CET 08:36:12 - 11/12/2009

مقالات مختارة

بقلم: مشاري الذايدي

بالأمس نشرت على الصفحة الأولى لجريدة «الشرق الأوسط» صورة رجل بغدادي مسن، وهو يطلق صرخة ألم وفجيعة بعد تفجيرات بغداد الأخيرة.
من الواضح أنه فقد أعزاء له في هذه الهجمة الدموية العمياء، لا أعرفه ولا يبدو أنه شخصية مهمة من ذوي البدلات الراقية أعضاء البرلمان أو الحكومة، ولا هو رجل دين معمم، مجرد عجوز عراقي بسيط، أثرم بلا أسنان، تركت السنين أثرها على وجهه المتغضن.
كم هي مؤلمة مثل هذه الصور، مثلها صورة لامرأة باكستانية مسنة، نشرت قبل أيام، واضح أنها فقيرة، وبسيطة، تبكي بشكل مفجع، أيضا عقب تفجيرات من طراز تفجيرات بغداد.
وقل مثل ذلك عن عجائز وأطفال غزة أو اليمن أو أي بقعة تنهشها الحروب في العالم، هؤلاء هم جروح الحرب، وبثور السياسة القبيحة، ربما لو طال العمر بهذا الطفل أو الطفلة لكان عالما أو طبيبا أو شاعرا أو كاتبا أو ربما فلاحا أو حدادا، أو عاطلا عن العمل، لا يهم، المهم أنه تم شطب صفحة حافلة من الحياة في خضم حرب مجنونة قذرة هنا أو هناك.
هؤلاء يجب أن لا يتحولوا إلى «أرقام» في عداد الحروب، يجب أن يكونوا قصصا إنسانية حية، حتى ولو كنا لا نعرفهم، حتى ولو كانوا غرباء..

هنا تحضرني روح محمود درويش، فهذا الشاعر المبحر في الذات، مر ذات يوم بجنازة «غريبة» لا يعرفها، مر بها صدفة، فتخيل بشاعريته قصة هذه الجنازة الغريبة، يقول:
لا أعرف الشخص الغريب ولا مآثرهُ..
رأيت جنازةً فمشيت خلف النعش،
مثل الآخرين مطأطئ الرأس احتراما.
لم أجد سببا لأسأل: من هو الشخص الغريب؟
وأين عاش، وكيف مات؟
فإن أسباب الوفاة كثيرةٌ من بينها وجع الحياة!

ويمضي درويش في لوحته إلى أن يقول:
ولم أجد سببا لأسأل: من هو الشخص الغريب وما اسمه؟ ـ لا برق يلمع في اسمه ـ والسائرون وراءه
عشرون شخصا ما عداي
وتُهتُ في قلبي على باب الكنيسة:
ربما هو كاتبٌ أو عاملٌ أو لاجئٌ
أو سارقٌ، أو قاتلٌ.. لا فرق، فالموتى سواسية أمام الموت.. لا يتكلمون
وربما لا يحلمون..
وقد تكون جنازةُ الشخص الغريب جنازتي
لكنَّ أمرا ما إلهيا يؤجلها
لأسباب عديدة
من بينها: خطأ كبير في القصيدة!

هكذا قال محمود درويش، الشاعر المتوحد بالإنسان، أي إنسان، وهو يحول هذه الجنازة الغريبة من مجرد مشهد يومي عابر إلى لحظة إنسانية، لحظة انفعال شعري، يكسر أسوار الإلف والعادة، ويفتح هذه الأسوار على حيوية الحركة والحياة اليومية.
ليتنا نملك مناعتنا وحساسيتنا الإنسانية ولا نفقدها ونحن نقصف يوميا بمناظر الموت العشوائي في الفضائيات والصحف، فخلف كل رقم من أرقام الموتى والجرحى، قصة ساخنة وغزيرة بالتفاصيل، ربما كنا نحن أو من نحب من هذه القصص لولا لطف القدر.. حتى الآن!

نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

جديد الموقع