CET 00:00:00 - 12/12/2009

مساحة رأي

بقلم: د. عبد الخالق حسين
وقعت في شهر آب مجزرة الأربعاء، وفي تشرين الأول مجزرة الأحد، واليوم ونحن في شهر كانون الأول، نكتب عن مجزرة الثلاثاء، حيث "وقعت خمسة تفجيرات متتالية هزَّت بغداد الثلاثاء 8/12/2009، أسفرت عن مقتل 127 شخصا على الأقل وإصابة 448 آخرين بجروح" وهكذا في كل شهر نحن أمام مجزرة مروعة باسم يوم من أيام الأسبوع، وماذا بعد أن تشمل المجازر كل أيام الأسبوع، فهل سنسمي الأيام الدامية القادمة بالأربعاء الدامي الثاني، والثلاثاء الدامي الثاني، ثم الثالث والرابع وهكذا إلى ما شاء الإرهاب؟
يقول المفكر والمؤرخ الأمريكي Fromkin: "يحقق الإرهابيون هدفهم ليس من خلال أفعالهم فحسب، بل ومن خلال ردود الأفعال لأفعالهم".  وهذا ما نراه على الساحة العراقية. ولعل أخطر ردود أفعال لفعل الإرهاب هو بروز التناحر والشقاق والنفاق بين القوى السياسية العراقية والعمل على تمزيق الوحدة الوطنية والتمسك بالمصلحة الشخصية والفئوية على حساب المصلحة العامة. والضحية هو الشعب المغلوب على أمره.

فالملاحظ باستمرار، أنه بعد كل كارثة إرهابية تتجدد وتتركز حملة الهجوم على شخص واحد وهو رئيس الحكومة واتخاذه كبش فداء من قبل منافسيه، وإبعاد الأنظار عن الجناة الحقيقيين ومن وراءهم. وإذا كان من حق أبناء الشعب إلقاء اللوم على الحكومة، كل الحكومة لا فقط رئيسها، لأنها رسمياً ونظرياً وقانونياً، هي المسؤولة عن أمن وسلامة الناس، ولكن الغريب في العراق، وهو البلد الوحيد في العالم، يجوز فيه لأي تنظيم سياسي أن يشارك في الحكومة وفي نفس الوقت أن يكون معارضاً لها بل وحتى مشاركاً في الإرهاب.
لذلك نجد بعض القوى السياسية المشاركة في السلطة، هي الأخرى تلقي اللوم على الحكومة، ليس من باب النقد الذاتي والاعتراف بالتقصير، بل للتنصل من مسؤوليتها، ولم يستثن من ذلك حتى وزير الداخلية، المسؤول عن الملف الأمني، بحجة أن رئيس الوزراء هو القائد العام للقوات المسلحة. وفي هذه الحالة إن إلقاء المسؤولية على رئيس الوزراء وحده غير منصف ولا يقبله العقل، وموقفهم هذا يذكرنا بما قاله بنو إسرائيل لنبيهم موسى: (اذهــب أنــت وربــّك فـقـاتــلا إنـَّـا هـاهـنـا قـاعــدون).
وفي هذه المقالة لا أريد الدفاع عن رئيس الوزراء السيد نوري المالكي، فهو كغيره من المسؤولين، يتحمل مسؤولية تتناسب مع منصبه في عدم قدرتهم على منع وقوع هذه الكوارث. ولكنني أرى لزاماً علي كل كاتب مسؤول أمام الشعب والضمير، أن يكون منصفاً ومحايداً في تحليل الأوضاع ومعرفة الأسباب وتشخيص المقصرين، خاصة فيما يتعلق بأمن وسلامة الشعب، وأن لا تتخذ هذه المناسبات المأساوية للمزايدة والمتاجرة بدماء الأبرياء من أبناء شعبنا لأغراض انتخابية، وإلا سنفقد مصداقيتنا، وسوف لن يصدقنا أحد حتى عندما نكون صادقين.

لقد عودنا كتاب ونواب برلمانيون، وخاصة من المتعاطفين مع البعثيين، ومنهم بدوافع طائفية واضحة، أن يخرجوا علينا بعد كل كارثة إرهابية، مفتعلين الغضب والتألم على الضحايا أمام وسائل الإعلام، يطلقون تصريحات غاضبة وينشرون مقالات نارية، يبرؤون فيها ساحة البعث والقاعدة من الجريمة ويلقونها على الحكومة.
كما ويستعدي البعض الآخر الحكومة ضد إيران وتركيا بسبب ما يعانيه العراق من شح المياه، ومطالبة المالكي بقطع العلاقة معهما بدلاً من حل المشكلة بالطرق الدبلوماسية. والغرض من هذا التحريض معروف وهو إرباك الحكومة وهي تواجه كل هذه الأزمات. ويعتمد هؤلاء على تصريح نسب إلى مكتب رئيس الوزراء أنه هدد بقطع العلاقة مع إيران وتركيا إذا ما استمرت هاتان الدولتان في قطع المياه عن العراق. وإذا كان حقاً أصدر مكتب رئيس الوزراء مثل هذا التهديد، أعتقد أنه خطأ، إذ ليس من صالح العراق اللجوء إلى تهديد من هذا النوع. على أي حال، استغل البعض هذا التصريح (إن صح) وراحوا يحرضون الحكومة على تنفيذه. والسؤال هو: هل العراق بوضعه المأساوي الحالي، والاختراقات داخل مؤسسات الدولة، من الحكمة أن تعلن الحكومة العداء لدول الجوار والتهديد بمقاطعتها؟

قد يعترض البعض بالقول أنه لماذا يجوز للمالكي أن يفضح سوريا في دعمها للإرهاب ولا يفعل ذلك ضد إيران والسعودية وهما حليفتان لسوريا وتدعمان الإرهاب؟ الجواب هو أن المالكي لم يتهم سوريا بدعم الإرهاب، بل كل ما عمله هو مطالبة سوريا بتسليم البعثيين العراقيين المقيمين في أراضيها من الذين يخططون الإرهاب في العراق ويموِّلونه، مقابل قائمة طويلة من الاتفاقيات الاقتصادية المغرية في صالح سوريا. ولكن الرئيس السوري رفض كل ذلك وهو الذي أعلن هجومه على المالكي. وعليه، ورغم علمنا بدور دول الجوار (إيران وسوريا والسعودية) بدعم الإرهاب في العراق، ومحنة شح المياه، إلا إننا نعتقد أن وضع العراق لا يساعد على معاداة ومقاطعة كل هذه الدول، لأن ذلك يزيد من تعنت هذه الدول في تقديم المزيد من الدعم للإرهاب، والمحصلة النهائية ليست في صالح العراق، فهذه هي السياسة (فن الممكن) أي مواجهة هذه المشاكل مع دول الجوار بالصبر والحكمة والدبلوماسية. وبدلاً من مواجهة هذه الدول نعتقد من الأفضل اللجوء إلى الأمم المتحدة ومطالبتها في التحقيق بالإرهاب وحماية الشعب العراقي، وبذلك يتم فضح هذه الدول عن طريق الأمم المتحدة. كما ونؤكد أن غرض الذين يطالبون الحكومة بمقاطعة دول الجوار ومعاداتها ليس من باب الحرص على مصلحة العراق، بل لخلق المزيد من المشاكل للحكومة وإرباكها، ثم التشهير بفشلها، تمهيداً لإسقاطها.

كما ويتخذ هؤلاء من هذه الكوارث مناسبة للمطالبة بعودة الضباط البعثيين لاحتلال المواقع الأمنية الحساسة في الدولة بحجة أنهم أصحاب خبرة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، خرج علينا السيد وفيق السامرائي بمقال يتهجم فيه بصراحة على المالكي ويدعو إلى عودة رجال الأمن البعثيين، إذ قال لا فظ فوه: (... وعجز المالكي وفريقه الدعوي عجزاً فظيعاً عن الوصول إلى حلول ولو نسبية للمعالجة). إن الكاتب يلقي اللوم على المالكي وفريقه الدعوي، والمقصود بـ(فريقه الدعوي) هو (حزب الدعوة) الذي يتزعمه السيد نوري المالكي.
لست إسلامياً ولا من فريق السيد المالكي "الدعوي" ولا من أي فريق متنافس في السلطة أو عليها! ولكني ضد من يريد التصيد بالماء العكر وخلط الأوراق ونشر البلبلة الفكرية وإبعاد الأنظار عن المجرمين الحقيقيين وإلقاء التهمة على الآخرين الأبرياء، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، وأرفض أن أكون شيطاناً وتحت أية ذريعة. 

أعتقد أن السيد وفيق السامرائي، وبمقاله هذا، فضح طائفيته وانحيازه الى البعث، ولا غرابة في ذلك وهو الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية في عهد صدام، ويبني الآن مصداقيته لكونه عارض صدام (إن حقاً أو زيفاً)  قبل سقوطه. والسؤال الذي أود طرحه على السيد وفيق السامرائي وأمثاله ومن روَّج لمقاله، هو: هل حقاً أن حزب الدعوة هو المسؤول عن الملف الأمني في البلاد لأن زعيمه هو رئيس للحكومة؟ وهل السيد عبدالقادر جاسم العبيدي، وزير الدفاع، والسيد جواد البولاني، وزير الداخلية، هما من حزب الدعوة، خاصة والأخير هو من ألد خصوم المالكي؟ وهل العبيدي والبولاني غير مسؤولين عن الأمن؟ ولماذا لا يتحمل كل مسؤول في الحكومة قسطه من المسؤولية وحسب مجال وزارته؟ ففي الدول الديمقراطية إذا حصلت هكذا مجزرة ناتجة عن تقصير المسؤولين، فإن أول من يحاسب هو وزير الداخلية وطاقمه، فلماذا يركز هؤلاء حملتهم على حزب الدعوة وحده في الملف الأمني ولا ينتقدون ولو بإشارة خفيفة إلى دور  الآخرين المسؤولين الفعليين عن الأمن مباشرة بحكم مناصبهم الحساسة؟

كما واتخذ بعض زعماء الكتل السياسية هذه الكارثة مناسبة لفضح حقيقتهم وهي تهالكهم وتهافتهم على منصب رئاسة الحكومة وبأي ثمن، خاصة من المتعاطفين مع البعث الساقط. فهاهو السيد أياد علاوي خرج علينا وكما عودنا بعد كل مجزرة، بمطالبة المالكي بالاستقالة. طيب وماذا بعد الاستقالة؟ ومن هو المرشح الأفضل لرئاسة الوزراء، خاصة ولم يبق من هذه الدورة سوى ثلاثة أشهر؟ طبعاً يقول هؤلاء أن أفضل مرشح هو إما علاوي أو حليفه صالح المطلق، البعثي السابق، والمتعاطف علناً مع عودة البعث، وهو الذي صرح بأن الانتخابات القادمة ستجلب لهم 40 بعثياً، الرقم ذاته الذي كان يأمل به السيد طارق الهاشمي، النائب في المجلس الرئاسي، عندما نقض قانون الانتخابات، وتسبب في أزمة سياسية، وخرج منها بخفي حنين، ذارفاً دموع التماسيح على حقوق عراقيي المهجر!!! 
وبالعودة إلى مقال السيد وفيق السامرائي، فإنه يقترح علينا حلاً "علمياً ووطنياً" حسب مفهومه للعلم والوطنية، إذ طالب: بـ"... إعادة النظر بطريقة علمية ووطنية في موضوع ضباط الأجهزة الأمنية السابقة" يعني أنه يدعو "بطريقة علمية ووطنية" إلى عودة "ضباط الأجهزة الأمنية السابقة"، أي فلول صدام حسين. وهذا يعني وكما يقول المثل العراقي: (أعط الشحمة بيد البزون -القط). أليس هذا اعتراف ضمني من السيد السامرائي، من حيث يدري أو لا يدري، أن الذين يقومون بالعمليات الإرهابية هم "ضباط الأجهزة الأمنية السابقة" أنفسهم، وأن لسان حالهم يقول: (إما أن تسلموننا الأمن، وإلا سنواصل الإرهاب ضد الشعب العراقي). ولكن هل من الحكمة  تسليم أمن البلاد والعباد  بأيدي هؤلاء الإرهابيين "ضباط الأجهزة الأمنية السابقة" الذين استخدمهم صدام في اضطهاد شعبنا ونشر المقابر الجماعية وضحايا أحواض الأسيد، والآن يرتكبون وبمساعدة أتباع القاعدة، أبشع حرب إبادة ضد شعبنا؟

الخلاصة والاستناج:
1- ليس هناك أدنى شك أن البعث وحلفاؤهم من أتباع القاعدة هم وراء هذه المجازر، لأن ليس في العالم عصابة مجرمة تمارس هكذا قسوة ضد الشعب من أجل تحقيق أغراضها غير البعث والقاعدة. والبعثيون يعرفون حقارة أعمالهم هذه، لذلك ومنذ سقوط نظامهم، وسلسلة الجرائم التي ارتكبوها بحق الشعب، لم يصدروا أي بيان باسمهم، بل جميع البيانات التي أصدروها بعد كل مجزرة كانت باسم القاعدة أو أسماء منظمات وهمية تحمل أسماء أسلامية.
2- أما من المسؤول عن حماية الشعب من الإرهاب، فالجميع يتحملون المسؤولية، من رئيس الوزراء وأعضاء الحكومة والبرلمان وجميع القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني دون استثناء.
3- إن المطالبة بتسليم الملف الأمني بأيدي الأجهزة الأمنية السابقة، وشمول البعثيين بالعملية السياسية باسم المصالحة الوطنية، هي مؤامرة بعثية خبيثة حيكت بكل دهاء وخبث وإتقان. إذ هناك خطورة  كبيرة أن يقوم هؤلاء البعثيون بعد تثبيت أقدامهم في معظم مفاصل الدولة، وخاصة الأمنية والقوات المسلحة، بانقلاب مسلح ضد الحكومة الديمقراطية وإلغاء كل ما تحقق للشعب العراقي من مكاسب، وإعادة كل شيء إلى ما قبل 2003. وبعد كل هذه التضحيات يقول العراقيون: (تيتي تيتي مثل ما رحتي إجيتي!!).

Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق