CET 00:00:00 - 26/11/2009

مساحة رأي

بقلم: أنطوني ويلسون
اولا: في مصر
(ذكريات.. العمر اللي فات، هي محطة استراحة فكرية، انزل فيها من قطار الحاضر محاولاً الاسترخاء والتجوال في شوارع وحارات ومدن وحدائق حياتي.. اثناء تجوالي أحكي للقاريء حكاية من هنا او من هناك، اربطها بحكاية اخرى او حكايات، ان اقتضي الامر العودة الى قطار الحاضر. سأفعل ذلك لاستمرارية التفاعل مع الحاضر، الذي سيصبح يوماً.. ذكريات العمر اللي فات).
دعونا الآن نكمل الحكاية..
مرّ اول يوم عمل بسلام ووضع كل شيء في مكانه كما يجب، وكان سكني الأول في شقة في الطابق الثاني لعمارة في حارة مع الاستاذ عادل سكرتير المفتش ومعنا احد الصيارفة، اول مفاجأة في السكن السرير الذي سأنام «عليه».. مصنوع من «جريد» النخل. وعرفت السبب حتى لا تتسلق «العقارب» عليه.

في اليوم التالي خرجت متكلاً على الله ذاهبا الى عملي، مررت في طريقي وقرب سكني بمحل «خضروات وفاكهة» كبير ونظيف. حدّثت نفسي ان اقف واشتري نصف «اوقة» بطاطس، لأقوم بطهوها عند عودتي بعد العمل. جاءني شاب لا يتجاوز الثامنة عشرة من عمره هاشا باشا، وقبل ان افتح فمي بما اطلب، عرف انني غريب عن الحي.. طمأنت فراسته وصدق احساسه وتفكيره. ارتاح لي وسألني عن مطلبي. بعدما أخبرته بما أريد.. عاد وسألني عن حالتي الاجتماعية.. هل انا متزوج؟.. أجبته بالنفي.. هل اعيش مع اسرتي والدي ووالدتي مثلا؟.. فقلت له لا.. فعاد وسألني هل سبق لي القيام بطهو طعامي؟ فأجبته انني لم اطه طعاما في حياتي، ولم اتغرب عن بيتي.. بيت العائلة قبل ذلك. حََدجني بنظرة استغراب. صمت برهة ثم قال لي.. هل عندك مانع ان تطهو لك زوجتي طعامك كل يوم؟. نظرت اليه نظرت انكار لأن يكون مثل هذا»العيل» متزوجاً. فأمثاله في القاهرة ما زالوا يأخذون مصروفهم من والديهم.
اعتقد المسكين ان نظرتي قائمة على شكر وامتنان وعدم رغبتي في اضافة مسؤولية على زوجته الى جانب مسؤولياتها.. فقال.. «ما تعتلش هم احنا نخدمك بعينينا.. باين على حضرتك طيب وابن ناس. اخجلني كلامه فوافقت.
الفترة التي قضيتها في قنا والتي تجاوزت الثلاث سنوات فترة اعتز بها. لأنها هي فترة انصهار في بوتقة الحياة. كانت القراءة هي كل شاغلي اتلقى منها المعرفة والعلم. اما العمل في قنا فكان بمثابة الجامعة التي حُرمت منها فوجدتها بكلياتها المختلفة النظري منها والعملي والتاريخي والفلسفي في جامعة الحياة في قنا.

تعلمت كيف اتكلم مع الناس.. تعلمت ان من يعمل من اجل الناس،  يحًظ دائما بمحبة الناس. تعلمت وتعلمت الكثير. اصبحت مديرية قنا بكل مكاتبها المنتشرة في مراكز قنا تخضع لنا نحن الثلاثة (عادل ابو راضي وأديب بنيامين وانا). كان من حقي كرئيس لمكتب بطاقات مركز قنا استخدام سيارة الشرطة، «المخصصة للمفتش» وسائقها برتبة «شاويش» للذهاب ال جميع قرى مركز قنا، وكثيرا ما كنا نتعدى هذا الخط والذهاب الى مراكز اخرى من مديرية قنا. كنا لا نقضي ليلة الجمعة ولا ليلة السبت في بيوتنا. اتسعت دائرة المعرفة واخذت انهل منها لأعوض ما فاتني من تعليم جامعي. زد على ذلك معرفة أديب بمديرية قنا، اعطانا الفرصة للتوجه الى اي مكان، وبسيارة الشرطة وذكرياتي كثيرة وجميلة ومحفورة في قلبي ووجداني.

اتذكر اليوم الذي دخل فيه علينا رجل لم انتبه اليه لانشغالي في العمل. لكن سمعته يوجه حديثه الى زميل مساعد لي ويقول له «عندما تعرفون كيف تحترمون الناس، عندها اعملوا في الوظائف الحكومية. نطق ذلك وترك المكتب غاضبا. فجأة وجدت الزميل اديب يقف ويصرخ في وجه الموظف «القناوى ايضاً» ويقول له.. الا تعرف من يكون هذا الرجل؟ انه اقوى شخصية في قنا كلها.. لم يكمل حديثه وجرى خارج المكتب يبحث عنه.. خرجت وراءه ابحث عنه ايضا.. لكنه اختفى، لم نعثر له على اثر، ولا حتى في مكتب سيارات ابوالوفا «دنقل» وهي من اكبر شركات سيارات «الباصات» في قنا ويمتلكها شقيق الرجل الذي خرجنا نبحث عنه وهو عمدة قرية «سامحوني» اذا كنت نسيت اسم الرجل وأسم القرية على الرغم من احترامي الشديد له كما سيأتي الحديث عنه».. اثار ذلك سخط أديب.. لفت انتباهي اهتمام أديب بهذا الرجل. فبيّت النية على التعرف عليه.. جاءتني الفرصة عندما وصلت بطاقات اهل قريته.

عادة عندما نذهب الى اي قرية، نرسل اشارة الى العمدة لاستقبالنا، اما مع هذا العمدة فلم أفعل ذلك، بل توجهت الى العمدة ومعي أديب وعادل ابو راضي «سكرتير المفتش» والساعي عبد السلام المعين معي.. والحق يقال انني كنت اثق بهذا الرجل ثقة عمياء، لانه بالفعل اهل ثقة .القرية «التي نسيت اسمها تماما» تلي قرية «قفط». وقفت السيارة امام دار العمدة.. وطبيعي كان خبر توجهنا اليه قد بلغه قبل وصولنا وكان في انتظارنا. تقدم الى باب السيارة الخلفي وفتحه بنفسه وفوجئ بي.. مد يده مصافحا مساعدا لي على النزول من السيارة وهو يقول لي.. لقد غلبتني.. مجيئك هذا ألغي كل شيء.. رددت عليه قائلا.. من لا يعرفك يجهلك، واعتذرت نيابة عن الزميل.. قال أهلا وسهلا بك وبمن معك.. شق طريقه بين أهل القرية ممسكا بيدي وتبعنا الزملاء  ومن كان معي.
الغريب انه على الرغم من تواجد هذا العدد الهائل من أهل القرية، الا ان الهدوء التام كان يسود المكان. ومنذ ذلك اليوم وطوال فترة وجودي في قنا، كان الرجل وداره ملاذي عندما تضيق نفسي.. شخصية قوية ويعتبر دائرة معارف في العديد من أمور الدين والدنيا.
شيء آخر اتذكره، انني في  كثير من الاحيان كنت اشعر بضيق وحنين الى رؤية عائلتي في القاهرة، اجد نفسي متوجها الى محطة قطار قنا بعد ان اخبر أديب او عادل انني مسافر وعليهما الاهتمام بالعمل.

