CET 00:00:00 - 19/11/2009

مساحة رأي

بقلم: فرانسوا باسيلي
في يونية ٢٠٠٦ خلال مباريات كأس العالم التي جرت في ألمانيا نشرتُ مقالاً أحاول فيه تفسير ظاهرة الجنون الكروي في العالم، أجد من المفيد إستعادة دروسه ونحن نعيش حالةً تقترب من حالة الحرب بين مصر و الجزائر للوصول إلى المونديال.

ما الذي يجعل لعبة كرة القدم تحظى بذلك الهيام الجنوني من كافة شعوب الأرض وبدرجة تجعل هذه الشعوب تُنحي كل شئ جانبًا لمتابعة مباريات كأس العالم، بالإضافة إلى مباريات انديتها المحلية؟
لكل ظاهرة طبيعية أو انسانية أو اجتماعية أسبابها،  فما هيّ أسباب القوة السحرية للظاهرة الكروية؟ وكيف إستطاعت البشرية التي لم تجمع على شئ آخر في تاريخها – فهيّ لم تجمع على دين ولا مذهب سياسي ولا نظام إقتصادي ولا لغة ولا ثقافة ولا مبدأ ولا أى شيء آخر واحد وحيد- أن تجمع على العشق الجنوني لهذه اللعبه الفريدة؟

إن لعبة كرة القدم مسألة بالغة الجدية، وهي ليست "لعب عيال" بالتعبير المصري، ولذلك تستحق منا أن نقوم بدراستها دراسة مقارنة محللة ل اتقل عن دراستنا المقارنة للأديان أو المذاهب السياسية والإقتصادية، أو للظواهر الطبيعية والأعراض النفسية.
إن أي أمر يشغل الجماعة الإنسانية بهذا القدر ويأخذ منها كل هذا الوقت والإهتمام والإستثمار والمناقشة والحزن والفرح (بل والهوس الجماعي) يستحق أن نفهمه ونستوعب أسبابه وخصائصه لكي نفهم -عن طريقه- أنفسنا وطبيعتنا البشرية بشكل أعمق وأكمل.

العدل في الأرض

يكمن السر الفلسفي الأساسي في هيام البشر بلعبة (كرة القدم) أنها تحقق للبشرية حلمها الإنساني القديم في تحقيق العدل المطلق على الأرض، فالإنسان بكل عبقرية إنجازاته الحضارية حتى اليوم لم يستطع أن يحقق العدالة الكاملة المطلقة في أي مجتمع بشري، فرغم الأديان والمبادئ والقيم والقوانين المختلفة التي تطمح إلى تحقيق أقصى درجة من العدالة في الأرض تظل
قوى مناوئة كثيرة تمنع ذلك، إذ يظل الغني والقوي في معظم الأحيان فوق العدل وخا رج القانون، وتظل السرقة والبلطجة والعنف والجريمة والخديعة والمحسوبية والرشوة والجبن والخسة  تعمل جميعها على النيل من سلطة العدالة وتمنع تحقيق حلمها النبيل على الأرض.

أما في لعبة كرة القدم فيجلس عشرات الألوف من البشر في مدرجات ملعب مكشوف، ويتابع الملايين الآخرين على شاشات التلفزيون، لعبة محكومة بمنظومة علنية من المبادئ والقواعد والقوانين متفق عليها من الجميع، يخضع لها جميع اللاعبين بنفس الدرجة وبنفس القياس، وتطبق فيها القوانين بشكل مكشوف وبصرامة لا ترحم، وينزل فيها الثواب والعقاب في نفس لحظة الفعل وليس بعده بسنوات وسنوات، ويكون فيها الفوز للأصلح فقط(للكفاءة والتفوق والمهارة والإجتهاد فقط)، فهنا لا تنفع محسوبية ولا تجدي واسطة، ولا تنفع القرب لأميرأو لوزير.

فاللاعب الماهر يفوز ولو كان ابن غفير فقير، واللاعب السيء يخسر ولو كان ابن ملك، فهنا تنتفي كل العوامل التي تفرق تفريقًا ظالمًا بين البشر، وتسقط القوة والسلطان والنفوذ وتصبح بلا قيمة ولا جدوى، ونجد أمامنا حالة إنسانية فريدة باهرة تنتصر فيها الكفاءة وحدها، ويتحقق العدل على الأرض بشكل مطلق نقي مجرد من الشوائب والمثالب.

الإنسانية المثالية

بجانب تحقيق لعبة كرة القدم للعدل في الأرض، توحد اللعبة بين الإنسانية جمعاء في إطار واحد من المثالية التي تلغي كافة العوامل التي تفرق بين البشر، من أيدلوجيات ومعتقدات ومذاهب وأديان.
ففي ساحة الملعب يقف -أو يجري- الجميع على قدم المساواة المطلقة، فالملعب لا يعرف مسيحيًا ولا يهوديًا ولا مسلمًا ولا بوذيًا ولا ملحدًا، الجميع سواسية أمام العدالة الكروية المطلقة.
وكرة القدم لعبة لاتتدخل فيها الآلهة، وقد يصلي اللاعب قبل المباراة عشرات المرات، ويسجد مئات الركعات ويقدم الغالي والثمين من المحرقات والقرابين، فتذهب كلها دون جدوى أمام الألهة التي هي أحكم وأعظم من أن تتدخل لصالح هذا اللاعب أو خصمه لمجرد انه يحاول رشوتها بركعتين هنا أو قرابين هناك.

وليرسم اللاعب على وجهه علامة الصليب كما يحلو له فلن يجديه هذا شيئًا، فنحن أمام نظام كروي صارم العدالة بالغ الكمال ورفيع المثال، لا تجدي معه محاولات الإنسان البائسة في رشوة السماء بالصلوات أو الأدعية لتتدخل لصالحه فتعفيه من تبعات العمل الشاق والإجتهاد الدائب المتصل الذي هو وحده طريقه للنجاح والفوز.

وهكذا يأتي البشر أفرادًا وفرقًا وجماعات من دول إسلامية أو عبرية أو فارسية أو عربية أو لاتينية، ديمقراطية أو ديكتاتورية، علمانية أو دينية، رأسمالية أو إشتراكية أو إقطاعية، فإذا بكل مذاهبهم وأيديولوجياتهم وعقائدهم تتساقط عنهم ليقفوا في النهاية عرايا إلا من فانلاتهم الملونة على أرض ملعب ل اتجدى فيه مذاهبهم شيئًا.
فهنا يقف الإنسان إنسانًا مجردًا، إنسانًا مطلقًا كاملاً، فريدًا، وحيدًا ، فتتحقق له إنسانيته المطلقة الممثلة فيما يقدمه هو كإنسان وكموهبة، وليس كوعاء ديني أو مذهبي أو سياسي، حتى حين يموت الإنسان  يموت مسربلا بأرديته الدينية والإجتماعية والطبقية التي لا تتخلى عنه ولا تعتقه منها حتى في موته.
فقط حين يلعب كرة القدم يتجرد من قبيلته ودرجات طبقته ومراسم ثقافته ويقف إنسانًا حرًا كاملاً متساويًا مع كل إنسان آخر مع كل لاعب وكل متفرج آخر في طقس كروي مثير تتجلى فيه كما لا تتجلى في أي طقس آخر إنسانيته المثالية الحرة الفريدة.

العولمة المحبوبة

إختلف البشر حول مفهوم العولمة الإقتصادية والسياسية فدافع عنها البعض وهاجمها الآخر، وتخوف منها آخرون، وإتهموا مروجيها بالدوافع الإستعمارية العدوانية وخشوا معها فقدان هويتهم وذواتهم إلا في لعبة كرة القدم، فقد حققت الكرة فلسفة العولمة في كامل أبعادها ولم يعترض عليها أحد ولم يشكك فيها أحد، وتدافعت دول العالم حكومات وشعوبًا ترغب الدخول في العولمة الكروية بكاملها دون تعديل يلائم طبيعتها المحلية.
أقبل الجميع مثقفين وأميين، أغنياء وفقراء، أذكياء وبسطاء.. على هذه العولمة الكروية المدهشة فدخلوا فيها أفواجًا دون تردد أو تخوف أو تشكك، فأثبتوا بذلك وحدة الموهبة البشرية وإمكانية النظام الإنساني الواحد.
فلم يقل أحد أن نظام الجزاء الكروي قد يناسب ألمانيًا ولايناسب أنجوليًا
 وهاهو النظام الكروي العالمي الجديد يقدم لنا مفهومًا متحررًا للمواطنة والإنتماء، فإذا بنا نشاهد الفريق السويدي يلعب بحارس مرمى من أصل مصري أسمه "رامي شعبان" وإذا به يصد كرة خطيرة كانت تهدد مرماه السويدي فيهتف له الجمهورالسويدي الحاشد ملوحًا بالأعلام السويدية صارخين: رامى .. رامى! رامى.. رامى!!

وهكذا نجد الفرق العربية والأوروبية واللاتينية تستعين بلاعبين ومدربين من دول آخرى تختلف في الدين والشكل واللغة والثقافة، ولكن تنتمى مثلهم للنظام الكروي العالمي الواحد للعولمة الكروية التي حطمت الحدود وأذابت الفروق الشوفينية ومحت الإختلافات الجنسية والقطرية وأدخلت الجميع في عولمة إنسانية شاملة.

السلام والجما ل

بجانب تحقيق العدالة والمساواة على أرض الملعب الكروي ومايثيره هذا من أشواق الجمهور في رؤية نفس هذا العدل المطلوب والمساواة الكاملة تتحقق في حياتهم على الأرض، تحقق لنا كرة القدم أحلام الإنسان الأخرى في السلام والجمال، ففي كأس العالم 2006 بألمانيا رأينا فريق ساحل العاج يحقق على أرض الملعب وحدة وطنية لا تعرفها بلاده التي تعاني من حرب أهلية رهيبة تسيطر فيها الحكومة على نصف البلاد ويسيطر المتمردون على النصف الآخر.

ولكن أمام سطوة كرة القدم ومثاليتها الشاهقة وتبشيرها بروح إنسانية أجمل وأنبل، نجد ساحل العاج يتوحد بشطريه المتحاربين في مساندة فريقه الدولي، فيكف عن القتال لفترة تسمح للفريق بالتجمع من أطراف البلاد للتدريب، وتسمح للجميع بالإستمتاع بمشاهدة الحدث الدولي الأرفع، فيتحقق بذلك السلام المفتقد فتقدم كرة القدم النموذج الأجمل للصراع الحضاري السلمي والمنافسة الشريفة الحرة التي تخلو من أساليب العنف والبطش والحروب.

كما تقدم الكرة لعشاقها جرعة من الجمال البديع الذي يثيره الإبداع الفني في لعب كرة القدم من خطط الدفاع والهجوم إلى القدرات والمهارات الفنية الفردية، إلى اللعب الجماعي وعمل الفريق، إلى الجماليات التشكيلية لحركة الفريقين، إلى فنون المراوغة والترقيص والسبق والتسديد والصد والرد والتحكم في الكرة وفي الجسد وضبط الإيقاع وتسخيرالقدرات البشرية للقوانين الطبيعية للسرعة وللوقت..عملا بمبادئ علم التوقيت والتحرك الذي درسناه في هندسة القاهرة على يد عالمنا الجليل المهندس الدكتور حسن فهمى - وهو العلم، والفن- الذي ورثته عنه ابنته المبدعة فريدة فهمي الراقصة الأولى لفرقة رضا للفنون الشعبية في ستينات مصر الذهبية.

 وهكذا نجد الجمال في كل شيء على الأرض، في العلم وفي الفن وفي كرة القدم، فإذا كانت العلوم والفنون هي مجالات إشباع الرغبة فيالجمال لدى الخاصة والمتعلمين، فإن كرة القدم هي مجال إشباع التوق إلى الجمال لدى عامة البشر أجمعين .

لقد إستطاعت كرة القدم أن تحقق السلام والجمال على الأرض، ففي منظومة الأخلاق الكروية لا توجد دار حرب ودار سلام، ولا يوجد مؤمنون وكفار، ولا يوجد أنصار إسلام ولاأعداء الله، ول ايوجد وطنيون وعملاء خونة، ولا يهبط فرد إلى أرض الملعب فيستحوذ عليها لسنوات طوال ثم يورثها لإبنه من بعده، ول ايستغل غوغائي الدين في ترهيب البسطاء وترويع الأبرياء، ولا يستغل غني ماله ولا قوى نفوذه للحصول على ماليس من حقه.

إن جنة النصر في عالم كرة القدم ل ايدخلها الذين يحاولون رشوة السماء بالدعاء ولاالهاربون من أعباء التدريب الشاق منفقين أوقاتهم في التقرب إلى آلهة الكرة من أعضاء الفيفا بتقديم إبتهالات المديح أو رشوتهم بالمال -كما حاول بعض المسئولين في مصر- فعاقبتهم آلهة الكرة العادلة بمنحهم صفرًا كاملاً وطردهم من جنة الحالمين بتنظيم الدورات العالمية التي لا يدخلها سوى المجتهدون بالعرق والموهبة.
وكم في كرة القدم من دروس للحكومات والشعوب والأفراد.

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ١ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق