CET 00:00:00 - 21/11/2009

مساحة رأي

بقلم: محمد زيان
انتهى الوقت المخصص للعمل وبدأ يلملم أوراقه استعدادًا لمغادرة المكان، سارعَ في إرسال الأوراق المتناثرة فوق المكتب إلى الحقيبة التي ابتلعتها جميعًا.. أغلقها بسرعة وانتفض من على كرسيه مندفعًا إلى خارج صالة التحرير التي قذفته إلى الشارع سريعًا فقد غادر سريعًا خوفًا من زحام الشوارع وقت المبارة (الوقت ينتهي كالشمعة) والباقي من الزمن ساعة ونصف على المباراة.
وما إن خرجَ إلى الشارع حتى ازدحمت الأصوات في أذناه، تكاثرت الضوضاء عند حدود مسامعه بين صوت سيارة ومكبرات الصوت المتراصة في الشوارع، وقرع الطبول التي انسابت بأعداد كبيرة بين أيدي الشباب تعلوها أعلام مصر المتناثرة فوق الرؤوس والمختلطة بالأجسام فلا تميز بين الجلد والرسم الطبوع على وجوه المصريين المندفعين إلى الشوارع وكأنما لفظتهم البيوت لفظًا ويسيرون أسرابًا فلا تستطيع المرور إلا بعد أن ينتقلوا من مكان إلى مكان آخر.

مرَّ بين هذا السرب وذاك، وتبدو الطرق مزدحمة بالناس كمشهد يوم الحشر فَرحين مُهللين وكأن على رؤوسهم الغربان ينتظرون نتيجة الماتش وقد قدموا ما قدموا من العمل الصالح المتمثل في (الطبول وشراء الأعلام المصرية، وتلوين الوجوه والرقص والتنطيط في الشوارع، وعمل دوائر بالسيارات، واصطحاب النساء والبنات، وضجيج وعلامات لا تنتهى من الزحام، وتعطيل الطرق وحشر الممرات بسماعات كبيرة، وإطلاق العنان للصوت العالي لإزعاج المواطنين).
أعجبه الضجيج والتجمعات التي تقرع الطبول وتمارس الرقص، ما وجدت إلى ذلك سبيلاً لدرجة أن العائدين إلى منازلهم مثله كادوا لا يرجعون وقضوا فترة طويلة مبهورين يهذا المشهد الراقص على نغمات الأسعار المرتفعة وطوابير البطالة الممتدة من بدايات الشارع إلى نهايات شوارع كثيرة من شوارع مصر التي لا تحصى، وطوابير الخبز الممتدة من الروح إلى السماء، والمياة الملوثة التي كادت أعينهم تفيض من الدمع حزنًا على الإصابة بالتيفود عند الكثيرين في القليوبية.
حاول المرور بين أكوام المصريين الملونين بالأحمر والأبيض والأسود، وفجأة انطلقت سيارة تشق الأجسام المبعثرة في الشارع فإصطدمت بجسد منه ألقته على الأرض قتيلاً، انقسم الناس إلى من يدقون الطبول وآخرين يمارسون هواية طلب النجدة والإسعاف على التوالي .. الهواتف كثيرة والكل يتعجل الشرطة والنجدة.
وفي المقابل هناك من يمارسون الطبل والأغاني والذين انشغلوا بتكسير السيارة التي صدمت القتيل وقد انهالوا عليه من الضرب والفتيات يُمارسن هواية الصراخ المعهودة حتى انتزعوه من بين أحضان السيارة التي احتمى بها وقد خبأ فيها كل جسده.

انسحب من مشهد القتل والضرب والصراخ، وبدأ يسير في الطريق حتى بَدت ملامح مشهد تحرش تبدو في الأفق مجموعة فتيات يسيران في الطريق في الميدان الفسيح وقد لاحقتهم أعين وألسنة وأيدي عدد مماثل من الشباب الذي أراد أن يرقص ويغني ويهتف للمنتخب على حدود أجسادهن.
وفوق تضاريسه تنطلق الإستغاثات وتبدو شهامة أولاد البلد هي الواقع فيضربون ويجبرون على الرجوع من خلفهن، مع تعدد المشاهد والمواقف بين رجل يطلب من التاكسي أن يكون رؤوفًا في طلب الأجرة وخناقات كثيرة واستجابات من السيارات لتوجيهات ضباط المرور، حتى تنشق الأرض عن عدد كبير من عساكر الشرطة ظهروا وفقًا لتوجيهات الضابط وقد أحاطوا بالمشهد الصاخب الباحث عن التشجيع والقارع للطبول والساهر حتى مطلع الفجر يدعون ربهم أن يفوز المنتخب وكأنهم في ليلة القدر!
تَلونت الأرض مع هذا المشهد المتعدد الأوجه -والذي يجمع فن الشحاذة والتحرش والضرب والقتل والعراك والصياح والتمدد خلف لقمة العيش والبكاء على الأطلال- بألوان عديدة وبدأت الجموع تزداد رويدًا رويدًا حتى قرر العودة إلى العمل لصياغة هذه المشاهد المتوافقة والمتناقضة، المتضاربة والمختلفة، المتصارعة والمؤتلفة، المركبة والمعقدة والبسيطة.

قرر أن يصوغها في قالب يكشف عن كم التناقض الغريب الذي تورم داخل بطون هذا الوطن الباكي على لقمة عيشه ومستوى دخله، وطنيته المُزايد عليها والقابلة للتحايُل عليها بطرق عديدة، التنمية المتهالكة، صناعته التي ما عادت تزن مثقال حبة من خردل، تجارته التي بَارت، عنصره البشري الذي فَقد قوته على أنقاض المباراة، مصانعه وشركاته التي عشش فيها الفساد وأبنائه التائهين في حلم ليل عسير لم يصلوا لأحلامهم وطموحاتهم ولم يعترفوا بالفشل ..
يُكابرون مثل المسيخ الدجال وفقدوا (الهدف، عرباتهم، اتجاهاتهم، منابرهم ومذابحهم التي فقدوها عند بدايات المباراة، وعيدهم الآتي مثل الخريف يأكل الأخضر وتتساقط فيها الأوراق).
وبعد أن عاد ليكتب ما شاهده ورصدَ (ما درار في المباراة) إذ المنتخب قد هُزم والملايين التي أنفقت من قوت الشعب على الدعاية الإعلامية قد ذهبت أدراج الرياح ولم تعد مع قمح السودان الذي احتضن كل الوطن بلاعبيه ومشجعيه، وقد كانت هزيمة السودان مشهدًا من مشاهد الهزائم المتكررة التي عمت على البلاد وغطت رؤوس العباد منها ما هو إقتصادي، سياسي، إجتماعي "كتحلل القيم واختفائها".
وذهبت الأموال التي أنفقت على الحشد الإعلامي والجماهيري في خبر كان، كذلك الأموال التي تسلمها كل لاعب جراء تشغيل قدمه لتبتكر للأمة أحدث وسائل التقدم وأرقى الأسلحة التي تَدُك المستقبل.

مَن يَُعمِل عقله لدقيقة في العلاقة بين الكرة والتقدم يجد أنه ما عليك إلا أن تَطلق لقدمك العنان لكي تفكر وتفكر وتُبدع لتخترع للإنسانسة العلوم والتقنيات والحضارة، فقد أصبحت حضارة أمة من الأمم تقاس بمدى تقدمها في علم الكرة على المذهب المصري، ولم نسمع مثلاً عن مثل هذا الإهتمام بالكرة في كوريا، الصين، اليابان، الولايات المتحدة، أو حتى في اسرائيل، وبالتالي تجد اللاعب كل مؤهلاته هي القدم (عندما يُحسن تشغيلها يكسب الملايين) وعلى المقابل تجد الطبيب، المهندس، عالم الكيمياء، والمبدعون في العلوم والتكنولوجيا وقد لا يعرفهم أحد وأمكانهم متواضعة رغم أنهم  قاطرة الرقي والتقدم في المجتمع.
فإذا سرت في الشارع وبجوارك "عمرو زكى" بحراسته طبعًا وعدد رهيب من البودي جاردات، وفي نفس المشهد الدكتور "فاروق الباز"  فهل ستعرف فاروق الباز في إشارة مرور مثلاً؟؟ ومَنْ منهم ستبدو عليه علامات الأهمية؟؟، ومَنْ منهم سيتصارع عنده جيش من الناس يرغب في السلام والتصوير معه؟؟، وهل يعرف أبنائنا أو نحن كل رؤساء الجامعات المصرية مثلاً؟؟
ولنا أن نتخيل أيضًا أن دار الأوبرا أقامت حفلاً وأنت مدعوا إليه، به الوزراء ورجال الدولة ولاعبي الكرة، تُرى من سَنتعرف عليه بسرعة ومن سَتذهب إليهم الأضواء؟؟ 
يكفي أن نختم هذه السطور بهذه التساؤلات ولك أن تجيب وتفهم.

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق