حينما يؤرّخ للحقبة الإخوانية فى مطلع القرن الحادى والعشرين، فإنهم بالضرورة سيسطرون زيادة موجات الإلحاد بين المصريين. وليس هذا بغريب فى التاريخ الإنسانى، فحينما طغت الكنيسة الكاثوليكية فى القرون الوسطى الأوروبية، للدرجة التى تاجرت فيها بأسهم فى الجنة، أطلقت عليها «صكوك الغُفران»، بدأت فئات مُتعددة تهجر الكنيسة، ثم تهجر المسيحية كلها، لولا أن قِساً ألمانياً شُجاعاً اسمه مارتن لوثر، قاد حركة رافضة ضد الكنيسة، سُميت بالحركة الاحتجاجية، أو «البروتستانتية»، فأنقذ بذلك المسيحية، وانفصل عن الكنيسة فى روما.
وقد حدث شىء مُشابه فى فرنسا، بعد قرنين من حركة الإصلاح الدينى الألمانية، حيث ثار الشعب الفرنسى ثورته الشهيرة عام ١٨٧٩ على كل من الملكية (لويس السادس عشر)، والكنيسة الكاثوليكية، وأعلن ثوار فرنسا مذهباً جديداً هو «العلمانية» (Secularism)، وهو مذهب يفصل الدين عن الدولة، ويدعو إلى حُرية الاعتقاد، بما فى ذلك إنكار الله. ومرة أخرى، كان ذلك رد فعل لاستغلال الدين فى السياسة، بل إن الثورة الفرنسية ذهبت أبعد من ذلك لمُصادرة أموال وممتلكات الكنيسة، وإعلان «دين مدنى» جديد، يُقدس الإنسان والإنسانية (Humanism) والتقدم، والحُرية والإخاء والمُساواة بين كل البشر، بصرف النظر عن أديان آبائهم.
وربما كانت الشيوعية هى أعنف ردود الأفعال ضد كل الأديان، التى اعتبرها كارل ماركس «أفيون الشعوب»، حيث ذهب إلى أن الملوك والأغنياء يستخدمون الدين لتحذير الفقراء، وتقديم الوعود إليهم بأن للفقراء «الجنة»، حتى يُصرفوهم عن المُطالبة بحقوقهم فى الحياة الدُنيا!
صحيح كانت هناك مقدمات لموجة الإلحاد الحالية فى المجتمع المصرى، من ذلك أنه فى عام ٢٠٠٠، قبضت السلطات الأمنية المصرية على مئات من الشباب الذين اتهمتهم بأنهم «يعبدون الشيطان»، وبعد ذلك بأسابيع قبضت نفس السلطة على آلاف الشباب بتهمة الترويج «للمثلية الجنسية» (Homo Sexuality). وبدراسة ميدانية مُباشرة قام بها هذا الكاتب لأفراد من عبدة الشيطان، ومن المُتهمين بالمثلية الجنسية، اتضح أن معظمهم، إن لم يكونوا جميعاً، كانوا يحتجون بطريقتهم على نظام الرئيس حسنى مبارك، وقد فعلوا ذلك على باخرة نيلية هى باخرة الملكة (Queen Boat). ورغم الصخب الذى أحاط بالقضيتين، إلا أن الحكومة اضطرت فى النهاية للإفراج عن المتهمين فى القضيتين، إما لغياب نصوص قانونية قاطعة تدين هذه السلوكيات، أو لعدم وجود أدلة قاطعة على هذه السلوكيات. أما بالنسبة لنا، كعُلماء اجتماع، فقد كان السؤال هو: لماذا تظهر، أو تنتشر هذه السلوكيات المُختلفة أو غير المعتادة؟ وما هى الشرائح العُمرية الأكثر ميلاً للضلوع فيها؟ وما هى الفئات الطبقية الأكثر إقبالاً على هذه السلوكيات؟
وقد خلصت فى حينه إلى أن شباب الطبقة المتوسطة والعُليا، هم الأكثر انجذاباً لمثل هذه الحركات غير النمطية. أما الجديد منذ صعود الإخوان المسلمين إلى السُلطة، وازدياد التعبيرات السلفية والصوفية فى السنوات الثلاث الأخيرة، فهو تزايد موجات الإلحاد العلنية. لقد كان هناك دائماً مُلحدون فى مجتمعنا، كما فى مجتمعات عديدة أخرى، ولعلنا نذكر أنه فى ثلاثينيات القرن الماضى ظهر كتاب لأحد أبناء الطبقة الأرستقراطية، (إسماعيل أدهم) بعنوان «لماذا أنا مُلحد؟». ورد عليه أحد عُلماء الأزهر (د.محمد جمال الدين الفندى) بكتاب «لماذا أنا مؤمن؟».
وكما تعلمنا فى الميكانيكا، أن لكل فعل رد فعل مُساوياً له فى الحجم ومُضاداً له فى الاتجاه، فيبدو أن الإسراف فى التعبير الحقيقى أو المُصطنع عن التدين، دفع كثيرين إلى التعبير الحقيقى أو المُصطنع عن الإلحاد ـ أى إنكار الأديان، وإنكار وجود الله! أو كما يقول أولاد البلد حينما يُسرف أحد فى مُضايقتهم «طلّع دينى». ولكن الأمر الذى رصدناه يتجاوز رد الفعل اللحظى إلى ما هو تأصيل وتنظيم للإلحاد ـ معرفياً وسلوكياً، ووجدانياً!
وقد شجع على انتشار هذه الموجة الإلحادية الراهنة، وجود الشبكة العنكبوتية الدولية (المعروفة باسم الإنترنت)، والتى يتداول فيها الناس الأفكار والمعلومات بسهولة ويُسر، وفى خصوصية تامة، دون رقيب أو حسيب. وربما أن هذه كانت الطريقة التى بدأت بها بعض نساء الطبقة الوسطى المصرية حركة ٦ إبريل، عام ٢٠٠٧، والتى مهّدت لحركة كفاية، ثم لثورة ٢٥ يناير ٢٠١١.
ثم إن تلك الثورة نفسها هى التى حطمت حاجز الخوف عند المصريين، لأول مرة بعد ستة آلاف سنة، وكان المصريون يتوجسون فيها من السُلطة، مُمثلة بالفرعون الذى ألّهوه وعبدوه. ونفس هذه الثورة هى التى سيّست كل المصريين، أى جعلتهم يهتمون بالشأن العام. فقد أصبح الجميع يهتمون ويتحدثون فى السياسة، ولم تعد السياسة احتكاراً للنُخبة فى قمة المجتمع. فمن ربة المنزل، إلى الفلاح البسيط، إلى سائق التاكسى له رأى فيما يحدث من حوله. وهؤلاء من اعتمدت عليهم حركة «تمرد» ليوقعوا بأسمائهم، وأرقام بطاقاتهم الشخصية، على سحب الثقة من الرئيس محمد مرسى، والمُطالبة بانتخابات رئاسية مُبكرة.
فإذا لم يستمع محمد مرسى والإخوان المسلمين لنداءات الخمسة عشر مليوناً الذين وقّعوا استمارات «تمرد»، فإن نداءاتهم السِلمية قد تتحول إلى صيحات غاضبة بعد يوم ٣٠ يونيو، ثم إلى عصيان مدنى، وربما إلى ثورة لا تبقى ولا تذر. اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد!!
وعلى الله قصد السبيل
نقلاً عن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com