بقلم: د. ماجد عزت إسرائيل
وُلد يوسف اسكندر في 20 من سبتمبر سنة 1919م في أحد مساكن عمال السكة الحديد، بالقرب من شارع البحر وكوبري مدينة طلخا؛ الذي يربط ذات المدينة في الناحية الغربية بالمنصورة (الدقهلية )، وهي التي تقع على الضفة الشرقية لنهر النيل (فرع دمياط )، وتبلغ مساحتها نحو 371كم مربع، وهي ثاني أكبر مدن الدلتا بعد مدينة المحلة الكبرى (محافظة الغربية)، ويقترب عدد سكانها من خمس ملايين نسمه؛ وتبعد نحو 120 كم عن مدينة القاهرة عاصمة مصر.
وشاء القدر أن يولد صاحبنا في هذا الموقع بالذات في ظروف أزمة دولية وهي انتهاء الحرب العالمية الأولى(1914- 1918م)، ومطالبة مصر لإنجلترا باستقلالها فوعدتها بذلك عقب انتهاء الحرب، ولكنها كعادتها تنكرت لسفر الوفد إلى باريس (عاصمة فرنسا) سنة 1919م؛ مما ساهم في قيام ثورة 9 مارس 1919م، و لجأت انجلترا إلى استخدام أسلوب التهدئة بالسماح للوفد بالسفر إلى باريس لحضور مؤتمر "فرساي1919"؛ الذي جاءت قراراته ضد السيادة المصرية لاعترافه بالاحتلال البريطاني لمصر.
على أية حال، فقد وُلد يوسف اسكندر لأسرة فقيرة شأنها شأن السواد الأعظم من المصريين عندئذ، كان والده عاملاً بالسكة الحديد يشغل أدنى درجات السلم الوظيفي الخاص بالعمال، في وقت كان فيه العاملون بالسكة الحديد ينقسمون إلى شريحة ضئيلة العد من الموظفين، وقاعدة عريضة من العمال، وكان العاملون بها كثيرون التنقل والحراك من منطقة إلى أخرى حسب طبيعة واحتياج العمل ومعهم أسرهم، ووفرت لهم هيئة السكك الحديدية مساكن خاص بهم، ومنحت أولادهم اشتراكات مجانية للتنقل بالقطارات، كما سهلت عليهم حركة التنقل بين المدارس، ولذا نلاحظ أن الغالبية العظمى من أبناء عمال السكك الحديدية كانوا يقضون تعليمهم بأكثر من مدرسة.
أما أم صاحبنا، فهي ربة منزل متدينة بصورة لا يصدقها عقل، استطاعت أن تراعى الأسرة بأمانة، وان تسهم في تعليم خمسة منها بالجامعة، بالرغم من تعرضها لمرض عضال (فالج) (شلل نصفي) دام معها أكثر من سبع سنوات، ولم تتوقف الأم عن الصلاة، ولا تنطق إلا بكلمة (كيرياليصون) ومعناها (يارب ارحم)؛ وكانت ترددها طوال ساعات النهار والليل؛ وظلت تمارس صلاتها يوميًا حتى تنيحت (توفيت) في سنة 1934م، وكان صاحبنا في عمر الخمس عشر عامًا.
والأسرة بصفة عامة ارتبطت برباط المحبة المتبادل الذي يعتبر أساس المسيحية، فالأب يحترم الأم وظهر ذلك عندما كانت مريضه، فكان يخدمها أحيانًا أو يحملها على ذراعية ليجلسها في مكان أفضل يريحها، أو يحملها إلى سطح المنزل لتغير المناظر وتروّح عن نفسها بالهواء والشمس والزهور التي تبث البهجة لديها، أما الأولاد فكانوا يجلسون معًا في محبة في بعض المناسبات وينصتون إلى نصائح الوالدين في اتضاع، وتحملت الأخت الكبرى "لبيبة" مسؤولية خدمة الأسرة منذ مرض الوالدة، وكان صاحبنا صاحب الجانب الأكبر لأنه الأصغر.
وفي إحدى مدارس المنصورة الابتدائية التحق الطفل يوسف اسكندر بها؛ وكان طفلاً محرومًا من كماليات الحياة فلا يملك مصروفًا أبدًا ولا أي شيء من لعب أو ملابس خاصة أو أطعمة، لدرجة أنه كان يمضي الفسحة المدرسية بالفصل دون اللعب مع زملائه، لا يملك مالاً ليشتري مثلهم، وحتى ولو عزم عليه أحد أصدقائه ببعض الحلويات والسندوتشات كان رافضًا.. راضيًا بالفقر الاختياري.
ومع انتفاضة الشعب المصري في عام 1935م للعودة إلى دستور 1923م وبداية الإعداد لمعاهدة 1936م، حدثت عدة تنقلات بهيئة السكك الحديدية، نُقل والد "يوسف" إلى السويس ثم إلى الإسكندرية، وقضى بينهما مرحلة التعليم الإعدادي (الكفاءة)، وبعدها انتقل الأب "اسكندر" إلى منوف؛ فالتحق الابن "يوسف" بمدرسة شبين الكوم الثانوية، وكان السفر يوميًا ما بين منوف وشبين الكوم بالقطار فرصة لتعرف صاحبنا على مجموعة من الأصدقاء يدور بينهما حلقات ومناقشات ومساجلات علمية كان لها الأثر الأكبر في حياته بعد ذلك.
وشاء القدر أن يلتحق "يوسف اسكندر" بالجامعة المصرية، بكلية الصيدلية في الفترة ما بين (1938-1944م)، وهي ذات الفترة التي شهدت أزمة دولية اشتعلت خلالها الحرب العالمية الثانية (1939-1945م)؛ اتخذ صاحبنا من منيل الروضة (محافظة الجيزة) مسكنًا متواضعًا له في حارة قرب النيل، وبلغت نفقاته الشهرية خمسة جنيهات شاملة أجرة السكن والكتب وأكل الشهر، ولم يكن يتبقَ لديه مليمًا واحدًا؛ فكان عليه أن يوازن ما بين إيراداته (ما يتحصل عليه من أبيه) ومصروفاته.
وخلال فترة الدراسة الجامعة بدأ اتصال صاحبنا بـ"مدارس الأحد" بإحدى كنائس محافظة الجيزة، فتقابل "يوسف" بمجموعة من الأصدقاء؛ نذكر منهم "عوض باسيليوس" صيدلي بالإسكندرية، و"سعد عزيز" (الأنبا صموئيل)، و"ظريف عبد الله" (القمص بولس بولس)، و"وهيب زكي" (القمص صليب سوريال )، وزادت علاقته بهم من خلال السهرات الروحية والصلاة التي كانت تُعقد بمنزل "سعد عزيز"، وكانت هذه المرحلة بداية للتكوين الروحي، ومنها دعاه الرب لخدمة كبرى.
على أية حال، عاش يوسف اسكندر خلال ذات الفترة؛ عفيفًا مسالمًا محبًا لجميع الفئات دون تفرقة، ففي مسكنه بالمنيل بالجيزة كان عفيفًا، فكثير ما تحدث الجيران عن أخلاقه وأمانته وعفته، وأنه ليس مثل الشباب القاطنين نفس السكن أو المجاور له، وكان صاحبنا محبًا للجميع دون تفرقة لأنه أدرك أن العالم يعاني من صراع العقائد الديني (الطوائف المسيحية) كما تعاني الأحزاب السياسية؛ والتي من خلالها اكتشف أن عتمة العقول وضيقها وانحسارها في أفق شخصي ورؤيا ضيقة وراء تراجع كنيستنا القبطية، وأدرك "يوسف" أنه لا فرق بين العلم والسياسية والدين، فالكل يحتاج إلى قائد أمين منفتح وحر ليقود شعبه، كما أن صاحبنا كان على علاقة ود بالمسلمين وهي العلاقة التي جعلته موضع تساؤل مستمر من المسيحيين.
وكان يوسف اسكندر محبًا لاحترام الأوامر والقوانين الحكومية، وظهر ذلك بعد تخرجه في الجامعة سنة 1944م حيث قبل تنفيذ الأوامر العسكرية بتعيينه بالقرب من حدود السودان بمدينة (الدار)، ولطاعته تم تعيينه في مستشفى "الملك" بجوار القصر العيني، وكان راتبه الشهري 12 جنيهًا، وبعدها عمل بإحدى صيدليات الإسكندرية، ثم أنشأ صاحبنا صيدلية مستقلة بمدينة دمنهور (البحيرة).
وبين عشية وضحاها ذاعت شهرة هذه الصيدلية –صيدلية الدكتور يوسف– لدرجة أنها احتلت المركز الأول بعد أن كانت في المركز الأخير، ومن خلالها ظهر لدى صاحبنا حبه للمساكين من خلال مساعدة البعض بالاحتياجات العينية والمادية، أما محدودي الدخل فكان يمنحهم القروض الحسنة (بدون فوائد) بين (10-20) جنيهًا يسددونها على أقساط شهرية وخاصة في أثناء دخول المدارس، وتمتع صاحبنا بشعبية ومحبة الجميع من مسيحيين ومسلمين، لدرجة أنهم حاولوا أن يثنوه عن فكرة الرهبنة في عام 1948م. |