بقلم: د. يحيى الوكيل
بينما لا زلت أداوي جراحي التي أصابتني بها الإدارة الكارثية للأزمة بين مصر والجزائر فوجئت بنصال جديدة من الجهل تضيف إلى جراحي جراحًا حملتها ردود الأفعال الرسمية وشبه الرسمية لنتيجة الاستفتاء الذي أُجري في سويسرا على حظر بناء المآذن في تلك البلاد، وكانت النتيجة أن ما يزيد على النصف بقليل قد وافقوا على هذا الحظر. من لحظة نشر هذا الخبر ونار الجحيم الإعلامي تتلظى وتقول هل من مزيد.
قبل أن أحلل هذا الخبر، دعوني أولاً أعطيكم فكرة عن الخلفية التي صدر عنها هذا الاستفتاء.
سويسرا دولة محايدة بامتياز، كان موقعها المتوسط بين ألمانيا وفرنسا –وهما دولتان متنافستان منذ تفككت الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي أنشأها شارلمان– كافيًا لكى يبتلعها المنتصر إن انحازت لأيهما، لكنها استطاعت الحفاظ على هوية مستقلة بالرغم من استعمالها للغتين كلغات رسمية. أصبح الحياد السويسري اسم علم وليس فقط صفة لبلد أصبح قبلة مدخرات العالم كله –حكومات وأفراد– حيث الأمان الأكيد الذي يترفع عن النزاعات حافظًا لكل ذي حق حقه.
ولما كانت سويسرا من الدول الرائعة الجمال ذات المستوى المعيشي الكريم أصبحت قبلة لمسلمين نزلوا ضيوفًا عليها بعد نزوحهم من دولهم التي لم تعد "أطهر بقاع الأرض" بل صارت مباءة فساد أصاب الأرض والماء والهواء كمثل ما أصاب الناس. وكأي مضيف عاملت سويسرا ضيوفها الذين استوفوا شروط الإقامة فيها بكرم، فازدهروا وأنشأوا دورًا لعباداتهم والتي تخالف ما يعبد أهل البلاد، أصحاب البلد.
لم تمنع سويسرا هذا، ولكن لما انتشرت المساجد تخوفت سويسرا من أن تفقد هويتها –والهوية ليست دينًا فقط، بل طريقة تفكير وطرز في الزي والمعمار وغير ذلك كثير-. التجأ الحزب الحاكم –حزب الشعب السويسري– لاقتراح بفرض حظر دستوري على بناء مآذن جديدة في البلاد لأن السماح ببناء المآذن سيؤدي إلى "أسلمة" البلاد. ونقلت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" عن عضو البرلمان أوسكار فرايسنجر قوله: "ليست المئذنة بالبناء البريء، فقد استخدمت تاريخيًا للدلالة على أرض الإسلام وانتشاره في الدول الأجنبية". وأضاف: "يقول المسلمون أنها ديكور فقط، لكني لا أوافق على ذلك. وحين يقول رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان ’إن المئذنة هي حربتنا‘ فهذا يعني أمرًا، ولا أريد لحرابه أن تنصب هنا في سويسرا".
استنتج من هذا –ويستنتجه مثلي كل ذي عقل– أن الاستفتاء إنما كان يصد ما ظنه حرابًا –بصرف النظر عن خطأ أو صواب الاعتقاد- ولا يسدد حرابًا لأحد
كما ذكرت سابقًا، فنتيجة الاستفتاء أن ما يزيد على النصف بقليل قد وافقوا على هذا الحظر وبذلك أصبح حظر إقامة المآذن من مواد الدستور في سويسرا.
فكيف كانت ردود الأفعال عندنا؟ أستطيع أن أقسمها الى قسمين:
القسم الأول رافض ومعادي:
- الدكتور علي جمعة "لقد سمعنا بأسى بالغ عن هذه المبادرة التي لا تعتبر هجومًا على حرية الاعتقاد فحسب، بل أيضًا محاولة لإهانة مشاعر المجتمع الإسلامي داخل سويسرا وخارجها"، كما أعرب فضيلته عن قلقه البالغ بشأن هذا السابقة الخطيرة التي يمكن أن تعمق من مشاعر الكراهية والتمييز ضد المسلمين لأنه لن يشمل إلا أماكن عبادتهم، في حين أن المباني التابعة لجميع الديانات الأخرى لم تتعرض لأي تقييد..
- الأزهر من جانبه أعلن على لسان الشيخ علي عبد الباقي "أمين عام مجمع البحوث الإسلامية" –فشيخ الأزهر في الحج والحمد لله، فكلنا يذكر نوعية آرائه في مثل هذه الأمور- أنه سيصدر بيانًا يعلن فيه رفضه لما أسماه "إهانة مشاعر المسلمين في سويسرا" كما أن الأزهر سيقوم بمخاطبة القيادات السويسرية لعدم الاستسلام للمحاولات اليمينية المتشددة لعدم بناء المآذن.
وواضح هنا أن فضيلة الشيخ لا يفهم العملية الديمقراطية ويتصور أن مجريات الأمور تسري بقرارات القيادات كعندنا. وأوضح عبد الباقي أن هذا الأمر يهدد جهود الحوار بين الأديان والتى يتبناها الأزهر بغرض فتح قنوات التفاهم مع الآخر وقطع الطريق على أي فكر ينتج إرهابًا لا نرتضيه..
- وصف الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي أكمل الدين إحسان أوغلي الاستفتاء الشعبي المؤيد لمنع بناء المآذن في سويسرا بأنه يعد نموذجًا جديدًا من العداء للمسلمين في أوروبا وأنه يدعو للقلق وخيبة الأمل.
وقال أن الحظر الجديد وغير المسبوق يُعد "نموذجًا جديدًا يجسد مشاعر العداء المتنامي ضد الإسلام والمسلمين في أوروبا من قبل جماعات اليمين المتطرف العنصرية والمعادية للمهاجرين وللأجانب، والتي تقف في وجه المواقف الحكيمة والمنطقية والقيم العالمية".
استعمل الأمين العام لمنظمة المؤتمر الاسلامي التي تضم 57 دولة يعيش فيها أكثر من مليار مسلم حول العالم نفس المنطق المشوه الذي تلجأ له الحكومات القمعية في منطقتنا بإحالة وزر كل رفض لها أو خروج على منطقها إلى "قلة مندسة وشرذمة خارجة" هي في هذه الحالة "جماعات اليمين المتطرف العنصرية" بحسب تعبيره.
واضح أيضًا أن السيد الأمين العام لا يفهم العملية الديمقراطية، فالاستفتاء كان شعبيًا والقرار اتخذ بغالبية الناخبين، إلا إن كان السيد الأمين العام يعتبر أكثر من نصف الناخبين السويسريين "من جماعات اليمين المتطرف العنصرية والمعادية للمهاجرين وللأجانب، والتي تقف في وجه المواقف الحكيمة والمنطقية والقيم العالمية"، وعذرًا للتكرار.
القسم الثاني رافض ومهادن:
- اعتبرت الدكتورة سعاد صالح مبادرة حظر بناء المآذن في سويسرا بأنها صورة من صور محاربة الإسلام والتعامل مع الإسلام كدين عنصري ويحتوي على تمييز ومحاولة استفزاز للمسلمين، وهذا استغلال لحالة الضعف التي نمر بها، مستشهدة بحالة التمزق التي طالت علاقة مصر والجزائر بعد المباراة الأخيرة بينهما...
وأضافت سعاد صالح "لا ينبغي أن نعمل مشاكل بسبب المآذن لأنها جاءت بعد الرسول وليست فرضًا، ولكن ينبغى أن نوجه لهم رسالة لاحترام شعائر الآخر وتنبيههم إلى أن خطوة مثل هذه تهدد مساعي الحوار بين الطرفين. إلغاء المآذن يؤذي مشاعر المسلمين"..
- اعتبر الشيخ فرحات المنجي "مستشار شيخ الأزهر" أن المسلمين يعيشون أقلية في هذه البلدان ويجب عليهم الالتزام بقوانينها، ثم أن المآذن ليست من الشروط الواجبة في المساجد، فهي في الأصل لاعتلاء المؤذن حتى يصل صوته لأبعد ما يمكن، فلا داعٍ أن نحولها إلى معركة يكون الجميع فيها خاسرًا..
المنجي أضاف أن مشكلة المآذن في أوروبا وفي سويسرا بالذات من الأمور التى يجب أن تؤخذ بسلاسة، فهناك دول كثيرة تمنع بناء المآذن بها دون أن يكون هناك مشكلة، ومن يصر عليها فإنه يتحايل (لاحظ تحبيذ الشيخ للتحايل) بعمل قباب مشابهة للمآذن، وأردف المنجي أنه على المسلمين فى هذه البلدان أن يجتهدوا لكي يكونوا مثالاً جيدًا للإسلام ويتفاعلوا مع المجتمعات هناك حتى يصبحوا مؤثرين فلا يتعرضون لظلم، ولا ينشغلوا بمعارك هامة ظاهريًا إلا أنها في النهاية لا تنتقص من قدر الإسلام..
- حذّر آية الله سماحة السيّد محمد حسين فضل الله، من الحملة الدعائيّة التي استهدفت إثارة الرّأي العام السويسريّ، بهدف تقديم صورة مشوّهة ومخيفة عن الإسلام والمسلمين، داعيًا الغربيّين إلى القيام بدراساتٍ اجتماعيّةٍ ميدانيّةٍ للتعرّف أكثر إلى المسلمين، مشيرًا إلى أنّ التّحريض المتواصل الهادف إلى إيجاد حالةٍ من العنصريّة في الغرب ضدّ المسلمين، من شأنه أن يعود بالضّرر على غير المسلمين..
محذّرًا من وجود عملٍ منظم منذ أحداث 11 أيلول/ سبتمبر لإيجاد هوّة مصطنعة بين المسلمين ومواطنيهم في البلدان الغربيّة وحذّر سماحته المسلمين من أن يندفعوا باتّجاه العنف تحت وطأة ذلك (هل هذا تحريض تحت غطاء التهدئة؟)..
فإذا علمنا أن الحكومة السويسرية كانت ضد أنصار الحظر، وقال الرئيس الإتحادي الحالي لسويسرا "هانز رودولف ميرتس" إن التسامح الديني عريق في سويسرا، مضيفًا "نحن نعيش في سويسرا متعددة الثقافات ومنفتحة"، فرفض نتيجة الاستفتاء هي في القاموس الديمقراطي هجوم على إرادة الناخبين، كضيف رذيل يفرض ما يريد على صاحب البيت، فهل يلوم صاحب البيت أحد إن طرد ضيفه؟
العلاقات الإنسانية كلها قائمة على احترام الغير والأخذ والعطاء، وفي هذا الموضوع فالعوار في جانبنا وإن لم نعالجه فسينضم كلا الجانبين –من رفض الحظر ومن وافق عليه– في مواجهتنا ولنكتسب أعداء جدد جلبناهم على أنفسنا.
فالقول بحرية الاعتقاد وحرية ممارسة الشعائر الدينية هو ما نطلبه من غيرنا ولا نمارسه نحن في بلادنا العربية والإسلامية، والأمثلة كثيرة:
- لا تسمح السعودية بحرية ممارسة الشعائر للأديان المخالفة للإسلام وحتى بناء الكنائس –وهي دار عبادة لأهل الكتاب، فما بالك بمعابد لغير تلك العقيدة- ممنوع ومحظور حمل الصلبان والأناجيل وتلقى في صندوق الزبالة بشكل مهين في المطارات والموانئ..
- سمح أمير الكويت ببناء كنيسة بدون منارات أو صلبان.. فتلقى الشكر ولم يعترض أو يجهر بالشكوى أحد، فلم الشكوى من المعاملة بالمثل؟
- حتى في مصر مثال التسامح الدينى على مر العصور إلا في فترات مظلمة من تاريخها، فحرية بناء الكنائس غير مكفولة –وهي معابد جزء أصيل من شعب مصر وليس وافدًا عليها كالحالات السابقة-، ولا حتى إصلاح ما يتهدم منها بفرمان الخط الهمايوني الأثري وطبقًا للشروط العشرة للعزبي باشا وزير الداخلية سنة 1936.
- في الجزائر كان ذبح وقتل المسيحيين وحرق الكنائس عملاً منظمًا في سنوات الإرهاب الذي ابتلى به هذا البلد حتى خلت مناطق كاملة منهم.
أنوه هنا أننى إنما ذكرت أمثلة تتعلق بالديانة المسيحية لأنها الديانة الوحيدة شبه المقبولة في بلادنا العربية والإسلامية، وذلك حتى أقطع الطريق على من يرد باتهامى أنني أنفذ جدول أعمال تبشيري أو غيرها من التهم التي يُرمى بها كل من لم يوافق أصحاب الصوت العالي من الراكبين أكتاف الإعلام. لن أحلم بالبحث في ما يتعرض له أصحاب العقائد الأخرى –من البهائية وإلى البوذية وغيرهما-، فمجرد الحلم بذلك هو انتحار مؤكد.
لكي ننتقد ما قام به السويسريون في بلدهم علينا ألا نوفر لهم سبلاً لانتقادنا بالمقابل؛ هذا ان كان ما فعلوا يوافق ما فعلنا وهو في الحقيقة ليس كذلك بل أقل بكثير.
لم يمنع السويسريون بناء المساجد –حيث تمارس الشرائع والطقوس الإسلامية-، وكذلك تتم الدعوة إلى الإسلام أو بتعبير آخر: التبشير وهو جرم يعاقب عليه متبعى الديانات الأخرى إن فعلوه في بلادنا.
إذًا لم يضع السويسريون قيودًا على حرية العبادة، فقط وضعوا قيودًا على الطرز المعمارية لأماكن ممارسة العبادة ولجأوا للديمقراطية لاستقراء رأي الشعب ولم يفرضوها مثل عندنا بقرار؛ أي جرم في هذا؟
لماذا نلجأ للتسخين السخيف عن غير دراسة كافية في وسائل إعلامنا وللأسف على ألسنة القيادات في مجتمعنا؟ ألم يكن لكم فى مثال التوتر الناشئ بين دولتي مصر والجزائر عبرة؟ أم تريدون معاداة سويسرا أيضًا لتلحق بطابور بدأ يطول من الدول الأوروبية؟ هل تريدون حقًا دفع سويسرا وغيرها من البلاد غير الإسلامية لمنع بناء المساجد كرد فعل لعصبيتكم ودعواكم بالويل والثبور وعظائم الأمور؟
ألا تتعلمون أبدًا من أخطائكم، حتى وهي ساخنة؟ |