بقلم: محمد حسين يونس
إلتحقت بكلية الهندسة في شتاء 1956، بعد الحصول علي أول ثانوية عامة ومن خلال أول مكتب تنسيق، في ذلك الزمن كنا قد تخلصنا من الاستعمار وعملاء الاستعمار (إسمحوا لي أن أكتب بالالفاظ التي كنا نتداولها حينئذ) وقلمنا أظافر الاقطاع والاحتكارات الاجنبية وأممنا القناة وبدأنا رحلتنا صوب المعاصرة بآمال لا حدود لسقفها، ولكن للاسف ما أن بدأت الدراسة حتي توقفت بسبب حرب شنتها انجلترا وفرنسا بالتحالف مع اسرائيل.
في منتصف القرن الماضي كان الاقارب من المهندسين يرتفعون بالحديث عن مهنتهم الي مستوى أنها مهنة الخالق نفسه (ألم يكن الكون فكرة فخيالات فواقع تحقق بفضل إرادته سبحانه ليصبح دنيانا ).. وكان الأساتذة يحدثوننا عن أمحوتب المهندس الذى صمم وأشرف علي بناء هرم زوسر وكيف تم تمجيده من معاصريه حتي أصبح معبودا في الدولة القديمة ..وكان الزملاء يؤكدون علي أن زمن الوزراء خريجي الحقوق قد ولى ليحل محله زمن المهندس بسبب النهضة المرتقبة .
أجازة نهاية العام قضيناها في بورسعيد نعمر ما تم تدميره ومنذ ذلك الزمن لم تتوقف مساهمتي فنحن جيل المهندسين الذى كان من حظه ان ينضم الي كتائب الإنشاء والتعمير لبناء وطن جديد ينعم بثمار الحرية وحكمة أبناءه لاول مرة منذ ألفي سنة.
عنما أصبحت مهندسا كنا نسابق الحياة لنلحق بقطار الحضارة المسرع ،بحيث أصبح المهندس عملة نادرة تحتكرها الحكومة من خلال أوامر التكليف الصادرة لخريجي كليات الهندسة الثلاث فلقد كان عدد الخريجين غير كاف لإقامة ألف مصنع ، وملايين الوحدات السكنية ، مئات المدارس ، المستشفيات ، شبكات نقل الكهرباء ،الطرق ، المرافق ، تشغيل السكك الحديدية ، التليفونات والاذاعة والتليفزيون، فضلا عن المشاريع الضخمة مثل السد العالى وتعمير الصحارى وتوسيع قناة السويس.
كانت نقابة المهندسين تضم أعدادا محدودة لم تصل الى العشرين ألف، يرأسها مهندسى الري يديرونها كما لو كانت بيتا للباشوات، لقد كان لمهندس الري هيبة ونفوذ ورثهما عن الانجليز نظرا لحساسية دوره فى توزيع المياه بالعدل والحكمة.. لقد كنت أذهب إلى مقر النقابة بشارع رمسيس فأقابل بكل إحترام وأجد مكانا مرتبا نظيفا تدار فيه ندوات علمية وسياسية، وكان صوت النقيب عبد الخالق الشناوى يجلجل دفاعا عن الهندسة والمهندسين ويملأنا بالزهو والأمل.
مضى نصف قرن زاولت خلاله المهنة لم أتوقف يوما لقد كنت جندى من جنود التعمير عندما كانت التنمية همنا الأساسي وضابط بالقوات المسلحة أشقى ، قبل المعركة فأنشئ التحصينات والملاجئ وحقول الألغام والطرق، وأثناء المعركة نمد الكبارى ونفتح الثغرات وبعد المعركة نزيل آثار الحرب ونرمم ما تم تدميره ونعيد للمكان صورته المدنية المسالمة .
لقد إرتفع قدر المهندس فى مجتمعه بواسطة جهده وعرقه وتضحياته وكم قدم من الشهداء والمصابين وكم إبتكر وتدبر عجز الموارد عندما حاصر إقتصاد بلده سفلة الامبريالية والاستعمار،المهندس واجه عثرات وطنه برجولة ومسئولية ثم عندما بدأ زمن العصابات تدهورت مكانته ولم يعد تلك السلعة التى يسعى لها السماسرة والتجار والمستوردين ومروجي الكيف وأصحاب العمولات لنستيقظ ذات يوم فنجد أن السوق قد تشبع بما دفقته مئات الكليات والمعاهد ولنجد أن البعض خوفا من البطالة قد هجر مهنته ليجد لنفسه مهنة أكثر دخلا توقف تدهور مكانته الاجتماعية.
المهندس أصبح يعمل فى الدعوة الدينية أوالتجارة، أما المرتشى واللص فالسجون تعج بهم (وإن كان من الممكن فى الزمن الردئ أن يخرج أحدهم من سجنه فيتم تكريمه فى النقابة وتقديمه كنموذج يحتذى) ، المهندس الذى يعمل مدرسا من منازلهم لطلاب الثانوية يحصِّل فى الموسم على ما يحصِّله من عمله لأربع أو خمس سنوات، كذلك المهندس لاعب الكرة ، الممثل ، المغَّنى المدَّاح الذى يعرف من أين تؤكل الكتف.
تدهور حال المهندسين خلال العقود الثلاثة الماضية فإبتعدوا عن انجازات العصر وقد نجد أن هناك من يحملون شهادات عليا ويجهلون القراءة والكتابة بكل اللغات بما فى ذلك العربية أو يتعثرون فى قراءة الرسومات ليبدأ العد التنازلى لنصير أمة بدون هندسة ونتدهور لنحاكي دول إفريقيا السوداء الصومال وجيبوتى وأوغندا ، الكهرباء غير منتظمة ، المواصلات تساعد عزرائيل ، الشوارع بقذارتها وسوء رصفها وغمرها بالمجارى تعود بنا إلى القرن الثامن عشر .
ماذا حدث لتنهار الهندسة بهذه الصورة، رغم أن المتوفر اليوم من إمكانيات يفوق بمراحل ما كان فى منتصف القرن!!
فى الستينيات كانت مصر تمثل مجتمعا شابا فائق الحيوية يطمح للعب دور فى المنطقة والمجتمع الدولى وكانت خطط التنمية تتوالى واحدة إثر أخرى والصراع ضد الاستعمار يحفز القيادة والشعب فإنعكس هذا الطموح على كل عناصر المجتمع بما فى ذلك مهندسيه.
اليوم مصر مستعمرة أمريكية تقودها السعودية وقطر وتتسول رغيف خبزها ، و أداء أى دور لكومبارس فى المشهد الدولى ،فى مصر اليوم صراع ضاري للحصول على أكبر جزء من جسد الفريسة والكل يجهز أسلحته للحصول على مكاسب سهلة ومستديمة من( التجارة ، السمسرة ، إستغلال النفوذ ، التلاعب بمشاعر الناس عن طريق الدين ، زراعة المخدرات وترويجها ، بيع الصبايا لشيوخ الجاز)و كلها أساليب ربح تعطي ناتج أعلى من فائض القيمة المترتبة على الانتاج فيتوارى العاملون وعلى رأسهم المهندس.
الهندسة كما تزاول فى بلاد العالم إبداع ، فكر ، دراسات ، برامج ، تخطيط ، متابعة ، حسابات وكلها عناصر مجهولة لدي رؤساء المؤسسات الهندسية الذين حلُّوا مكان (الفلول )، فالهندسة لديهم فهلوة وشطارة وخداع ، لذلك سقطت العمارات وتعطلت القطارات وتهشمت السيارات وحتى المنطاد إحترق.
شاهدت نكسات عديدة وإنكسارات حادة فى هذا المجتمع ولكننى لم أشهد على طول نصف قرن مارست فيه العمل الهندسي مثل هذا الانحدار الحاد للمهنة وللعاملين فيها، ولم أتصور فى يوم أن ينطبق على المهندس بيت الشعر :
وقوفى فى الأسواق أبيع وأشترى ........... دليل على أن الأنام قرود.
إلا بعد ان أطال المهندس لحيته و تحول إلى داعية فى الزوايا والمصليات لأنها ألاكثر ربحا وألاقل جهدا.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com