بقلم: د. وسيم السيسى |
قالت والدموع تترقرق فى عينيها: إنى جاهلة أشد ما يكون الجهل.. جاحدة أشد ما يكون الجحود ونكران الجميل! أنت تعرف أنى ورثت ثروة طائلة عن جدى.. كما تعلم أنه.. ترك لى قصراً.. تحفة معمارية رائعة.. مليئة باللوحات والتماثيل! ولكن أروع ما فى هذا القصر.. مكتبة.. بها آلاف الكتب.. ومئات الآلاف من الأوراق.. ولكنها بنقوش وطلاسم.. لم أفهم منها شيئاً..! جاءنى رجل وادعى أنه خال لى منذ زمن بعيد..! وقال لى: جدك هذا جمع ثروته هذه من مال حرام لأنه كان كافراً عابداً لأوثان! وبنى قصره هذا بأن سخرنى أنا وعشيرتى فى بناء هذا القصر العظيم! كان رجلاً ظالماً لم تعرف العدالة له سبيلاً! كما قال لى: كان جدك جاهلاً... احتقر العلوم جميعاً، وقضى على الفلاسفة، واستخدم السحر والشعوذة فى شفاء الأمراض! احتقرت جدى، وكنت كل يوم ألعنه عشرات المرات، وحطمت تماثيله، وتاجرت فى بعضها، ومزقت كتبه وأوراقه، وكنت أستخدمها وقوداً للأفران! وما كان يدهشنى أن أناساً من بلاد أجنبية.. كانوا يزورون قصر جدى.. ويدفعون لى المال الوفير... كنت أعيش من خيره وألعنه..!! هل رأيت غباء يُشبه هذا الغباء؟! أو بجاحة تُشبه هذه البجاحة؟! كنت أعجب من هؤلاء الأجانب الذين كانوا ينظرون إلى فى إكبار وإجلال لأنى حفيدة هذا الجد العظيم! فكنت أنظر إليهم وأقول لنفسى: يا للبلهاء! وأنا البلهاء الغبية المغيبة عن حقيقة هذا الجد العظيم! كان الزلزال الكبير.. حين زار قصر جدى.. رجل فرنسى يُدعى جان فرانسوا شامبليون.. ودخل إلى مكتبة القصر.. وأخذ يقرأ ويقرأ.. وأخيراً قال لى: يا لك من حفيدة ليس مثلها حفيدة فى العالم كله! أن تكونى حفيدة هذا الجد.. الذى يتداعى الخيال ويسقط بلا حراك تحت أقدامه! هل قرأت ما تركه لك؟ قلت: لا أعرف لغته! قال: أنت لا تستحقين أن تكونى حفيدته! ولكنى سأعلمك كيف تقرئين ما تركه لك.. بل للبشرية جمعاء. وتعلمت وقرأت.. وكان هذا هو الزلزال الكبير الذى زلزل كيانى كله.. عرفت أن خالى.. ليس بخالى.. إنما هو راعى غنم.. خدعنى وكذب علىَّ حتى صدقته.. عرفت أن جدى.. هو أول من علم هذا الكذاب أن هناك حياة بعد هذه الحياة، وأن هناك عدالة اسمها ماعت، وأن هناك حساباً، وثواباً، وعقاباً... وأن هناك جنة وناراً، وكان هذا الخال الكاذب يؤمن بأن الأرواح تذهب إلى أرض الظلمات.. أرض «شيول». عرفت أن جدى كان أول من وضع قانوناً للأخلاق أسمى بكثير من قوانين هذا البدوى «برستد» كما أنه كان أول من وضع قانوناً لحقوق الإنسان «حور محب». عرفت أن جدى كان رياضياً بارعاً، وفلكياً موهوباً، وطبيباً أجرى الجراحات ووصف الدواء على أسس علمية صارمة. عرفت أن جدى هو أول من اكتشف الشعرى اليمانية وضبط بها السنة القمرية وحولها إلى سنة شمسية ٤٢٤١ ق.م. عرفت أن جدى كان فناناً مرهف الحس.. وضع السلم السباعى للموسيقى، وعلم أفلاطون الفلسفة.. حتى قال أفلاطون: ما من علم لدينا إلا وقد أخذناه من هذا الجد العظيم. كان جدى يقول لنائبه: اعلم أن الماء والهواء.. سينقلان إلىَّ كل ما تفعل فى الخفاء.. ليكن نبراسُك ماعت (العدالة). عرفت أن جدى كان طبيباً ماهراً، حين زارنى فى القصر وارن داوسن وقال لى: العلوم جميعاً خاصة الطب.. جاءت من جدك العظيم.. قرأت وقرأت فيما كتبه جدى.. فعرفت أن الله أرسل له إدريس وقد كان نبياً ورسولاً.. كما أرسل له لقمان والخضر.. لذا لم أجد كلمة جديدة عند هذا الخال لم يقلها جدى.. بل أخذ هذا الخال حكم أمنوبى.. وقصة الأخوين، ونسبها لنفسه (برستد - فجر الضمير ص ٣٠٣). ما أشد حيائى من نفسى.. وإنى أحاول أن أجد الأعذار لخديعتى وجهلى.. فلا أرى أنها تغنى عن الحق شيئاً..! هذا الحق هو أنى ساذجة أشد ما تكون السذاجة.. عقلى فى أذنىَّ كالببغاء.. صدقت هذا الكاذب وأسأت إلى هذا الرجل العظيم. أجهشت صاحبتى بالبكاء.. ونظرت إلى يديها.. وقالت: طالما دمرت من تراثك يا جدى الحبيب.. لست أدرى.. إذا كان ما تبقى من العمر يكفى لأغسل يدىَّ من هذا العار أم لا؟! ولكنى أعدك أيها الجد العظيم أن ما بقى من العمر هو لك وحدك. نقلا عن المصري اليوم |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا |
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا |
تقييم الموضوع: | الأصوات المشاركة فى التقييم: ١ صوت | عدد التعليقات: ٢ تعليق |