CET 00:00:00 - 17/11/2009

مساحة رأي

بقلم: د. يحيى الوكيل
الفارق بين التاريخين إثنان وأربعون سنة في رأيي كافية لبلوغ أي وعي –على المستوى الشخصي أو القومي– مبلغ النضوج، ولكن القارئ للشارع المصري لا يجد أثرًا لهذا النضوج.

ولكن، لماذا هذين التاريخين بالذات؟ ما الدلالة التي يحملانها؟
أذكر كالأمس الشحن النفسي الذي عاشه الشعب المصري في مايو 1967 ومصر تستعد للحرب مع إسرائيل، ومرور قوافل القوات المسلحة في الشوارع تحمل الجنود والمعدات بلا غطاء عليها متجهة نحو الشرق إلى أرض المعركة. برغم صغر سني وقتها إلا أنني أذكر جيدًا الأغنيات التي كانت تصدح من الراديو: "حنحارب حنحارب إسرائيل الأرانب".
أذكر بعدها بأيام قليلة خوف والدتي عليّ من الخروج للشرفة أو الوقوف في الشباك لقرب منزلنا من مستشفى قد يمثل هدفًا لطائرات اسرائيل، وأذكر الوجوم الذي كان مرتسمًا على وجوه الجميع حتى ونحن نستمع إلى صوت فيروز -والذي كان دائمًا يجلب البهجة إلى قلوب أسرتي– وكانت تشدو بزهرة المدائن، والتي ضاعت من بين أيدينا بعد أن كانت الأتوبيسات تطلق نفيرها وركابها يهزجون "بيب بيب وصلونا لتل أبيب".
كان الشعب كله ينتظر أن يصحو من النشوة بالأمل في النصر فيجد في محطة أتوبيسات التحرير خطًا جديدًا: 313 بخمسة شُرط ومكتوب عليه أبوزعبل – تل أبيب، ولم يجدوا، ولكن بعد شهور كانت الغارات الإسرائيلية تدك أبا زعبل وتضيف لأحزان الشعب المصري حزنًا جديدًا. سقط في هوة الحزن شعب بأكمله لأنه اندفع بنشوة الفرح فلم يعبأ أن يتدبر نهاية الطريق، فكانت سقطة أليمة لا زالت مرارتها في الحلوق.

بنفس وتيرة الشحن، ولأيام –بل ولأسابيع– وكل وسائل الإعلام تقوم بشحن الشعبين المصري والجزائري انتظارًا لمباراة كرة القدم بين المنتخبين الوطنيين والمؤهلة لمجرد الالتحاق ببطولة كأس العالم للعبة –وليس للحصول على البطولة والكأس– لعام 2010 والمقامة في دولة جنوب إفريقيا.
كان الشحن مطلوبًا لضعف فرص المنتخب الوطني المصري –حيث كان يلزمه الفوز بفارق هدفين على الأقل- مقارنة بنظيره الجزائري والذي كان يكفيه حتى الهزيمة بفارق هدف للوصول إلى مراده.
ليس لي أن أعترض على شحذ الهمم من الطرفين، ولكني وجدت نفسي أعيش أجواء مليئة بالأغاني الوطنية الحماسية وكأننا نستعد للدفاع عن أنفسنا ضد جيوش جنكيز خان، والبرامج الإعلامية مليئة بالمتحدثين الذين ينقدون ويحللون ويرسمون الخطط ويبدون الرأي والمشورة وكأنهم أعضاء هيئة الأركان لحملة استعمار المريخ. لقد وصلنا حتى إلى عرض آراء النساء المصريات في نتيجة المباراة، وبعفوية مصرية حقيقية منهن من كانت تزغرد ومن كانت ترفع الصلاة والدعاء، بل ومن رأت حلمًا لنا بالنصر وأحلامها لا تكذب أبدا.
أيصدق عاقل هذا؟
زيارات الجبهة طبعًا كان لها نصيب في الإعداد للمعركة المقبلة، فالقائد الأعلى للقوات المسلحة قد شرّف معسكر تدريب المنتخب الوطني بالزيارة وسبقه لفيف من الوزراء والوجهاء وأعلام السياسة والفن تمثيلاً وغناء بالضبط كمايو 1967.
لا فرق سوى في اليونيفورم ما بين كاكي القوات المسلحة وقتها والدبابات، وبين فانلة وشورت المنتخب وكرة مستديرة المفروض أنها للعب وليس لاحتلال شواطئ الأندلس أو العالم الجديد.

من ليلة ما قبل المباراة والشباب في شوارع المنطقة التي أسكنها يغنون ويرقصون ويلوحون بالأعلام المصرية –والتي لا بد أن رقم مبيعاتها قد تعدى الملايين- وكأن النصر قد تحقق بالفعل. وفي أماكن أخرى كان المطلعون منهم على الحملة الإعلامية الجزائرية –وسأفرد لهذه مساحة وحدها– مهتمون أكثر بالرد على ما جاء على لسان الجزائريين من إهانات.
لن أخوض أكثر من ذلك في تفاصيل يوم المباراة وأثنائها وما حدث بعدها مباشرة، ولكن الجو العام لا يزال مماثلاً لمايو 1967. فالكل يتعامل مع المباراة الفاصلة في السودان وكأنها نزهة كروية –كما قيل عن النزهة العسكرية آنذاك– وأن النصر مضمون –كما كان النصر مضمونًا وقتها-.
ألم ينضج وعي هذا الشعب بعد ليستوعب أن يكون عقلانيًا في توقعاته وأن لا يستبق الأحداث بالفرحة حتى لا تصدمه الهزيمة إن قُدرت عليه بحزن طاغ؟ العقلانية فقط قادرة على استيعاب الهزيمة ودرس أسبابها لتفادى هزائم غيرها.
و كم أخاف من يونيو يلي مباراة الخرطوم.

على المستوى الرسمى أجد أداءنا ضعيفًا مضحكًا، بل ومخزيًا في بعض الأحيان؛ ودليلى في هذا قصة الهجوم المزعوم الذي تعرضت له الحافلة التي أقلت الفريق الجزائري من المطار إلى الفندق –والفندق على مسافة أقل من خمسة دقائق بالسيارة من صالة الوصول بالمطار-.
كالخطأ الذي حدث في مايو 1967 عندما لم نرسل بعثات إعلامية لسيناء لتوثق أوضاع قواتنا الدفاعية فهجمت اسرائيل ودمرتنا مدعية أنها قامت بهجوم استباقي ذو طبيعة دفاعية على عدو كان ينوى الهجوم عليها ومسحها من الوجود، وبادعاء إسرائيل لذلك كسبت التعاطف العالمي وسمح لها العالم أن تستكمل عملياتها وتحتل الأرض.
إنه مايو 1967 مرة ثانية ونحن لا نتعلم من أخطائنا.
لو أن التليفزيون المصري -الذي تلاحق كاميراته فناناتنا وهن يقلمن أظافر أقدامهن- ذلك الجهاز الحكومي الخطير قد قام بتوجيه بعثة إعلامية لتصوير وتوثيق وصول فريق الجزائر منذ لحظة وصولهم إلى المطار لحين تسكينهم بالفندق لما جرؤ مدّع منهم أن يفتري على الشعب المصري فرية كادعاء رشق حافلتهم بالحجارة وادعاء إصابة لاعبين منهم. بل ووصلت الأمور إلى أن يدعي جزائري استضافته أحد البرامج الرياضية بإحدى الفضائيات أن حجم الحجارة وصل إلى ما يحتاج لإطلاقه إلى منجنيق يليق بالملك ريتشارد قلب الأسد.

