بقلم: د. صبري فوزي جوهرة
ما زال البعض يثيرون الحديث عن لائحة انتخاب البابا البطريرك وعما إذا كانت اللائحة الحالية تحتاج إلى التعديل أو التغيير أو الاستبدال، وقد أعربت في الماضي عن ترددي في المشاركة في هذا الحوار نظرًا لحبي العميق للجالس على الكرسي المرقسي وتمنياتي لقداسته بعمر متوشالح. بالرغم من هذا لم استطع إقصاء بعض الحقائق عن فكري والنظر إلى تداعياتها نظرًا لخطورة القضية وما يترتب عليها من نتائج مصيرية للأقباط وكنيستهم. لذلك, ولمرة أخرى, أرجو من القراء الكرام التحلي بسعة الصدر لما توصلت إليه في هذا الشأن.
ما من شك أن أحوال الكنيسة القبطية تتأثر تأثيرًا مباشرًا ومحوريًا بشخص رئيسها الأرضي، فبالرغم من امتداد المصاعب عبر تاريخ الكنيسة المصرية كخلفية ثابتة constant background إلا أن شخص البطريرك كان دائمًا هو العامل الفاصل في تراجع الكنيسة وانحسارها أو ازدهارها وتقدمها. فمن جهة كان الأقباط يعانون الكثير تحت حكم السواد الأعظم ممن قُدر لهم السيطرة على مقاليد حكم البلاد في كافة العصور. وكان من المحتم ان يلجأوا إلى رئاستهم الدينية لرفع المعاناة عنهم وإنقاذ ما يمكن إنقاذه للعودة إلى الحياة السوية بعد أن فقدوا حماية الدولة التي طالما تمادت في إلحاق الضرر بهم والعدوان عليهم. ومن جانب آخر, يتعامل حكام البلاد مع قضايا مواطني مصر المسيحيين خلال البابا البطريرك لأسباب عديدة ليس أقلها سهولة التعامل مع شخص واحد عوضًا عن شعب محبط بأكمله, والتأثير عليه بوسائل الضغط والتهديد والابتزاز والمناورة واستغلال حسابات تخوفه من المزيد من المعاناة لشعبه إن لم يبدي على الأقل الحد الأدنى من "المرونة" أو الانصياع التام لمشيئة الحاكم بأمره.
ولا يختلف قبطيان -حتى القلة الكريهة منهم التي تتملق السلطة وتستسلم لإغراءاتها بالمناصب الخاوية أو المال المغدق ثمنًا لخيانتهم- على أن الأقباط يجتازون اليوم زمانًا متعثرًا في بلادهم, وإن كان لن يؤدي إلى نهاية وجودهم في مصر فهم من القوة والصلابة والذكاء والخبرة بقدر لن يسمح لأعدائهم بنجاح أكثر من مثل خدش إبرة في هذا الصخر الصلد. لذلك كان شخص البطريرك القادم أمرًا مفصليًا سيحدد إلى قدركبير ما إذا كانت الكنيسة ستواصل ازدهارها بالرغم من الاضطهاد الواقع عليها كما هو الحال الآن, أم أنها ستتراجع إلى تعثرات أخرى كالتي عانت منها في أربعينات وخمسينات القرن الماضي والتي انتهت باعتلاء حضرة صاحب القداسة والغبطة مثلث الرحمات البابا كيرلس السادس السدة المرقسية وخليفته المباشر قداسة البابا شنوده الثالث -أطال الرب أيام حياته على الأرض-, فقد انتشرت الكنيسة في المسكونة من أقصاها إلى أقصاها بقوة وثبات وحفاظ على الإيمان المنحدر إليها بالرغم من الضيقات الخانقة التي يضعها جنود الشيطان في طريقها.
وماذا عن اللائحة وهي موضوع حديثي؟ لن أحاول الدخول في جدل عقيم، بل دعني أقول الآتي:
1. يجب ألا يشارك في الانتخابات الأولية من لا علم له بأحوال الكنيسة وشعبها، خاصة من كان منهم مُعرّضًا لإغراء الدعاية الكاذبة أو المال أو التوقعات غير المحتملة كما يحدث في "الانتخابات العامة" المفتوحة لكل من له إبهام يبصم به.
2. ليس من الحكمة أو العقل أن "ينزل" البابا القادم انتخابات تسودها الغوغائية والكلام الملقى على عواهنه, تُمارَس خلالها بلطجة كلامية على أقل تقدير فيفقد المرشح الفائز هيبة الكرسي قبل أن يعتليه ويرجع الخاسرون إلى حيث جاؤا دون مكسب من "بهدلة" الفائز.
