CET 00:00:00 - 09/12/2009

كلمه ورد غطاها

بقلم: ماجد سمير
"زن" جرس التليفون بإلحاح شديد فاستيقظت منزعجًا من النوم، ويبدو أنه كان "يزن" من فترة لأني لم أتمكن من الرد فالمتصل أغلق الخط بعد يأسه من إجابتي عليه، ولأن صوت تليفون منزلنا العامر أكثر مجرد جرس فالتعبير الأنسب لصوت التليفون في منزلي هو الزن والإزعاج، رغم أني أسكن في الدور العاشر إلا أن الضجيج و"الزيطة" بمساكن الشباب بالجيزة يجعلان من كل مَن يسكن بالشقة وبقية الشقق بالطبع لا يسمع صوت لا رنين التليفون ولا صوت جرس الباب ولا الموبايل في الوقت ذاته ولا حتى أصواتنا أثناء محادثتنا سويًا.
ووصلنا لحل عبقري بتحويل كل ما يحتاج للرن إلى أصوات صاخبة عالية جدًا تشبه الفرقعة، أما الموبايل فكان الحل الوحيد المتاح هو استخدام خاصية الهزاز، وعند الحديث والكلام وجدنا ضالتنا في "الزعيق" في أول الكلام وبعد أن تلهث أنفاسنا نبدأ مرحلة الإشارة بالأيدي مثل الصم والبكم.
وسيعتقد أي ضيف من خارج نطاق العائلة والأصدقاء المقربين أننا أسرة من المجانين، لأنه سيجد فجأة من يجلس معه بدأ الكلام بزعيق ووجهه "تبظ" منه العروق النافرة بعدها يلهث ويبدأ في الإشارات وكأنه أصيب بخرس مفاجئ وربما يبدأ أي مننا في الارتعاد والارتعاش والارتجاج وكأنه أصيب بزلزال مصاحب لزنه غريبة تصحبها ابتسامة بلهاء على وجه المضيف ثم "يضرب يده في  جيب البيجامة سواء كانت "مقلمة" بالطول أو ذات ألوان مخرجًا التليفون المحمول.

وعاد التليفون "للزن" مرة أخرى فقمت فورًا وأمسكت السماعة ووجدت المتصل "وهيب" زوج شقيقتي الذي شخط فيا بصوت جهوري قائلاً: أنت فين يا ماجد... أنا اتصلت من شوية ماردتش عليا، كمان الموبايل بتاعك مقفول، وقبل أن أرد عليه قال: ما علينا.. أنا أمبارح رحت أجيب "يوسف أفندي" و.... وقبل أن يكمل كلامه أنطلق صوت ميكروفون المسجد المجاور لمنزلنا معلنًا صلاة الظهر ولم أسمع أي حرف مما قاله وهيب وبعد انتهاء الآذان وصلني صوته قائلاً: يا ماجد دة حتى "اليوسف أفندي بقا صيني".... وتنهد وأطلق زفره غيظ عالية جدًا... أتصرف أكتب عن الكلام دة.... سلام وأغلق الخط دون أن يسمع مني رد.
جلست على الكرسي المجاور للتليفون أفكر في الموقف فأنا أعرف عشق "وهيب" للموالح "ولليوسف" بشكل خاص.
ويحكى أن منزل جده لوالدته في شارع مصطفى كامل بالفيوم به شجرة "يوسف أفندي" كان يحرسها هو وأشقائه ويمنع أحد من تناول ولو "واحدة" فقط ونجح بسبب جسمه القوي في ذلك، وضخامة جسم "وهيب" الذي درس اللاهوت ويخدم في عدد من الكنائس ويفتقد أناس كثيرون، فضلاً عن خدمة القرية والفقراء جعلتني أقول له ذات مرة: الناس اللي بتقوم بخدمتهم وافتقادهم هايخافوا يعملوا خطية منك، لأن ربنا هايحاسبهم يوم القيامة أما أنت هاتحاسبهم دلوقتي، ونضحك سويًا ولكن قد لا نسمع بعضنا البعض لو كانت الجلسة مجتمعة في شقتي.

وفجأة ارتعدت يدي الممسكة بالموبايل داخل جيب "البيجامة"، فرددت فورًا مستغلاً حالة الهدوء قبل انطلاق أي أصوات عالية مثل مشاجرات الجيران أو الصريخ المصاحب لمباراة كرة القدم سواء في التليفزيون أو في الشارع، فوجدت على الطرف الآخر أحد الزملاء في الجريدة يطلب الموافقة على كتابة تقرير عن غزو البضائع الصينية السوق المصرية مؤكدا أننا دولة استهلاكية لا نزرع ولا نصنع أي شيء والنتيجة هو الغزو غير الطبيعي للسوق.
وأكمل حديثه بعد أن سعل سعالاً خفيفًا وقال: دي السبح وسجاجيد الصلاة والفول المدمس والملابس ولعب الأطفال كل حاجة بقت صيني وضحك وأضاف أنا حاسس إن عنيا بقت ضيقة زي الصينين، كل ذلك وأنا أستمع فقط، ثم قال دة حتى... ولم أتمكن من سماع باقي الحديث لأن الست أم عادل التي تسكن في الدور الأعلى أي الدور الحادي عشر صرخت تنادي أبنها البالغ من العمر 4 سنوات ويلعب في الشارع قائلة بصوتها الأوبرالي: يا واد يا عاااااااااااااااااادل.
قفزت إلى الشباك لأشاهد المسرحية ولازال الموبايل على أدني لعلي أسمع ولو كلمة من زميلي، ووجدت عادل يقف تحت الشباك ولا أكاد أن أراه وحملقت بشدة فرأيت بما يشبه "الطشاش" الطفل يحرك شفتيه محاولا الرد على أمه المستمرة في الحديث بصوتها الحياني تدعو على الولد بأن يقصف الله عمره طبعًا من وراء قلبها العاشق لتراب أرجل ابنها، ولما يأست من عدم سماع صوت عادل قالت له طب: إطلع... نبحت صوتي.

وبعد أن انتهت أوبرا أم عادل سمعت صوت زميلي على الناحية الأخرى مؤكدًا: الفاكهة كمان بنستوردها منهم وسكت قليلاً وقال دة حتى "اليوسف أفندي بقا صيني" أغلقت السكة دون أن أنهي المكالمة، وضحكت وقلت لنفسي: إيه حكاية الجملة دي ثاني مرة أسمعها النهاردة في أقل من ساعة.
أبدلت ملابسي وقررت الذهاب للسوق لمعرفة سر الغزو الصيني للفاكهة في مصر، وتوجهت مباشرة لأبو رزق وهو فكهاني بلدياتي من "فديمين" إحدى قرى محافظة الفيوم وهي قرية تشتهر بزراعة الموالح ويتم تصديره للخارج، رحب بي الرجل بشدة لسببين الأول: لأني زبون قديم، والثاني: لأننا بلدياته.
وقلت له إيه أخبار الفاكهة؟، قال لي: يا أستاذ بصراحة مبقاش ليها طعم البضاعة اللي جاية من البلد كلها بقت "صيني" أصحاب جناين الفاكهة هايتجننوا، ثم مد يده تحت عربة الفاكهة وأخرج قفصًا مليء باليوسفي كبير الحجم بشكل لافت للنظر وقال مبتسمًا بمرارة بص يا أستاذ دة حتى "اليوسف أفندي بقا صيني".

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٢ صوت عدد التعليقات: ٢ تعليق