليست أبدع ولا أقوى أعماله الأدبية والمسرحية فقد صارت هي صورة نجيب سرور والسبب في القائه في سلة النسيان المتعمد.
تقول الوكيبيديا، ولد نجيب سرور في قرية صغيرة تقتات بجني ما يزرع أهلها ومـا يربون من الدواجن والمواشي بعيدًا عن أية رعاية حكومية وترسل أبناءها بقليل من الحماس إلى المدارس الحكومية المجانية يتعلمون القليل من المعرفة والعلم. ولكن ما يتعلمه فتى مرهف الإحساس كبير القلب إنساني المواقف مثل نجيب سرور من أدب وشعر ولغة وتاريخ وفلسفة خلال المرحلة الثانوية كاف لخلق الشاعر والفنان الذي يتحدى الظلم والاضطهاد وهو يراه بعينيه الواسعتين وقلبه الحار. فكانت ولادة الشاعر المناضل الفتي الذي سرعان ما ظهرت مواهبه الفنية الأخرى. فالشعر لديه تعبير سهل التكوين وسريع الوصول ولكن المسرح هو الفضاء الآخر الأكثر رحابة وتأثيرا ً في حياة الناس يريهم فيه ما لا يرونه في حياتهم المعتادة.
إدراك نجيب أهمية عالم المسرح بالنسبة لقضيته الأولى، النضال من أجل كشف الحقيقة سعيًا للحرية والعدالة، جعلته يترك دراسته الجامعية في كلية الحقوق قبل التخرج بقليل والالتحاق بالمعهد العالي للفنون المسرحية الذي حصل منه على الدبلوم في عام 1956 وهو في الرابعة والعشرين من العمر. حياة البؤس والحرمان واضطهاد بقايا الإقطاعية من مالكي الأراضي والمتنفذين للفلاحين البسطاء تركت بذورًا ثورية في نفس الفتى الذي امتلأ قلبه حقدا ً على الإقطاعيين وسلوكهم غير الإنساني تجاه الفلاحين. وبتركه كلية الحقوق ودراسته وتخرجه من المعهد العالي للفنون المسرحية تبدأ علاقات نجيب المتميزة مع الكتاب والأدباء والمفكرين والمناضلين والفنانين من خلال أعمال مسرحية شعبية برز فيها كمؤلف وممثل ومخرج لافتا ً الأنظار إلى عبقرية نادرة.
ولع نجيب بالأدب والفلسفة وشغفه بالقراءة وكتابته للشعر بالعربية الفصحى والعامية لم يكبت رغبته الدائمة بمخاطبة الناس عبر المسرح. كان التمثيل في نظره أداة التعبير الأكثر تأثيراً. ويقول أصدقاؤه بأنه لم يلقِ عليهم قصائده بل قام بتمثيلها. وكان له من المهارة في الأداء والتحكم بتعابير الوجه وحركة اليدين ما يشد الناس إليه فينشدوا بكليتهم إلى موضوع القصيدة أو الحديث مثيرا عواطفهم ومشاعر الحب أو الكراهية والضحك أو العبوس وتدفق الدموع حسب الموقف.
كانت مصر في الخمسينات من القرن الماضي حبلى بالثورة. وشهد نجيب سرور وهو على مقاعد الدراسة انطلاق ثورة يوليو 1952. وبعد تخرجه شهد العدوان الثلاثي على مصر مما عمق في نفسه الكره الشديد للامبريالية والاستعمار والرأسمالية وكان منطقياً ان يلتزم الخط الأحمر فانتمى إلى الحزب الشيوعي وطار إلى موسكو في بعثة حكومية لدراسة الإخراج المسرحي وصدم - كما صدم غيره- بالوحدة الارتجالية بين مصر وسوريا، ثم بمؤامرة الانفصال، وراقب عن كثب بطش المخابرات المصرية بالطلبة فتحول إلى مُعارض سياسي في الخارج وسحبت منه البعثة والجنسية فزاد اقتراباً والتحاماً بأمميته وأصبح أحمر اللون عن حق وليس عن ترف.
لكن الفلاح المصري في ثنايا نجيب سرور لا يمكن ان يتأقلم مع القوقازي أو الروسي الأبيض حتى لو كان يتبنى الفكر الأحمر وسرعان ما اصطدم سرور بتنظيمات الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي نفسه فهرب إلى المجر ومنها إلى مصر عام 1964.
كانت مخابرات صلاح نصر في عام 1964 في أوج تألقها وسطوتها، وكان من الطبيعي ان يحل نجيب سرور ضيفاً على زنازين صلاح نصر فيُعذب ويُنفخ ويُصلب وتُمارس عليه كل أنواع التعذيب التي أبدع صلاح نصر في ابتكارها. ومع ذلك كانت بصمة نجيب سرور على الحياة الثقافية في مصر واضحة للعيان حتى يوم وفاته في عام 1978 فقد شارك في الحياة الثقافية شاعراً وناقدا وباحثا وكاتبا مسرحيا وممثلاً ومخرجاً حتى أصبح أحد اعلام المسرح العربي المعاصر.
كان الامن المصري قد ترك الحبل على غاربه لنجيب سرور بعد أن وجد صلابة هذا الفلاح المصري المثقف لن تفت في عضدها زنازين صلاح نصر إلى ان تجاوز نجيب سرور الخط الاحمر حين توقف امام مجازر الملك حسين بحق الفلسطينيين في ايلول عام 1971 بكتابة وإخراج مسرحية بعنوان (الذباب الازرق) سرعان ما تدخلت المخابرات الأردنية لدى السلطات المصرية لايقافها... وقد كان... وبدأت منذ ذلك التاريخ مواجهة جديدة بين الامن المصري ونجيب سرور انتهت بعزله وطرده من عمله ومحاصرته ومنعه من النشر ثم اتهامه بالجنون!!
يستطيع القاريء اللجوء إلى البحث في الانترنت ليعرف الكثير من تفاصيل حياة هذا الشاعر البارع المشحونة بالمآسي والأحداث، وقائمة أعماله الشعرية والمسرحية.. حيث سأكتفي بهذا الطرح لكي أقدم للقاريء قصيدته الرائعة "الإلــــــه"
قصيدة "الإلــــه" هي أروع قصائد نجيب سرور قاطبة، ويسميها البعض "قصيدة الحذاء". صَوَّر فيها الشاعر الملهم قسوة الظلم والاستبداد والقسوة على الفقير الضعيف. يكاد قارئها يعيش في كلماتها ويشعر بعصير الألم والانكسار والاذلال يسيل من قلب طفل ساءَه ما رآه واقعاً على أبيه من عنف وظلم وطغيان. قصيدة استغل الشاعر الفنان فيها طاقته الشعرية وأحاسيسه المرهفة مستغلا قدراته وخبراته المسرحية، لو كانت هذه القصيدة الوحيدة لشاعر مغمور لفتحت له أبواب الشهرة والخلود.
" الإلــــَـــه "
أنـا ابـْنُ الشـــقاءْ!
ربيب الـَزريبــة والمصطبــهْ
وفي قـريتي كلهم أشـــقياءْ، وفي قـريتي "عـُمـدة" كالإلــهْ
يـُحيط بأعناقنــا كالقــدرْ، أرزاقنـــا
بما تحتنــا من حقول حـَبــالي يـلدن الحيــاهْ
وذاك المســاء
أتانـا الخفيـرُ ونـادى أبي بأمر الإلـه! ولبـَّى أبي
وأبهجني أن يُقــالَ الإلــــهُ تنـازل حتى ليدعـو أبي!
تبعت خطــاه بخـطو الأوزِّ فخـورا أتيــه من الكبريــاءْ
أليس كليــمُ الالــه أبـي
كموسى، وإن لم يجئـْـه الخفــيرُ، وإن لم يكن مثــلـَه بالنـبي
وما الفـرق؟ لا فـرقَ عند الصبي!
وبينــا أسير وألقى الصغار أقول "اسمعوا.. أبي يا عيــال دعــاه الالــه"!
وتنطـق أعينهم بالحســدْ
وقصرٌ هنــالك فوق العيون ذهبنـا إليه
يقولون في مأتـم شــيدوه
ومن دم آبائنــا والجـدودِ وأشــلائهم
فمـوتٌ يطــوف بـكل الرؤوسِ
وذعــــرٌ يخيـِّـم فــوق المٌـقـــل
وخيــلٌ تدوس على الزاحفــين
وتزرع أرجلهــا في الجـثث
وجدَّاتنــا في ليـالي الشــتاء
تحدثـننا عن ســنين عجــاف
عن الآكلين لحـوم الكلابِ
ولحـم الحميـر ولحـم القطـطـْ
***
ذهبنــا إليـه
فلما وصــلنا أردت الدخول
فمد الخفــير يداً من حـديد
وألصقني عند باب الرواق
وقفت أزفُّ أبي بالنظــر
فألقـَى الســـلام، ولم يأخذ الجالسـون الســلام!
رأيتُ... أأنسَى؟
رأيتُ الإلهَ يقــوم فيخلـع ذاك الحـذاءْ
وينهــال كالســيل فوق أبي!
أهـــذا أبي؟
وكم كنت أختــال بين الصغــار
بأن أبي فــارع "كالملك"!
أيغدو لعيني بهــذا القصر؟!
***
أهـــذا أبي؟
ونحن العيــال لنا عــادة
نقول إذا أعجزتنا الأمور "أبي يستطيع!"
فيصعد للنخـلة العـاليـة
ويخــدش بالظفــر وجــه السـماء
ويغلــب بالـكــف عـــزم الأســـد
ويصنـع ما شــاء من معجـزات!
***
أهـــذا أبي؟
يـُســام كأنْ لم يكـن بالرجــل
وعـدت أســير على أضـلعي
عـلى أدمـعي وأبــث الجــدر
"لمـاذا؟ لمـاذا؟"، أهلـْتُ الســؤالَ على أمِّيــَـهْ
وأمطرت في حجرهــا دمعـِيــَـه ولكنهــا أجهشــتْ باكيـَـهْ
***
"لمـاذا أبي؟"
وكان أبي صــامتا في ذهـول يعــلق عينيــه بالزاويـة
وجـدِّي الضــريرْ قعيـدُ الحصــيرْ
تحسـَّسـَني وتولـَّى الجـوابْ
"بُنـَيَّ! كذا يفعـل الأغنيــاءُ بكل القـرى"!
***
كرهــت الإلــَه
وأصبح كلُّ إلــَـهٍ لديَّ بغيـضَ الصَّعـرْ
تعلمتُ من يومهــا ثــورتي
ورحت أســير مع القـافـلهْ
على دربهــا المدلهــمِّ الطــويل
لنلـقـَى الصــباحَ
لنلـقـَى الصــباح!
***
أختم مقالي بما علقت به على مقال د. أحمد الخميسي: نجيب سرور من أنجب الشخصيات المصرية في عصر النهضة. له سقطات، ولكني أقول من ليس له سقطات فليتقدم وليقى عليه الأحجار. نحن شعب لا نمجد الا الطاغوت والجبروت، شعب يسجد للسيد المستبد وندوس على نجومنا. شعب القاء حجر أسهل لديه عن ايقاد شمعة أو القاء كلمة طيبة مستحقة. نجيب سرور كان نجماً فيما كتب وفيما عمل وفيما فكَّر. له سقطات دفعته إليها سطوة المجتمع وقسوة الحياة، ولكنها كبوات فرس لا تطمس أو تمحو ابتكاراته وابداعاته.
أحيي الشاعر الرائع نجيـب سـرور في ذكراه.. رحمه الله.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com