كانت تلك خطيئة جهاز الإعلام، فماذا عن خطايا الأجهزة الأخرى؟
كيف لم تتابع النيابة تحقيقاتها والتي جاء فيها –حسب جريدة الأهرام الصادرة صباح السبت 14 نوفمبر– أن لاعبو فريق الجزائر هم من قاموا بتحطيم زجاج الحافلة واعتدوا على مواطنين مصريين؟ كيف لم تقبض على من دلت تحرياتها أنهم قاموا بهذا الشغب؟
أليس ما فعلوه يقع تحت طائلة القانون؟ أليست هناك مواد تعاقب إتلاف الممتلكات وتكدير السلم العام وغير ذلك من التهم التي تتفنن النيابة العامة ونيابة المرور ونيابة أمن الدولة وكل النيابات في إلصاقها بكل من يحمل ورقة كتب عليها رأيٌ يخالف رأي الحكومة؟
أيلزم فقء عين مصرى آخر لتتحرك الدعوى ضد الغوغائيين والهمج؟
لقد حطموا مدخل صالة السفر رقم (1) بالمطار –ولم لا يفعلون ولم يجدوا رادعًا عن فعلتهم الأولى– ولم يسجل ذلك أحد ولا أتخذ ضدهم إجراء هذه المرة أيضًا. وفوق كل ذلك تخرج علينا صحف الجزائر وتصور الموقف وكأن لاعبي ومشجعي فريقهم كانوا في ضيافة شعب من آكلي لحوم البشر. ولم لا يفعلون ونحن لم نوثق ما فعلوا ولم نتخذ ضدهم إجراءًا واحدًا يحفظ لنا حقوقنا القانونية؟ الأدهى أننا قبلنا أن يوجه لنا إنذار بالحفاظ على سلامة البعثة الجزائرية وخرج مسئولونا بالتصريحات أننا سنفعل كما أمرنا.
قبلنا على أنفسنا أننا المذنبون ونحن بلا ذنب وتركنا المجرمون يذهبون بلا غرم وكأنهم بلا جرم.
إنه مايو 1967.

أما عن أداء وزارة الخارجية فكان كارثيًا.
فسفيرنا في الجزائر استدعوه بعد تمثيلية تحطيم الحافلة وأبلغوه بلهجة شديدة باستيائهم، ثم ظهر سفيرهم إلى القاهرة في برنامج على قناة الجزيرة وهاجم واتهم واستمر في التمثيلية مغذيًا أكاذيب آلة الدعاية الجزائرية ومغذيًا معها الكراهية الرهيبة المزروعة بين البلدين. كل هذا ولم تفكر وزارة الخارجية المصرية في استدعائه وأن تطلب منه أن يلتزم بدوره الدبلوماسي وإلا عدته الدولة المضيفة شخصًا غير مرغوب فيه.
على فكرة فقد انسحب هذا السفير من البرنامج عندما حوصر بالأدلة أن تحطيم الحافلة كان من قبل اللاعبين الجزائريين.
كان يجب على وزارة الخارجية أن تقوم بدورها في رفض إهانة الشعب المصري واتهامه بما لم يحدث منه، وفي نفس الوقت كان يجب عليها أن تقوم بدور ما في سكب الماء على النار المشتعلة بالكراهية والتي تنفثها وسائل الإعلام الجزائرية حتى لا تخلق حالة من العداء قد يضيع معه الجهد المبذول في الملعب..
كان عليها أن توضح للفيفا أننا دولة ذات سيادة وأننا نطبق القانون على أراضينا. كيف نقبل بوجود مراقب لضمان "التزام مصر باجراءات سلامة البعثة الجزائرية" في الوقت الذي لا نقبل فيه بوجود مراقبين للانتخابات النيابية والرئاسية؟
أين كرامتنا والمفروض أن وزارة الخارجية مسئولة عن الدفاع عنها؟
ألم أقل لكم؟ إنه مايو 1967.

نأتى الآن للطرف الثاني في المعادلة: الجزائر.
لقد عملت مع جزائريين وعَلَمت منهم، وأزعم أنني أحببتهم وأحبونني ووجدت فيهم خيرة الرجال والنسوة. وجدت منهم كذلك تشجيعًا هائلاً لمنتخبنا الوطني عندما كان يلعب مباريات الدورتين الإفريقيتين السابقتين في عامى 2006 و2008، فلا كراهية متأصلة فيهم للاعبي الكرة عندنا ولا صرع يتلبسهم عند رؤية علم مصر.
لقد انقطعت صلتى بهم منذ فترة، فلا أعرف ما هي مشاعرهم وردود أفعالهم، ولكن أجزم أنها تختلف كثيرًا عما صُدمت به في الصحافة الجزائرية وعلى شبكة الانترنت.
أول ما صُدمت به من أفعال الجزائريين كان على شبكة الانترنت، فامتلأت صفحات وأثير برامج الحوار بهجوم سافل على مصر "الفرعونية القبطية" وكأن الصفتين سبة يسبها بها طوارق الصحراء!
سمعت شتائم بل وأغان لم أكن أحلم في أسوأ كوابيسي أن أسمعها من صهاينة بيننا وبينهم ثأر دم –حتى الخليجيون وبينهم وبين مصر ما بيننا لم ينحدروا لهذا المستوى-.
لم تكن هذه أفعال مجموعة من الصبية يلهون ويقضون أوقاتهم أمام شاشات الكمبيوتر لملأ فراغ وقتهم، بل كانت اتجاهًا عامًا غذّته الصحف الجزائرية –على الأقل تلك الصادرة باللغة العربية منها والمتاح لي قراءتها-. صدرت صحف قبل المباراة تتكلم عن استاد الموت ونية المصريين ذبح اللاعبين الجزائريين ومشجعيهم في القاهرة، ونسوا ما فعلوا هم في عنابة وما فعلوه حتى في القاهرة عام 1989، ثم أتبعوا ذلك بتمثيلية حافلة الفريق وتلوها بتقارير وهمية عن "مئات" المصابين الجزائريين الملقون في شوارع القاهرة كما لو كانوا مصابين في حرب أو يعيدون لنا مشاهد قصف غزة. حالة من السعار الإعلامي لم أعرف له مثيلاً ولم أجد له سببًا.

لماذا كل تلك العصبية والقبلية البدوية الظاهرة في تشيع الصحافة الجزائرية لفريقها وكأن شرف كل رجل جزائري وكل امرأة جزائرية مرتبط بفوز الفريق الوطني الجزائري في مباراة لكرة القدم؟
ألم تفكك تلك العصبية والقبلية أوصال ما عول عليه عبد الناصر من قوة العروبة في مايو 1967 فخذلوه ولم يجد منهم نصيرًا؟
ألم تحارب كل جبهة في يونيو 1967 وحدها؟ فانهزم المصريون والسوريون والأردنيون كل على حدة ولو اجتمعوا ونسقوا جهدهم الحربي لما بعد عنهم النصر.
إنه مايو 1967 مرة ثانية وثالثة ورابعة، مرة من الجانب المصري، ومرة من الجانب العروبي –وأقول العروبي وليس العربي لأن عروبة الجزائر وإن كانت أمنية في قلوب الكثير منهم إلا أنها ليست واقعًا-.
يكفي ما رأيته من الأطفال الجزائريين المقيمين مع أسرهم في دبى وهم يشجعون فريقهم. فقد اتشحوا بالعلم وهم يهتفون "ألجيري، ألجيري" وهو النطق الفرنسي لاسم بلدهم الجزائر.
حتى في شبه جزيرة العرب بقيت ألسنة الأطفال الجزائريين تلتوى بالفرنسية فلا عروبة ولا عرب.

رجاء مني إلى الجميع أن أفيقوا قبل أن يلي مايو شهر يونيو وتفاجأوا بنكسة جديدة بين عرب وعرب هذه المرة.
شجعوا الفريق الأفضل ليصل إلى كأس العالم، فهو سيمثلكم جميعًا سواء رفع ألوان علم مصر أو الجزائر.

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ١ تعليق