في احدى هذه المرات كنت عائدا من القاهرة، وعلى رصيف محطة قنا وقعت عيني على الشاويش محمد سائق السيارة. ظننت انه جاء لتوصيلي الى المنزل. لكنه غمز لي بعينه مشيرا الى المفتش الواقف مع زوجته.. عرفت السيناريو.. رأني المفتش الذي بادرني بالسؤال.. الى اين انت ذاهب؟. ضحكت وقلت له الى مصر «القاهرة». ردّ علي.. هكذا وبدون اجازة! قلت له وماذا تريدني ان افعل؟ حضرتك لا توافق على منحي اجازة.. وانا خلاص «زهقت» من قنا. ابتسم وقال لا تسافر اليوم واعدك بعد أسبوعين تأخذ اجازة لمدة 15 يوما واستمارة سفر مجانية الى مصر والعودة. رددت عليه بابتسامة أكبر وقلت له اشكرك على هذا الاهتمام، وسأنتظر وعدك، كما ارجو ان يعود بي بعد ذلك الشاويش محمد بالسيارة الى المنزل.

تغير المفتش المدني الطيب الاستاذ حسين التوني، وارسلوا لنا مفتشا عسكريا من رجال الشرطة برتبة عقيد كما اتذكر. في اول يوم له بالعمل وجدته في المكتب يقوم بالتفتيش على اعمال مكتب بندر قنا. تقدمت اليه مادا يدي مصافحا ومهنئا بسلامة الوصول ومرحبا به في قنا. واذ به وهو يصافحني جالسا يقول لي (الساعة كام دلوقتي؟.. حضرتك بتشتغل في طابونة).. في هدوء تام رددت عليه وانا متجه الى مكتبي.. الطابونة اللي بتأكلني وتأكلك.
جلست على كرسي الخاص وطلبت من الساعي احضار «ساندوتشين» فول وطعميه (فلافل) وكوب شاي. تعجب الساعي عبد السلام من طلبي لكنه اسرع واحضر لي ما طلبت. وبالهدوء نفسه والبرودة ذاتها اخذت اتناول طعام الافطار والمفتش مشغول مع الموظف الآخر في تفتيش قاس. انتهيت من الافطار وشرب كوب الشاي وتدخين سيجارتي وجاءني المفتش المحترم دون ان يتحدث معي في امر الافطار هذا، بل قال لي «اين دفتر غير المقيمين» اعطيته الدفتر.. فتحه وسألني هل كتبت لهؤلاء «كروت» خاصة بهم، أجبته لا اتذكر.. قرأ اسم.. بحثت عن الاسم ووجدت الكارت الخاص به.. أمسكت بالكارت ثم اعدته مكانه وقلت له ليس له كارت. كرر الطلب اكثر من 5 مرات وأنا أقوم بالعمل ذاته. اخيراً طلب مني لقاءه في مكتبه للتحقيق معي.
ذهبت اليه في المكتب وسألته عن الذي قام بتدريبه في المصلحة؟ اخبرني باسم الضابط.. سألته ثانية.. ألم يقل لك شيئا عني؟. قال نعم، وأنا مندهش من تصرفك. قلت له لا تندهش.. أنا أعزب ليس عندي لا زوجة ولا اولاد، والمكتب هو بيتي لا ارتبط بمواعيد دقيقة لا في الحضور ولا في الانصراف واقضي فيه أوقات عمل أكثر بكثير من المطلوب مني كموظف واذا اردت ان تمد يد المساعدة ليس فقط في مركز قنا.. بل في كل مديرية قنا، فأنا رهن اشارتك.. غير ذلك فانا على أتم استعداد ان أذهب الى أسوان دون ان أسألك استمارة سفر. سأتجه اليها سيرا على الأقدام.