3. يجب أن يُنظر بعين الحذر الشديد والفحص الموضوعي العادل المفتوح المتاح لكافة أعضاء لجنة منوطة بمسؤلية بالنظر إلى تاريخ كل مرشح بتمعن وفرز دقيق واستبعاد غير المستحق منهم استنادًا لحقائق ثابته لا جدال فيها، حتى لا يقع فريسة مساومات رخيصة بعد اعتلائه الكرسي السكندري أو يصبح هدفًا للابتزاز لدواعي أخلاقية أو عقائدية أو تاريخ غير مشرف في التواطؤ مع السلطة "المدنية" (إسمًا) الحاكمة أو الانصياع إلى مخططاتها والتي لا تضمر الخير للأقباط أو كنيستهم.
4. القرعة الهيكلية, بصرف النظر عن مغزاها الديني, وهو عامل هام في فكر وعقيدة القبطي, لا شك أنها تختزل من قدرة الدولة على انتقاء المرشح الذي تتوسم فيه أنه الأسلس قيادة عن الآخرين بصرف النظر عن صلاحيته لشغل هذا المنصب من وجهة نظر الكنيسة, وما يتوسمه ويرجوه الأقباط في رئيسهم الأرضي. أضف إلى ذلك أن القرعة الهيكلية تخفف من احتمال ووقع السيطرة الكاملة لأي تحزب داخل المجمع المقدس لمرشح بعينه يفرض على الكنيسة بفعل نفوذ جماعة بذاتها مهما بلغت من سطوة.
وماذا عن ما جاء في "التاريخ" و"التقاليد" و"الكتب" والمهاترات وتدخلات الحابل والنابل وما حدث في ماضي الزمان وكيف أن الأنبا فلان انتُخب طبقًا لهذه القواعد والأنبا علان انتُخب بقواعد مغايرة؟ في اعتقادي أن الهدف الأسمى والوحيد هو اختيار الشخص الذي سيؤدي الأمانة ويتحمل عبء المسؤلية الرهيبة في زمننا الأغبر هذا. ولنا فيمن يتمسكون بحرفية الكتب العبرة الكافية فليس بينهم أحد من الناجحين والشواهد على هذه الحقيقة ملء الأرض, بل أنهم وكتبهم قد أصبحوا هدفًا مستحلاً للسخرية والتهكم وعلامة مؤكدة على التخلف والانحطاط.
علينا أن نمارس ما يوائم ظروفنا وأحوالنا اليوم ما دام لا يتعارض مع تعاليم المسيح وهي قليلة بسيطة واضحة سامية لا نسخ فيها ولا قولان ولا مجال فيها لإفتاء أو اجتهاد. ولنتذكر أن الديناصورات التي جالت الأرض بلا منافس في عصور قديمة قد انقرضت تمامًا لانعدام قدرتها على التأقلم ومسايرة ظروف ومعطيات الحياة التي لا تكف عن التغيير، بينما بقيت أجناس أخرى أقل قوة وضخامة وبأسًا، إلى أن ظهر الإنسان العاقل وساد هذا الكوكب بلا منازع بقدرته على المرونة في الفكر واتباع ما يمليه العقل والمنطق.
لا نريد عميلاً لحكومة تسعى لافتراسنا، أو مهرطقًا ينخر في الإيمان الأرثوذكسي من الداخل متغاضيًا عن نصوص الكتاب المقدس الواضحة حرصًا على "راحة دماغه" أو شعبية كاذبة، أو إنسانًا ربما كان قد أخطأ في الماضي و"اتقفش" واُمسكت عليه زلاته إذلالاً وابتزازًا عند اللزوم. ودعني أذكّركم هنا بما تعرفونه جميعًا من أنه ليس هناك من بني البشر من هو معصوم تمامًا عن الوقوع في العثرات, وأن عيون أعداء الكنيسة ساهرة "لتستلقط" الهفوات والمغامرات لأسباب نعرفها جميعًا.
لا تحابينا الحياة دائمًا بخيارات "ما تخرش المية"، ولكن الله قد أنعم على الإنسان وحباه بنعمة العقل، واللي ما بيستعملوش بيخيب والناس بتضحك عليه ولما بسقط لا يبالي أحد بإنقاذه.
أدام الرب حياتك يا سيدى البابا البطريرك الأنبا شنودة الثالث. من عيوب قداستك أنه لن يأتي بعدك من يستطيع أن يملأ كرسيك ربما لسنين عديدة ولكننا نحن الأقباط نطمع في وعود الرب ومراحمه لحماية كنيسته. |