وكأن ما تمر به مصر من أزمات وكوارث سياسية واقتصادية ومجتمعية غير كاف، فأراد من يتربص الشر بهذا البلد الأمين أن يزيد الأزمات والكوارث بإعادة إشعال نار الفتنة الطائفية التى ظلت جذوتها كامنة على طول السنين منذ أحداث «الخانكة» عام 1972 ثم تعاود الاشتعال بين الحين والآخر لتشغل الناس فى مصر بمخاطر ومهددات تؤثر بالسلب على مسيرة الوطن وتقوّض الأساس الذى قامت عليه دولة المواطنة التى عاش المصريون فى ظلها مسلمين ومسيحيين قروناً ممتدة.
وكانت أحداث «الخصوص» فى القليوبية ثم الاعتداء على الكاتدرائية بالعباسية قمة العبث بأمن الوطن وتهديد وحدته، حيث كانت المرة الأولى فى تاريخ الفتنة الطائفية أن تبلغ الجرأة على المقدسات الدينية لفريق من أبناء الوطن هذا الحد الجسيم الذى هدد بإشعال نار حرب أهلية لا يعلم إلا الله مداها وانعكاساتها على حاضر مصر ومستقبلها.
إن تاريخ محاولات إذكاء نار الفتنة الطائفية شهد أحداثاً تراوحت بين اتهامات متبادلة بين مسلمين ومسيحيين بخطف مسلمات لتنصيرهن أو مسيحيات لتزويجهن من مسلمين وإعلان إسلامهن، أو خلافات عادية تقع بين أطراف من المسلمين والمسيحيين على أمور حياتية واردة بين المسلمين أو المسيحيين أنفسهم، ولكن وجود أطراف ينتمون إلى الإسلام وأطراف آخرين يؤمنون بالمسيحية، يؤدى فى بعض الأحيان إلى تطورات غير عقلانية من جانب أى من الطرفين أو كليهما تشعل لهيب الفتنة بينهما ثم يستنجد كل منهما بعشيرته ويقع نتيجة لذلك ضحايا من الطرفين، ويكون الخاسر الأكبر فى كل حالة هو مصر.
وإذا استعرضنا تقرير اللجنة التى شكلها مجلس الشعب برئاسة المرحوم الدكتور جمال العطيفى لاستظهار أسباب الفتنة الطائفية التى تعرضت لها البلاد فى أعقاب أحداث «الخانكة»، نجده يوضح «.. إن اللجنة تعرض فى تقريرها لموضوع حادث الخانكة باعتباره حادثاً مميزاً يعبر عن مناخ غير صحى ساد العلاقات الاجتماعية خلال هذا العام، ثم تتناول بعد ذلك هذه العلاقات بصفة عامة وتعرض تحليلاً واقتراحات محددة لعلاجها».
وأوضح تقرير لجنة العطيفى حقائق لا يجب إغفالها ونحن بصدد تجدد تلك الأحداث المؤسفة والبحث عن أسبابها، وتتركز تلك الحقائق فى أن أهالى مدينة الخانكة وكل المصريين مسلمين ومسيحيين كانوا يعيشون دائماً فى وئام، وتجلى ذلك حينما تعرضت أبوزعبل القريبة من الخانكة لغارات طائرات إسرائيل الفانتوم، حيث قُتل وأصيب الكثيرون، ولم تفرق قنابل العدو بين المسلم والقبطى، ويذكر التقرير أن رئيس مجلس المدينة السابق كان من الأقباط لمدة اثنتى عشرة سنة، ولم تثر أى حساسيات طوال هذه السنين، وأن مبنى جمعية أصدقاء الكتاب المقدس الذى احترق سقفه واحترقت موجوداته فى الأحداث يقوم حوله بعض مساكن المسلمين، ولم يكن مرخصاً كبناء فضلاً عن عدم الترخيص به ككنيسة، ولكن من ناحية الأمر الواقع كانت تباشر فيه الشعائر الدينية دون تعرض من جهات الإدارة وبتسامح منها.
وقد خلصت لجنة الدكتور العطيفى إلى الأسباب العامة وراء أحداث ما يسمى «الفتنة الطائفية»، وهى استمرار القيود البيروقراطية على الترخيص ببناء الكنائس أو ترميمها والتمييز غير المبرر بين هذه القيود التى تحد من حرية المسيحيين المصريين فى إقامة كنائسهم ومن ثم حريتهم فى ممارسة شعائرهم الدينية من ناحية، وبين حرية إقامة المساجد والزوايا والمصليات للمسلمين فى كل الأماكن ومن ثم حرية المسلم فى ممارسة شعائره الدينية دون قيود.
وأشارت لجنة د. العطيفى إلى قضية الدعوة والتبشير وما يتردد أحياناً فى خطب المساجد وعظات الكنائس أو إلى نشاط تبشيرى تقوم به بعض الجمعيات مما يتولد عنه بعض الحساسيات. وطالبت اللجنة بضرورة إخضاع جميع المساجد لإشراف وزارة الأوقاف من ناحية، وفرض السلطة الدينية المختصة بتعيين وعاظ الكنائس بمتابعة أدائهم واجباتهم الدينية وأن تكون مسئولة عند أى تجاوز لهذه الواجبات. كما لاحظت اللجنة «أنه بعد أن أصبحت التربية الدينية مادة أساسية فى مناهج التعليم العام طبقاً للمادة 19 من الدستور الجديد (دستور 1971) فإن المدارس قد أصبحت من مؤسسات الدعوة، وهذا يبدو فى المدارس التى تضم أبناء من المسلمين والأقباط؛ إذ يجب إتاحة الفرصة لدروس دينية منظمة للتلاميذ الأقباط فى المدارس يتعلمون فيها أحكام دينهم، وكما يجب أن تتسم دروس الدين جميعها بعرض لحقائق الأديان بحسن إدراك وسعة وبعد عن التعصب».
إن التسامح وقبول الآخر وسيادة قيم المواطنة الحقة كانت سمات مميزة لعلاقات الأخوّة بين مسلمى مصر ومسيحييها، فماذا حدث الآن؟ وما هى المستجدات التى طفت على سطح المشهد السياسى والاجتماعى وساعدت على إظهار أسوأ ما فى المصريين من تطرف وتعصب دينى وإنكار لوجود الآخر؟
إن الإجابة عن تلك التساؤلات تكمن فى استمرار الدولة منذ تفجر أحداث «الخانكة» وحتى اليوم فى تجاهل توصيات لجنة العطيفى التى لاحظت أن تنظيم إقامة الكنائس أو تعميرها وترميمها لا يزال يخضع لأحكام الخط الهمايونى الصادر من الباب العالى فى فبراير 1856 الذى قرر إباحة إقامة الكنائس أو ترميمها بترخيص من الباب العالى، وأن كثيراً من الكنائس القبطية قد تقادم عليها العهد، فلا يُعرف شىء عن تطبيق الخط الهمايونى بشأنها. ورغم أنه صدر فى شهر فبراير 1934 قرار من وكيل وزارة الداخلية بالشروط التى يتعين توافرها للتصريح ببناء كنيسة وقد سميت بالشروط العشرة، التى يجب أن تتحقق جهة الإدارة من توافرها حتى يصدر قرار جمهورى بإقامة الكنيسة، فقد تبينت اللجنة أنه من أهم الأسباب التى تؤدى إلى الاحتكاك وإثارة الفرقة، عدم وضع نظام ميسر لتنظيم هذه التراخيص دون تطلب صدور قرار جمهورى فى كل حالة. ولا يزال مشروع قانون دور العبادة الموحد قابعاً فى دهاليز السلطة رغم أن حكومة الدكتور عصام شرف كانت قد أتمت إعداد مشروع متكامل نوقش بواسطة لجنة العدالة والمواطنة التى شُكلت بعد أحداث كنيسة «الماريناب»، ولكن استقالة الحكومة حال دون استكمال إجراءات إصداره من المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
والسبب الأكثر أهمية فى تجدد الفتنة الطائفية بعد الثورة هو ارتفاع أصوات الجماعات الدينية المتشددة والسماح بإنشاء أحزاب بمرجعيات دينية رغم أن تعديل قانون الأحزاب السياسية الذى أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة يمنع قيام الأحزاب على خلفية دينية، والأكثر من هذا أن دستور 2012 لم يتضمن النص الذى ألحت عليه القوى المدنية بتحريم تأسيس الأحزاب ذات المرجعية الدينية، وزاد مجلس الشورى مؤخراً بالموافقة على استخدام الشعارات الدينية فى الدعاية الانتخابية، وذلك فى مشروع قانون انتخابات مجلس النواب الجديد المعروض على المحكمة الدستورية العليا ونأمل أن تنتبه المحكمة إلى هذا النص. ولقد كان من عنف هجمة تيارات الإسلام السياسى أن جماعات كان لها تاريخ فى أعمال العنف والهجوم على الإخوة المسيحيين أصبح لهم أحزاب سياسية ترفع لواء التشدد.
إن القضاء على جذور الفتنة الطائفية لن يتحقق بتشكيل لجان ولا مجالس استشارية لن تقدم جديداً يمكنه احتواء الاحتقان الطائفى الذى يتعاظم مع ازدياد وطأة الفقر والبطالة وحالة عدم الاستقرار السياسى. الحل الطبيعى أن تلتزم الدولة والمصريون جميعاً بقيم المواطنة وأن المصريين جميعاً سواء فى الحقوق والواجبات، وإصدار قانون يرفع القيود عن بناء وترميم الكنائس وتقنين أوضاع مئات الكنائس غير المرخصة.
وإلى أن تقوم الدولة بمسئولياتها نحو مواطنيها مسلمين ومسيحيين، لك الله يا مصر.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com