كانت الصلة بيننا بعد ذلك كما اوضحتها له منذذلك اليوم حتي آخر يوم لي في قنا بل كان يجد في المكتب عندنا مكان راحة واستجمام. وكثيرا ما كلفته بالقيام باعمال خاصة بمكتب بطاقات مركز دشنا بينما نكون، أديب وأنا نلعب «الطاولة» في القهوة المجاورة للمركز وكم قص عليّ حكاية التحاقه بالشرطة بعد ان كان طالباً بكلية الطب.. لكن «بنطلون» كلية الشرطة والشريط الأحمر على كل رجل، شداه الى الكلية.. كلية الشرطة. وكان قبل أن ينقل الى المصلحة.. مصلحة الأحوال المدنية، مديرا لقلم مرور القاهرة.
وكانت بركة دعاء الوالدين حصنا حصينا لي في غربتي في قنا، ودرعا واقيا حماني من شرّ نفسي  وشر الآخرين.
صدر قرار نقلي من قنا وعودتي الى القاهرة. وفي القاهرة كانت الامور قد تغيرت وعليَّ ان أتكيف مع الأمور الجديدة.
كان قد بدأ العمل بنظام البطاقات العائلية والشخصية. تحرير البطاقات يتم في المصلحة ويرسل الى المكاتب لتسليمها لأصحابها. وعلينا نحن في المصلحة كتابة البطاقات مراجعة الاستمارات ومدى مطابقتها للقانون.
لا أنكر انني عدت الى ما كنت عليه قبل نقلي الى قنا. حُزت على ثقة رئيسي الجديد ضابط برتبة عقيد والذي تم نقله الى المصلحة مع عدد آخر من الضباط لتوسيع العمل بالمصلحة. ثلاث موظفين كنا نُعتبر الدينامو الخاص بالمصلحة. وكانت المصلحة تثق بنا وترسلنا الى مأموريات سواء في القاهرة أو أي مكان في الجمهورية.

في احدى هذه المأموريات، كان علًي التوجه الى محافظة اسوان مع مفتش و3 موظفين، وذلك للمرور على المكاتب هناك ومراجعة العمل. بعد يومين وصلت اشارة من المصلحة يطلب فيها مني شخصيا وكيل عام المصلحة اللواء محمود أنور حبيب (كان برتبة عميد في ذلك الوقت) ان اختار احد الموظفين واتوجه الى مكتب بطاقات مركز «ادفو» المغلق لفحص المكتب وجرده وكتابة تقرير عنه.
قبل ان اتوجه الى هناك طلبت من سكرتير مفتش أسوان ان يعطيني فكرة كاملة عن الموظف المسؤول هناك وعن المكتب بصفة عامة.
عرفت ان الموظف كان «أعزب» ومن»بحرى» اي من شمال مصر. احاط به رجل يلقبونه (بالفار)، وهو الذي يعتبر وبحق كل شيء في المكتب ومهنته (كاتب عمومي).. وهذه وظيفة حرة، غير حكومية منتشرة حول المحاكم واقسام الشرطة لمساعدة المواطنين في التقدم بالشكاوي او طلبات الحصول على البطاقات. توجهنا الى ادفو بالقطار من أسوان وركبنا (المعدية) لنعبر نهر النيل الى البر الغربي حيث تقع مدينة إدفو والقرى المحيطة بها. نزلنا في إدفو وسألنا عن (لوكاندة) ننزل بها، منذ اللحظة التي وطأت فيها أقدامنا أرض إدفو وأنا اشعر بانني مراقب. كنت احس بأشعة قوية مسلطة علينا تفحصنا وتراقب خطواتنا وتصرفاتنا. ومع ذلك كثيرا ما كنت التفت خلفي فجأة لأعرف مصدر هذه الأشعة، لكني لم أعثر على اي اثر. في صباح اليوم التالي توجهنا الى مركز شرطة إدفو. التقيت بمأمور المركز وشرحت له مهمتنا والتي ستستغرق اسبوعا واحداً.. واثناء هذا الأسبوع لن يكون هناك تعامل مع الجمهور. واننا فقط سنقوم بجرد محتويات المكتب وارسال تقرير الى المصلحة، التي ستقوم بعد ذلك بارسال الموظف الذي سيتولى العمل هناك.
أرسل معنا احد جنود الشرطة ومعه دفتر (الاحوال) لاثبت فيه قيامي بفتح المكتب رسميا بعد نزع (الشمع الأحمر). ما أن تم ذلك وخطونا الخطوة الأولى داخل المكتب حتى هلّ علينا نور ذلك (الفار).
(يتبع)
 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ٢ تعليق